لما رأى الشيطان قلة موافقته على جحد الصانع لكون العقول شاهدة بأنه لابد للمصنوع من صانع؛ حسّن لأقوام ...

لما رأى الشيطان قلة موافقته على جحد الصانع لكون العقول شاهدة بأنه لابد للمصنوع من صانع؛ حسّن لأقوام أن هذه المخلوقات فِعل الطبيعة.
و قالوا : ما من شيء يُخلق إلا من اجتماع الطبائع الأربع فيه.
هؤلاء هم الطبائعيون؛ نسبة إلى الطبائع الأربعة : التراب و الماء و النار و الهواء، و يعتقدون أنها أصول كل شيء، و دل على أنها الفاعلة.

قلتُ: اجتماع الطبائع دليل على وجودها لا على فعلها، ثم قد ثبت أن الطبائع لا تفعل إلا باجتماعها و امتزاجها ،و ذلك يخالف طبيعتها؛ فدل على أنها مقهورة.

سلّموا أنها ليست بحية و لا عالمة و لا قادرة، و معلوم أن الفعل المتسق المنتظم لا يكون إلا من عالم حكيم ،فكيف يفعل من ليس عالما و ليس قادرا ؟!
فإن قالوا : و لو كان الفاعل حكيما لم يقع في بنائه خلل، و لا وُجدت هذه الحيوانات المضرة فعُلم أنه بالطبع.
قلنا : ينقلب هذا عليكم بما صدر منه من الأمور المنتظمة المحكمة التي لا يجوز أن يصدر مثلها عن طبع، فأما الخلل المشار إليه فيمكن أن يكون للإبتلاء و الردع و العقوبة، أو في طيه منافع لا نعلمها.
ثم أين فعل الطبيعة من شمس تطلع في نيسان على أنواع من الحبوب فترطب الحصرم و الخلالة و تنشف البرة و تُيبسها، و لو فعلت طبعا لأيبست الكل أو رطّبته؟!
فلم يبق إلا أن الفاعل المختار استعملها بالمشيئة في يُبس هذه للإدخار و النضج في هذه للتناول.
و العجب أن الذي أوصل إليه اليُبس في أكنه لا يلقي جرمها، و الذي رطبها يلقي جرمها.
ثم هذه الشمس نفسها تُبيض ورد الخشخاش و تُحمر الشقائق و تُحمض الرمان و تُحلي العنب، و الماء واحد.
و قد أشار المولى عز و جل إلى هذا بقوله :" تُسقى بماء واحد و نفضل بعضها على بعض في الأُكل".