عند التمعّن في موقع سورة الكهف من القرآن، نجد أولاً أنها تقارب أن تنتصف القرآن من ناحية صفحاته. ثم ...

عند التمعّن في موقع سورة الكهف من القرآن، نجد أولاً أنها تقارب أن تنتصف القرآن من ناحية صفحاته. ثم نلاحظ أن الجزء الخامس عشر انتهى فيها بالآية (74)، ليبتديء الجزء السادس عشر في الآية (75) من السورة نفسها، وعليه فقد انتصفت فيها أيضًا أجزاء القرآن الثلاثون. ثم نجد فيها أنه بحرف "النون" في قوله تعالى " نُّكْراً " من الآية (74): " فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً " قد انتصف عدد حروف القرآن، ليكون حرف الـ"الكاف" من الكلمة نفسها هو بداية النصف الثاني من حروف القرآن. ثم نجد أيضًا أن عدد الآيات التي روت لنا القصص اليتيمة الثلاث يساوي بالضبط (57) آية كريمة، وهو ما يعادل نصف سور القرآن.
ثم نجد أن هذه السورة الكريمة توسّطت أيضًا السور الخمس التي افتتحت بثناء الله تعالى على نفسه وذاته الكريمة بقوله سبحانه: ((الحمد لله))، وهي سور: الفاتحة (1)، الأنعام (6)، الكهف (18)، سبأ (34)، وفاطر (35). ثم إن اسمها من بعد ذلك ومن قبل سورة الكهف، والكهف يقع في قلب الجبل، فحريّ بها أن تقع إذن في قلب القرآن لأنها سورة الكهف.
ففي هذه المناسبات الجليّة وغيرها دلالات لطيفة، اتخذت منها سورة الكهف موضعًا يتّصف بالـ"الوسطيّة" في كثير من الجوانب العددية. والعلّة من ذلك، والله أعلم، أن الوسط بطبيعة الحال دائمًا محميّ الأطراف ومحفوظ. لأنه يشكّل المنزل الأوقى والموضع الأقوى من حيث أنه محروس ومحميّ بما حوله، فهو يمثّل الأمان والبعد عن المخاطر، في حين أن الأطراف هي التي تتعرّض عادة للخطر والفساد.
وفي هذا قال الشاعر:
كانت هي الوسطَ المحميَ فاكتنفت ----- بها الحوادث حتى أصبحت طرفًا
فالوسط يشير دائمًا إلى الأمن والاستقرار ويشكّل في الوقت نفسه مركز القوة. فأشعة الشمس مثلاً لا تكون أقوى تأثيرًا وإضاءة وحرارة إلا في وسط النهار وفي وسط قبّة السماء، ولا يكون الإنسان في أقوى حالاته إلا في شبابه وهو وسط بين ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة. والوسط يمثّل أيضًا نقطة الوحدة ومركز التلاقي، فقد تتعدّد الأطراف تعدّدًا لا يتناهى ويبقى الوسط واحدًا يمكن لكل الأطراف أن تلتقي عنده، فهو المنتصف وهو المركز.
والوسطية تعني أيضًا استقامة المنهج، والبعد عن الميل والإنحراف. فالصراط المستقيم هو الطريق السويّ الواقع وسط الطرق المنحرفة عن القصد، فإذا فرضنا خطوطًا كثيرة واصلة بين نقطتين متقابلتين فالخط المستقيم إنما هو الخط الواقع في وسط تلك الخطوط المنحنية، وهو وسطها وأقصرها إلى الهدف.
ومن ثم فإن الوسطية في الإسلام تعني الخيريّة والفضل والتميّز في الأمور المادية والمعنوية، فأفضل حبّات العقد واسطته، ورئيس القوم في الوسط والأتباع من حوله. وقال أحد الحكماء: الفضيلة وسط بين رذيلتين، وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى "وكذلك جعلناكم أمة وسطًا": الوسط هنا الخيار والأجود، كما يقال قريش أوسط العرب نسبًا، أي خيرها، وكان عليه الصلاة والسلام وسطًا في قومه أي أشرفهم نسبًا ..
ولذلك نجد من المعاني التي تمّ ذكرها، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد خصّ هذه السورة الكريمة بهذه المزايا والصفات الدالّة على الوسطيّة، كإشارة لطيفة إلى أن من حفظها حُفظ من الدجال، كما أنها محفوظة في وسط القرآن.
ونلفت الانتباه هنا إلى أن هذه الإشارة ليست من الهوى والخيال، والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى عندما تكلّم عن وسطيّة هذه الأمّة في آية البقرة بقوله عزّ وجلّ: " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً "، وجدنا أن رقم هذه الآية في السورة هو (143)، مع العلم أن سورة البقرة تعدّ (286) آية كريمة. فذكر الله تعالى آية الوسط في وسط سورة البقرة.
إذن أن توضع سورة الكهف في هذا المكان أيضًا إشارة إلى ما تقدّم من معاني. واستنادًا إلى ما ذكرنا من عطايا الإيمان فيما سبق، تكون هذه السورة الكريمة بمثابة عصمة وحفظ من كل دجل الدجاجلة، وليس من دجل الدجّال الأكبر وحده. بل من كل تدجيل المدنيات والحضارات والثقافات والكذبة من رؤوس الشرّ في هذه البشرية، لأن دجل الدجاجلة جميعًا يستغلّ إما ضعف العقل أو ضعف الإيمان أو ضعف الإرادة أو الضعف المادي. أما من كان قويًا في عقله وإيمانه ومتدرّعًا في أسباب النصر، فأنّى أن يكون للدجاجلة عليه سبيل؟
فكأن القرآن عرض لنا هذه العطايا في هذه القصص لكي يدلّ على أن من تحفّظ بها، فقد عُصم وحُفظ من كل أشكال الدجل بشكل عام، ومن الدجّال الأكبر بشكل خاص.يتبع ..
ـ[الضاد1]•--------
جزاك الله خير الجزاء على هذه اللفتات والوقفات القيمة أخانا لؤي
هل هناك فرق بينم الوسْط بسكون السين و الوسَط بفتح السين؟
وبالسبة للوسطية في (((وَجَعَلْناكُم أُمَّةً وَسَطاً))): فهي العدل أياً كان موضعها (أي الوسطية) في المنتصف أو على الأطراف ..
والله تعالى أعلى وأعلم
بانتظار ردكم الكريم(يُتْبَعُ)