. . . . . . . . . . . . . . . فمن صفات أمين الأسرار أن يكون ذا عقل ودين ونصح مروءة، ...

.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
فمن صفات أمين الأسرار أن يكون ذا عقل ودين ونصح مروءة، فإن هذه الأمور تمنع من الإذاعة وتوجب حفظ الأمانة، ومن كملت فيه فهو عنقاء مغرب، ولا تودع سرك عند من يستدعيه فإن طالب الوديعة خائن. قال صالح بن عبد القدوس: لا تودع سرك لطالبه منك فالطالب للسر مذيع.
الباب الرابع والثلاثون: في بيان الخصلة التي يصلح عليها الأمير والمأمور وهي رهين من سائر الخصال وزعيم بالمزيد من الآلاء والنعماء من ذي الجلال والإكرام وهي الشكر
قال الله تعالى حكاية سليمان بن داود عليهما السلام، وقد آتاه الله تعالى ملك الدنيا والجن والإنس والطير والوحش و {الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} (صّ: 36)
فلما استمكن ملكه قال صلى الله عليه وسلم: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} (النمل: 40) فما عدها نعمة كما عدها ملوك الأرض، ولا حسبها كرامة من الله تعالى عليه كما ظنها ملوك الأرض، بل خاف أن تكون استدراجاً من حيث لا يعلم كما قال الله تعالى في أمة أراد هلاكهم {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ*وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (الأعراف183: 182)
جاء في التفسير: أصب عليهم النعم وأنسيهم الاستغفار، وإنما الفرح بما أوتي من الدنيا والغبطة بزهوتها والاغترار بزبرجها من شعار الكفار، ألا ترى إلى قول قارون اللعين: إنما أوتيته على علم عندي فكان جزاؤه ما قال الله تعالى {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} (القصص: 81) ولما خاف سليمان عليه السلام أن يكون استدراجاً كان جوابه ما قال الله تعالى {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (صّ: 39)
واعلم أرشدك الله أن الشكر ليس هو حافظ النعم فقط، بل هو مع حفظه لها زعيم بزيادة النعم وأمان من حلول النقم. والشكر على ثلاث مراتب: شكر بالقلب وشكر باللسان وشكر بالجوارح. فأما الشكر الواجب على جميع الخلق فشكر القلب، وهو أن تعلم أن النعمة من الله تعالى وحده، وأن لا نعمة على الخلق من أهل السموات والأرض إلا بداءتها من الله تعالى، حتى يكون الشكر لله تعالى عن نفسك وعن غيرك، بمعرفة إنعام الله تعالى عليك وعلى غيرك. وهذا النوع هو الذي يقال فيه: يجب على العبد أن يشكر الله تعالى على نعم أسديت إلى غيره.
.
وعده. وقال قوم: معناه لأزيدنكم نعم الآخرة. فإن قيل: إنما تكون الزيادة من جنس المزيد عليه. فأجابوا: بأن النعم الدنيوية والأخروية وإن تفاضلت واختلفت كلها متجانسة من حيث أنها نعمة. وقال قوم: معناه لأزيدنكم خيراً، والخير والصلاح قد يكون في كثير من الأوقات بالمنع والسقم ونحوهما، فإن من سأل الله تعالى أن يعطيه مالاً أو يصح جسمه، وهو يعلم أنه إن وهبه المال أنفقه في المعاصي، أو وهبه الصحة وصرف صحته إلى المشي في الآثام، فالمنع ههنا موهبة من الله جزيلة. ومن ههنا قالت العلماء: منع الله تعالى عطاء.
وقال قوم: يمكن تقدير الاستثناء فيها لئن شكرتم لأزيدنكم إلا أن تعصوا فأعاقبكم بالحرمان فأجعل ذلك كفارة لكم، وهو أصلح من أن أعاقبكم في الآخرة، والناس لا يسلمون من الذنوب، ولو تهيأ أن يسلموا من الذنوب لدرت الزيادات. قال الله تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (المائدة: 66) وقال تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً*يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً*وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} (نوح: 10-12) وقال قوم: الآية خاصة لا محالة إذ لو كانت على عمومها لوجب أن لا يموت من يشكر الله تعالى على الحياة.
قال الشيخ: قلت إن الله تعالى وعد الزيادة وقوله الحق، وقد جعل العبادة علامة يعرف بها الشاكر، فمن لم يظهر عليه المزيد علمنا أنه لم يشكر، فإذا رأينا الغنى يشكر الله تعالى بلسانه وماله في نقصان، علمنا أنه لم يشكر بل قد أخل بالشكر الذي أخذ عليه، إما لا يزكيه أو يزكي لغير أهله أو يؤخره عن وقته أو يمنع حقاً واجباً عليه فيه، من كسوة عريان أو طعام جائع وشبهه، فيدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو صدق السائل ما أفلح من رده. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد: 11) . إذا غيروا ما بهم من الطاعات غير الله تعالى ما منه من الإحسان، وإذا كان قوم في العافية فإن الله تعالى لا يغير ما بهم حتى يغيروا ما بأنفسهم يترك أدب أو إخلال بحق أو إلمام بذنب، كما قال بعضهم: أدنى الشكر أن لا يعصي الله تعالى بنعمه، وإن جوارحك كلها من نعم الله تعالى عليك فلا تعصه بها.
ويحتمل أن يكون معنى الآية لئن شكرتم لأزيدنكم إن شئت ألا ترى أنه قال: من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها، وكثير من الخلق يريدون حرث الدنيا ولا يؤتونه، فيكون التقدير نؤته منها لمن نشاء، بدليل قوله في الآية الأخرى: عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد وهكذا قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60) ثم إن كثيراً من الناس يدعون فلا يستجاب لهم ولكن معنى الآية أستجب لكم إن شئت ولمن شئت، بدليل قوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} (الأنعام: 41) . وهذا من باب حمل المطلق على المفيد. قال الجنيد: كنت بين يدي السري وأنا ابن تسع سنين، وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر فقال لي: يا غلام ما الشكر؟ فقلت له: أن لا يعصى الله عز وجل بنعمه. قال: يوشك أن يكون حظك من الله لسانك. فلا أزال أبكي على هذه الكلمة. فإن قيل: ما معنى قوله {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} (النحل: 18) . وما يحصل من الأفعال في الوجود يمكن احصاؤه؟ قلنا نعم الله على وجهين دفع ومنع، فالمنع يمكن إحصاؤه ودفع البلايا نعم لا يمكن إحصاؤها، وما يدفع الله عنهم مما في مقدوره من ذلك وما يدفع الله تعالى عن العبد لا يحصى.
فصل:
ثم عدنا إلى أقوال العلماء والحكماء في الشكر
* فقال بعض الحكماء: موضع الشكر من النعمة موضع القرى من الضيف، إن وجده لم يذم وإن عدمه لم يقم.
وأجمعت حكماء العرب والعجم على هذه اللفظة فقالوا: الشكر قيد النعم. وقالوا: الشكر قيد الموجود وصيد المفقود.
وقالوا: مصيبة وجب أجرها خير من نعمة لا يؤدى شكرها.
* وقال بعض الحكماء: من أعطى أربعة لم يمنع أربعة: من أعطى الشكر لم يمنع المزيد، ومن أعطى التوبة لم يمنع القبول، ومن أعطى الاستخارة لم يمنع الخيرة، ومن أعطى المشورة لم يمنع الصواب.