اجتماعات الملأ لاحتواء الأزمة اجتمع فرعون بالملأ من حاشيته ورجال دولته في اجتماع استشاري، ليتباحث ...

اجتماعات الملأ لاحتواء الأزمة
اجتمع فرعون بالملأ من حاشيته ورجال دولته في اجتماع استشاري، ليتباحث معهم ما يجب عليهم فعله تجاه هذه الأزمة؛ وكانت الكلمة الأولى - كالعادة - لفرعون وقد بدا فيها تغيراً في طريقة إدارته للأزمات ﴿ قَالَ لِلْملأ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عليمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ الشعراء:35، فهو يُسلم أن الأرض أرضهم وليست ملكه كما يدعِى؛ وبما أن الأرض أرضهم، وموسى يريد أن يخرجهم من أرضهم بسحره، فالأمر إذاً أمرهم فماذا يرون؟ وبم يأمرون؟!
ولا تعجب! فهذا هو دأب الطغاة حينما يحسون أن الأرض تتزلزل تحت أقدامهم، عندئذ يلينون في القول بعد التجبر، ويلجئون إلى الشعوب وقد كانوا يدوسونها بالأقدام، ويتظاهرون بالشورى في الأمر وهم كانوا يستبدون بالهوى، ذلك إلى أن يتجاوزوا منطقة الخطر، ثم إذا هم جبابرة مستبدون ظالمون! .
فردد الملأ – بلا وعي– ما قاله فرعون بالحرف:﴿ قالَ الملأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عليمٌ ﴾ الأعراف:110، يقوم سحره على علم ومعرفة لعله تعلمها خلال السنوات التي قضاها في مدين ثم جاء ﴿ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ﴾ الأعراف:110، إذاً فقد أصبح مصدر خطر عظيم علينا وعلى مكانتنا ﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ ؟! الأعراف:110.
فعادوا إلى نقطة الصفر مرة أخرى؛ وذلك لأن فرعون لم يعودهم من قبل على اتخاذ أي قرار؛ فقد كان الأمر أمره والنهي نهيه وقوله لهم: ﴿ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ خروج على المألوف بينه وبينهم، فما اعتادوا أن يسمعوا منه غير كلمة واحدة: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ غافر:29، ولكنها الصدمة التي قلبت حياته وحياة من حوله.
توصيات الاجتماع
فقال أحدهم: أنا أرى ألا نتصدى لهما، ولا نعتدي عليهما حتى لا يتعاطف الناس معهما، ولكن رأيي المتواضع لجناب الفرعون هو ألا تقتله و﴿ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ ﴾ الأعراف:111، اتركهما بحريتهما إلى يوم الزينة ﴿ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عليمٍ﴾ الأعراف:111، وبهذا نكون أبطلنا سحراً بسحر مثله .
فهز فرعون رأسه بإبداء الموافقة على هذا الرأي، وكلف فريقاً مختاراً بعناية لمهمة جمع أمهر السحرة وحشرهم أمراً وجبراً إلى العاصمة ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عليمٍ ﴾ يونس:79، كما كلف أذرعه الإعلامية بعمل الدعاية اللازمة لجمع أكبر عدد من المصريين لحضور هذه المباراة بين موسى والسحرة.
جمع السحرة
وبدأ رجال فرعون على الفور بجمع السحرة، وبعد فترة قليلة بدأت حشودهم تتوافد على المكان المخصص لاستقبالهم في العاصمة المصرية، وليس مذكورا فيما اطلعت عليه من مصادر ما إذا كان المواطن المصري اندهش من عدم التكافؤ العددي فتساءل: ما الداعي لجمع هذه الحشود من السحرة المتخصصين لمواجهة رجليْن فحسب ؟!
المهم أن المكان عج بكثرة السحرة الذين قدروا بالآلاف(1)، وقد علموا أنهم سيواجهون رجلاً اسمه موسى يُخرج من عصاه ثعباناً ومن يده نوراً؛ فالرواية الرسمية التي تناقلتها وسائل الإعلام هي ظهور ساحريْن أثارا بعض المشكلات ويُتوقَّع أنهما قد يمثلان خطرا على استقرار البلاد، ورغبة من فرعون في الشفافية وإنهاء الوضع بصورة سلمية؛ فقد قررت الدولة إجراء مناظرة عامة بينهما وبين المتخصصين في هذا المجال، ومن هنا وقع في أنفسهم أنهما ساحرين مثلهم، وأنّهما إذا كانا على شيء من القوة بالنسبة لهم، فإن في جمعهم هذا ما يتغلب على كل قوة.
فراودتهم فكرة فقالوا: بما أننا سنخلص فرعون من هذين الساحرين، فما المانع أن نطالب بأجر إضافي؟ فاجتمعوا على هذا الرأي؛ وأرسلوا منهم من يطمئن فرعون بالنصر المظفر ويتفاوض معه على بعض العطايا بعد هذا النصر المتوقع ﴿ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ﴾ الشعراء:41.
وهكذا ينكشف الموقف عن جماعة مأجورة يستعين بها فرعون الطاغية تبذل مهارتها في مقابل الأجر الذي تنتظره، ولا علاقة لهم بعقيدة، ولا صلة لهم بقضية، بل لا يوجد شيء يشغلهم سوى الأجر والمصلحة؛ وهؤلاء هم الذين يستخدمهم الطغاة دائما لتزييف وعي الجماهير.
ولا يملك فرعون في هذا الموقف إلا أن يستجيب لهم، ويترضّى مشاعرهم، وقد كانوا من قبل هذا الموقف عبيداً مسخّرين رهن إشارة منه يعملون بلا أجر﴿ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ الشعراء:42، فليس المال فقط الذي سيبذله لهم إن هم انتصروا على موسى وأبطلوا كيده، ولكن لهم إلى جانب هذا المال الوفير الذي سيغدقه عليهم أن يقرّبهم إليه، ويدنيهم منه، ويجعلهم أعوانه، وأصحاب الكلمة والرأي عنده.