الإسلام في مواجهة العواصف الردَّة قبيل وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم انتشر الإسلامُ في جزيرة ...

الإسلام في مواجهة العواصف
الردَّة

قبيل وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم انتشر الإسلامُ في جزيرة العرب، وعمَّ أرجاءَها، وتحقَّقتْ له الهيمنةُ السياسيَّة على القلب والأطراف، وبدأت هيمنتُه الدينيَّة هي الأخرى تأخذ طريقَها إلى قلوب النَّاس لولا أنْ عاجلتِ المنيَّةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؛ فإذا جموع كثيرة تنفض الإسلامَ عن كاهليها، وتنتكسُ على أعقابها، وتريد أن تعود سيرتَها الأولى قبلَ الإسلام، وانقلبوا على المسلمين الذين لم يُجيبوهم إلى الشراكة في أمر الردَّة؛ فقتلوهم وذبحوهم، وفعلوا بهم أشنعَ المنكرات؛ كما فعل مسيلمةُ الكذَّاب الحنفيُّ مع المسلمين من بني حنيفة، وطلحةُ بن خويلد الأسدي مع قومه وغيرهم!

وجموع ثانية تريد أن تؤمِن بإسلامٍ منقوص؛ تؤدِّي فيه ما تريد، وتَمنعُ ما تريد، على حسب هواها ورغبتها! يقولون: نؤدِّي الصلاةَ ولا نؤدي الزَّكاةَ، وبعض هؤلاء اعتبرها جِزية أو ضريبة، وسمَّى دفعها عارًا!

وجموع ثالثة راحت تَتبع بعضَ المعتوهين مِن مدَّعي النبوَّة، الذين حسبوا أمرَ النبوة دعوى تُدَّعى، وجموعًا تتبع، وأرضًا تُحاز، وهؤلاء وهؤلاء ليسوا مِن الأولين ببعيد؛ فهم يشتركون جميعًا في نهايةٍ واحدة، ألا وهي الرِّدة عن الإسلام، ولم يبقَ حينها على الإسلام إلا المدينةُ المنورة - عاصمة الإسلام - ومكَّة والطائف وقرية جُواثَى بالبحرين، حتى بدا الوضع وقتها أنَّ الدولة الإسلاميَّة قد انهارت بموت مؤسِّسِها صلى الله عليه وسلم، بل الرِّسالة قد انقضَتْ بانقضاء حياته، ووداعًا من يومئذٍ على الإسلام والمسلمين.

لقد جرؤ الأعرابُ على عاصِمة الإسلام، وأرسلوا رُسلَهم إلى خليفة المسلمين أبي بكر الصدِّيق يُملون عليه شرطهم؛ وهو أن لا تُطالبهم الدولةُ المسلمة بالزَّكاة، فهم لن يؤدُّوها لهم؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد مات، وهو الذي كان يأخذها منهم! وهذا الشَّرط في مقابل أن يرفع هؤلاء أيديَهم عن المدينة، ولا يهاجموها مع سائر المرتدِّين!
* قد باتت عاصمةُ الإسلام في خطر إذًا!

مِن أجل ذلك كله؛ سارَع الصحابةُ رضوان الله عليهم إلى الخليفة يَودُّون منه أن يأخذ جميعَ الاحتياطات اللازمة لحِماية المدينة مِن الغارات المتوقَّعة، وكان في اقتراحاتهم له:
• تأجيل بَعث جيش أُسامة الذي أعدَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الرُّوم لتأمين حدود الدولة الإسلاميَّة في الشمال.
• سحب قيادة الجيش مِن أسامة وتولية غيره يكون أقدم منه سنًّا وأكثر خِبرة.
• قبول سفارة الأعراب، ريثما يُقضى على المرتدِّين أولًا؛ وفي ذلك تحييد لبعض العدوِّ، وتخفيف ضغط الأزمة بعض الشيء.

وقد استمع أبو بكرٍ رضي الله عنه إلى مَطالبهم تلك، ثمَّ أجابهم عليها جميعًا بالرَّفض:
• فلَم يَقبل أن يَحبس جيشَ أسامة؛ لأنَّه لن يحبس جيشًا أطلقه رسولُ الله، وقال: "والله لا أحلُّ عقدةً عقدها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولو أن الطَّير تخطفنا، والسِّباع من حول المدينة، ولو أنَّ الكلاب جرت بأرجل أمَّهات المؤمنين، لأجهزنَّ جيشَ أسامة"[1].
• ولم يقبل أن يفكَّ عقد لواء القيادة عن أُسامة؛ لأنَّه لن يفكَّ عقدًا عقده رسولُ الله، وقال: "استعمله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وتأمروني أن أنزعه؟!"[2]، "واللهِ لا أحلُّ عقدة عقدها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم"[3].
• ولم يقبل قولَهم في مفاوضة الأعراب؛ لأنَّه لن يقبل مِن الأعراب التفريق بين أركان الإسلام يؤمنون ببعضٍ ويكفرون ببعض، قائلًا: "واللهِ لأُقاتلَنَّ مَن فرَّق بين الصَّلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حقُّ المال، والله لو مَنعوني عقالًا كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله لقاتلتُهم على مَنعه"[4]، ثمَّ قال رضي الله عنه وأرضاه: "واللهِ لو خالفتني شِمالي لقاتلتُها بيميني"[5]، وقال أيضًا: "أقاتلهم وحدي حتى تُقطع رقبتي"[6].

كانت كلمات الخليفة كاشِفة بحسم عن مَوقفه النِّهائيِّ، ولا يجدي معها النِّقاشُ أو المراجعة، وكان على الجميع البدءُ في التفكير في النقطة الأهمِّ: كيف يصدُّون العدوان المرتقب على المدينة؟

أنفذ الصدِّيقُ جيشَ أسامة، فكان ذلك أوَّل أسباب انفراج الأزمة؛ إذ نظرت الجموعُ المتربِّصة بالدولة المسلمة في أمر الجيش، فرجَّحتْ أنَّه لا يَخرج إلا عن قوَّة مِن المدينة، ولا يخرج في هذه الأجواء إلَّا وقد ترك وراءه قوَّة مثلَه أو أكثر، والحقيقة أنَّ المدينة كانت خاوية خالية ليس فيها إلَّا عدد محدود، لكنَّها بركة طاعة رسول الله في العمل بأمره وتنفيذ وصيَّتِه، جعلت المرتدَّين يَرتبكون، فيعيدون حساباتهم، ويَنظرون في أمرهم، ويتلجلجون تجاه الموقف الذي يتَّخذونه حيالَ الأمور من حولهم!

يقول ابن كثير: "فساروا لا يَمرُّون بحيٍّ مِن أحياء العرب إلَّا أرعبوا منهم، وقالوا: ما خرج هؤلاء مِن قوم إلَّا وبهم مَنَعَة شديدة، فغابوا أربعين يومًا، ثم آبوا سالِمين غانمين، ثم رجعوا، فجهَّزهم حينئذٍ مع الأحياء الذين أخرجهم لقِتال المرتدة، ومانعي الزَّكاة"[7].

لم يلبث المرتدون في حيرتهم تلك إلَّا ريثما أتتهم رسائلُ خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم تتهددهم وتتوعَّدهم، فزادتهم حيرة واضطرابًا، فأربكت صفوفَهم أكثر وأكثر، ثمَّ بعث الصدِّيقُ إلى الجموع الصامدة الثابتة في جهات هؤلاء المرتدِّين وقبائلهم، يحضهم على الثَّبات ويبشِّرهم بالنَّصر، ويدعوهم إلى اللحوق به في المدينة، وقد حصل ما أراد الصِّديقُ، فأتت الجموعُ تزحف إلى المدينة من كلِّ مكان.

نجحتِ الحربُ النفسيَّة التي خاضها الصدِّيق بجَدارة:
ثبَّت أهلَ المدينة بثباته وكلماته، وأرعب أعداءَه، وجمع شتاتَ مؤيِّديه في العاصمة، فكانت منهم جموع غفيرة استطاع الصدِّيقُ أن يكوِّن منهم أحد عشر جيشًا يبعثهم في كلِّ الجهات التي خرجت منها الرِّدَّة، وقد عادت هذه الجيوش إلى المدينة بالنَّصر في كلِّ المواقع، ومع النَّصر الثَّبات الذي ران على الجزيرة كلِّها؛ إذ لم يبقَ في الجزيرة العربية مرتدٌّ واحِد، وقد استقرَّ الحال فيها إلى الأبد، فلم يُعلم أن خطرًا مثله كبيرًا أو صغيرًا قد تكرَّر بعدها؛ بل اتَّجهتْ تلك الجزيرة عن بَكرة أبيها لتنشر دعوتَها، وترفع رايتها، وتوسِّع أرضها في الدنيا كلها.

سبحان الله! ما أشدَّ التحوُّلَ وأخطَرَه، وما أسرعَه كذلك! سبحان الله الذي يقلِّب الأحوالَ كيفما يشاء؛ ﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [البروج: 16]، ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]، تأتي وفودُ العرَب مذعنةً منقادَة مُطيعة وبهذه الكثرة، حتى سمِّي العام التاسع (عام الوفود)، ثمَّ تنقلب الأحوال فيخشى مِن أن تأتي القبائلُ العربية للإغارة على المدينة المنورة عاصمة الإسلام[8]؛ بل قد جاءت للإغارة للقضاء - حسب زعمها الباطل - على الإسلام والمسلمين، ولا غرابة في هذا؛ فإنَّ مِن سنن الله الثابتة في الأمم أنَّ أيَّامها لا تبقى ثابتة على حالة؛ بل تتغيَّر وتتبدَّل، وقد أَخبر بذلك الذي يقلِّبُ الأيامَ ويصرفها عزَّ وجل بقوله: ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 140].

قال الرازي في تفسيره: والمعنى أنَّ أيَّام الدنيا هي دُول بين الناس، لا يدوم مسارها ولا مضارها، فيوم يحصل فيه سرور له والغمُّ لعدوِّه، ويوم آخر بالعكس من ذلك، ولا يبقى شيء من أحوالها، ولا يستقرُّ أثَر مِن آثارها[9].

وجاءت صيغةُ المضارعة ﴿ نُدَاوِلُهَا ﴾؛ للدَّلالة على تجدُّد سنَّة مداولة الأيام بين الأمم واستمرارها، وفي هذا قال القاضي أبو السعود: وصيغة المضارع الدالَّة على التجدُّد والاستمرار للإيذان بأنَّ تلك المداولة سُنَّة مَسلوكة بين الأمم قاطِبة سابقتها ولاحقتها[10]، وقد قيل: الأيام دول، والحرب سجال[11].

وقال الشاعر:
فيومٌ علينا ويومٌ لنا *** ويوم نُساءُ ويوم نُسَرّْ[12]

فالصدِّيقُ يعلِّم الأمَّةَ إذا نزلت بها الشدَّة، وألَمَّت بها المصيبةُ - أن تصبر؛ فالنَّصر مع الصَّبر، وألا تَيئس ولا تقنط مِن رحمة الله: ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 56]، وليتذكَّر المسلم دائمًا أن الشدَّة مهما عظُمتْ والمصيبة مهما اشتدَّت وكبرت، فإنَّ من سُنن الله الثابتة: ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 5، 6]، وإنَّ المسلم لَأَمره عجيبٌ في هذه الدنيا؛ فقد بيَّن رسولُ الله ذلك في قوله: ((عجَبًا لأمر المؤمن! إنَّ أمره كله خير، وليس ذلك لأحدٍ إلَّا للمؤمن؛ إنْ أصابَتْه سرَّاء شكَر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له))[13].

لقد أَلهم اللهُ تعالى الصدِّيقَ رضي الله عنه بعبقريَّته تلك المؤمنة أن يَثبت ويثبت المؤمنين للخروج بالإسلام مِن هذا المأزق الذي كاد أن يودي بالإسلام وأهلِه.
• فماذا لو لم ينفذ الصدِّيق جيشَ أسامة؟
الجواب: سيحدث مثلما حدَث في أُحد؛ معصية فهزيمة.

• وماذا لو لم يثبت الله تعالى الصديق؟
الجواب: لما رأيتَ ثابتًا بعده.

• وماذا لو مال الصِّديق إلى قَبول الهدنة مع الأعراب؟
الجواب: لطمع فيهم كلُّ مَن بأطرافها، وأيقنوا بأنهم ليسوا على شيء.

• وماذا لو لم يلهم الله الصدِّيقَ بهذه الخطة العبقريَّة التي هزمتِ الأعداء قبل أن تصِلهم السيوف والحراب؟
الجواب معلوم.
لقد أنقَذ اللهُ الإسلامَ بالصدِّيق - وهو رجل واحد - مِن خطَرٍ أحدق بالإسلام، لم يحدق به مثلُه مِن قبل، ولم يتكرَّر مثله مِن جنسه بعد، ولله درُّ أبي هريرة إذ يعبِّر عن دَور الصدِّيق في الخروج من هذا الموقف المتأزِّم فيقول: "واللهِ الذي لا إله إلَّا هو، لولا أن أبا بكر استُخْلِفَ، ما عُبِد اللهُ!"[14].

ألم أقل لك - عزيزي القارئ -: إنَّ الله ناصرٌ دينه، وغالبٌ على أمرِه؟
فثِق بالله وارضَ به، إنَّ الذي يَكشف البلوى هو الله، واللهِ ما للإسلام من أحد غير الله، فحسبه في كلٍّ له الله.

♦ ♦ ♦ ♦
مضى الإسلامُ بعد هذه العاصفة الهوجاء يشقُّ الطريقَ إلى العالميَّة، ويفتح القلوبَ في مشارق الأرض ومغاربها، ودانت له أرضُ وشعبُ أعظم إمبراطوريتين شهدهما تاريخُ ذلك الزمان (الفُرس والروم)، ومضت عشرون سنة أو يزيد قليلًا تُوِّجت مسيرةُ الإسلام خلالها بالانتصارات والفتوحات.
ثمَّ وقعت عاصفةٌ شديدة عَظيمة، جديدة مِن نوعها تمامًا، كادت أن تُهلك الإسلامَ وأهله، وصار لها أثَرٌ عظيم في مسيرته عبر التاريخ إلى يومنا هذا.
ويركز حديثنا القادم على تفصيل القول في هذه العاصِفة ومعرفتها.

[1] البداية والنهاية (9/ 424).
[2] تاريخ الطبري (4/ 46).
[3] البداية والنهاية (9/ 424).
[4] أخرجه مسلم (20).
[5] انظر: أحكام القرآن؛ لابن العربي (1/ 586).
[6] نفسه.
[7] البداية والنهاية (9/ 424).
[8] قصَّة بعث أبي بكر جيش أسامة (ص 18).
[9] تفسير الرازي (9/ 15)، تفسير القرطبي (4/ 218).
[10] تفسير أبي السعود (2/ 89)، روح المعاني؛ للألوسي (4/ 68).
[11] روح المعاني؛ للألوسي (4/ 68).
[12] تفسير القرطبي (4/ 218).
[13] أخرجه مسلم (4/ 2295)، سيرة الصديق؛ للصلابي (129، 130).
[14] البداية والنهاية (9/ 424).