الإيمان يتسلل إلى قصر فرعون "ظننت دعوتنا تموت بضربةٍ .. خابت ظنونك فهي شر ظنونِ بليت سياطك ...
الإيمان يتسلل إلى قصر فرعون
"ظننت دعوتنا تموت بضربةٍ .. خابت ظنونك فهي شر ظنونِ
بليت سياطك والعزائم لم تزل .. منّا كحدّ الصارم المسنونِ
إنا لعمري إن صمتنا برهةً .. فالنار في البركان ذات كمونِ
تالله ما الطغيان يهزم دعوةً .. يوماً وفي التاريخ برُّ يمينِ"(1)
لم يعلم فرعون أن الإيمان الذي يحاربه قد تسرب إلى خاصة أهل بيته، فزوجته وابن عمه وماشطة ابنته كلهم قد آمنوا، ولكنهم كانوا يخفون إيمانهم !
إسلام ماشطة بنت فرعون
في يوم من الأيام – بعد مذبحة يوم الزينة – كانت الماشطة تمشط شعر ابنته وتزينه، فوقع المشط من يدها، فقالت بتلقائية القلب الذي نضح منه الإيمان: بسم الله !
فقالت ابنته لها في ابتسامة واستفهام: هل تقصدين أبى؟!
فقالت المرأة لها: لا، بل ربي وربك ورب أبيك هو الله.
فقالت: هل اتخذت إلاهاً غير أبي ؟
فقالت لها: نعم ، لأن أباكِ ليس إلها ، بل هو بشر مثلنا.
فقالت:لأُخبرن بذلك أبي؟
وذهبت البنت لفرعون وحكت له الذي حدث بينها وبين الماشطة، فغضب فرعون غضباً شديداً وأصدر قراراً بضبطها وإحضارها فوراً؛ فلما وقفت بين يديه سألها فقال: من ربك؟
فقالت بثبات ويقين: ربي وربك في السماء يا فرعون.
التعذيب البدني
فأمر فرعون جنده برميها في السجن، فضربوها وسحلوها وعذبوها لعلها بعد التعذيب تعود إلى عبادتها له مرة أخرى، ولكنها أصرت على الإيمان بالله.
ويتلقى فرعون التقارير الأمنية عنها، ليفاجأ بفشله مجدداً في انتزاع الإيمان من قلوب المؤمنين، فقرر أن يحاول بنفسه هذه المرة، ويتم التعذيب تحت عينه ورعايته
فقال فرعون للجنود: ألها أولاد؟
فقالوا له: نعم لها أربعة أحدهم ما زال طفلاً رضيعاً.
فقال فرعون: أشعلوا ناراً ببقرة من نحاس –إناء ضخم فيه زيت- حتى إذا غلى الزيت، ائتوني بها وبأولادها !
وبالفعل جاءوا بالإناء وأشعلوا تحته النار، وحمي على الزيت الذي بداخله، وأخرجوها من السجن وجروها أمام الإناء وطالبوها بالرجوع عن دينها، فرفضت؛ فأدخلوا عليها أولادها الصغار تدور أعينهم لا يدرون إلى أين يساقون، فلما رأوا أمهم تجمعوا حولها وتعلقوا بها وظلوا يبكون، فبكت لبكائهم وأقبلت عليهم تُقبلهم، وتبكي لفزعهم، ثم أخذت أصغرهم وضمته إلى صدرها، وألقمته ثديها.
التعذيب النفسي
فقالوا لها: ارحمي أولادك الصغار وعودي إلى ما كنتِ عليه.
فرفضت وقالت: ربي وربكم الله.
فلما رأى فرعون إصرارها أومأ برأسه للجنود، فأخذوا أكبر أولادها سناً وجروه نحو الإناء، وقيدوا يديه وقدميه، والغلام يصيح بأمه ويستغيث ويسترحم الجنود، ويتوسل إلى فرعون،يحاول الفكاك والهرب، ينادي أخوته الصغار ويضرب الجنود بيديه، وهم يصفعونه على وجهه، وأمه تنظر إليه تودعه وعيناها تبكيان وليس على لسانها إلا حسبي الله ونعم الوكيل.
وما هي إلا لحظات حتى غُيّب الغلام في الزيت، فذاب لحمه من على جسمه النحيل وطفت عظامه البيضاء فوق الزيت، وأخوته يغطون أعينهم بأيديهم الصغيرة، والأم في حال انهيار تام.
ثم قام فرعون من على كرسيه، يحوم حولها وحول أطفالها وهو يقول: ألك رب سواي ؟!
لتصرخ المرأة قائلة: ربي وربك الله يا فرعون.
فيزاد فرعون خزياً على خزيه، وفشلاً على فشله.. إنه يأمل ولو أن تنطق كلمة.. أي كلمة! ولو من وراء قلبها، ولكنها ترفض وتمانع؛ فأمر جنده أن يجروا ولدها الثاني ليلحق بأخيه
فسحبوه من حضن أمه وهو يبكي ويستغيث، وما هي إلا لحظات .. حتى أُلقي في الزيت وطفت عظامه إلى جوار عظام أخيه .. والأم تنظر إليه ولا تصدق ما يحدث حولها.. أي بشاعة هذه، وأي قسوة تلك! لتستفيق من ذهولها وابنها الثالث متشبث بأثوابها، ودموعه تجري على رجليها، وهم يسحبونه منها..
إنه طفل صغير.. فتحاول الأم أن تنتزعه من أيديهم وتحمله مع أخيه الرضيع، فلم تتمالك! فحاولت أن تودعه، وتقبله وتشمه، قبل أن يفارقها، فلم تستطع!
فحملوه من يديه الصغيرتين وهو يبكي ويستغيث ويتوسل بكلمات غير مفهومه، وهم لا يرحمونه.. وما هي إلا لحظات.. حتى غرق الصغير بالزيت المغلي وغاب جسده النحيل وانقطع صوته الملائكي، وشمت أمه رائحة لحمه وهو يحترق وقد علت عظامه الصغيرة البيضاء فوق الزيت يتقلب بها !
لحظات يعجز القلم عن رصد مرارتها وقسوتها على قلب أم
جريمتها الوحيدة أنها آمنت بالله!
ثم ينظر فرعون إليها وهو يقول: هل مازلت على دينك؟ ألا ترحمين طفلك الرضيع الذي على يديك؟ أما آن لك أن تعقلي وتعودي إلى دين آبائك وأجدادك ؟!
لتنظر إليه الأم المسكينة بعينين ممتلئتين بالدموع، وترد بصوت محبوس في صدرها: بل ربي وربك الله يا فرعون ! فتنزل هذه الكلمات عليه كنزول السياط الملتهبة، فيصرخ بأعلى صوته: خذوا رضيعها وارموه مع إخوته.
وقد كان الطفل يبكي ملتقماً ثدي أمه، التي لم تفتأ تبكي على إخوته الذين لم يعد منهم إلا عظامهم الطافية في إناء الزيت؛ ويتدافع الجنود نحوها.. ينتزعون صغيرها من يديها وفي فمه بقايا حليب من ثديها.. وعلى أثوابه قطرات من دموعها.. يتوجهون به نحو الإناء..
الأم تسقط على الأرض.. فما تراه لا تطيق حمله الجبال الرواسي.. يرفعون الطفل ليلقوه في الزيت .. والأم يراودها شيطانها أن تقول ما يريدونه منها؛ رحمة بطفلها الرضيع.. وما تحركت شفتاها حتى تدخلت عناية السماء فنطق الطفل بصوت مفهوم قائلاً:
اثبتي يا أماه فإنك على الحق، وإن الله قد بنى لك بيتاً في الجنة.
ثم ألقي في الزيت.. ليرحل مع إخوته الصغار، وهاهي عظامهم يلوح بها القِدر، ولحمهم يفور به الزيت،وتنظر المسكينة إلى هذه العظام.. إنها عظام أولادها، اللذين ملئوا عليها البيت ضحكاً وسروراً.. إنهم فلذات كبدها .. لكم سهرت من أجل رعايتهم، وكدت وتعبت من أجل قضاء حاجاتهم .. ثم هاهم اليوم ينتزعون من بين يديها ويقتلون أمام ناظريها !!
أي قلب قلبها .. وأي ثبات ثباتها ؟!
الآن لم يعد لها في الدنيا ما تحرص عليه، فمسحت دموعها بيدها، واستجمعت ما تبقى من قواها، وقامت من على الأرض لتقف في عزة المؤمن الذي يرى الخير فيما ابتلاه الله به، تنتظر دورها في القتل، فلما توجه الجنود نحوها ليُلحقوها بأولادها قالت لفرعون: إن لي عندك حاجه أريدك أن تقضيها لي.
فقال فرعون: وما هي ؟!
قالت: أن تجمعوا عظامي وعظام أولادي فتدفنوها في مكان واحد.
فقال لها: لك ذلك !
فأغمضت عينيها وألقيت في القدر مع أولادها واحترق جسدها وطفت عظامها، فلله درها ما أعظم ثباتها وأكثر ثوابها، وبعد هذه الحادثة بأكثر من 1500 عام رأى النبي ليلة الإسراء شيئاً من النعيم الذي أعده الله لها؛ فحدث به أصحابه فقال لهم: (( لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ بِي فِيهَا، أَتَتْ على رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلادِهَا ". قَالَ: " قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟
قَالَ: بَيْنَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ سَقَطَتِ الْمِدْرَى مِنْ يَدَيْهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللهِ. فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي؟قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللهُ. قَالَتْ: أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ قَالَتْ: نَعَمْ. فَأَخْبَرَتْهُ فَدَعَاهَا.
فَقَالَ: يَا فُلانَةُ، وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ. فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَوْلادُهَا فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إليكَ حَاجَةً. قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَتَدْفِنَنَا. قَالَ: ذَلِكَ لَكِ علينا مِنَ الحَقِّ ".
قَالَ: " فَأَمَرَ بِأَوْلادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَاحِدًا وَاحِدًا، إِلَى أَنِ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، كَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ: يَا أُمَّهْ، اقْتَحِمِي، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاقْتَحَمَتْ " قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ صِغَارٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليه السَّلامُ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَابْنُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ "(2).
إسلام آسية بنت مزاحم
لا تمر الأيام على فرعون إلا ويفاجأ بإسلام فرد جديد من أفراد رعيته؛ فما هي إلا أيام قليلة ولحقت بماشطة ابنة فرعون، زوجته آسية بنت مزاحم(1)، تلك المرأة التي نشأتْ ملكة في القصور، واعتادتْ حياة الملوك، ورأَتْ بطش القوة، وجبروت السلطان، وطاعة الأتباع والرعية، فهي زوجة فرعون الذي اغترَّ بسعة ملكه وقوة جنده، ولكنها لم تغتر بكونها ملكة، ولم يصرفها ذلك عن الإيمان بالله عز وجل حين رأت الآيات البينات، فآمنت بربها وصدَّقت برسالة موسى فقد أضاء الإيمان فؤادها يوم الزينة؛ فسئمتْ حياة الضلال، واستظلتْ بظلال الإيمان، ودعتْ ربها أن ينقذها من هذه الحياة التي تحياها، فاستجاب ربها دعاءها، وجعلها مثلاً للذين آمنوا، فقال: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ ..﴾[التحريم: 11].
فأصبحت– بإيمانها - نموذجًا في الصلاح والتُّقى والبراءة من الظلمِ وأهلِهِ، والنفورِ من الطغاة، والرغبة الصادقة في هجرِ هذه الحياةِ المتْرَفةِ، إلى حياة الأنس بالله.
آسية والميلاد الجديد
ولما علم فرعون بخبر إسلامها، جُن جنونه .. فهددها وتوعدها لئن لم ترجع عما تعتقده ليقتلنها شر قتلة؛ فلم تفلح تهديدات فرعون ولا وعيده في إبعادها عن طريق الحق والهدى، فأمر بحبسها؛ فأدخلوها في سجن ضيق - غير آدمي - تاركة القصر بزينته وخدمه وحشمه، لتبدأ في مرحلة جديدة من حياتها؛ فبعد عيش التجمُّل، جاءت حياة التحمُّل، والفارق بينهما كالفارق بين الحي والميت سواء بسواء، ولقد عبر القرآن عن الفترة التي يقضيها الإنسان بعيداً عن ربه، غير مدرك لحقيقة الغاية التي خلق من أجلها بأنها معيشة ضنك! فمهما تقلب فيها مع النعيم، ومهما تذوق فيها أنواع المتع هي معيشة ضنك ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾ طه:124.
معيشة في صورة حياة؛ ولكن أصحابها في الحقيقة ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾ النحل:21، إلى أن يولدوا ميلاداً جديداً، بعدما يُنفخُ في أرواحهم بالإيمان لتحيا ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ الأنعام:122
فيعلن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد، الإنسان المتحرر المستنير الذي خرج بعبوديته لله وحده من عبودية العبيد! وعندها تضاعف الحياة طولا وعرضا وعمقا وسعة، ولو كانت سجناً ضيقاً، كُبل فيه صاحبه بالقيود والأغلال.
وما أحلاها من حياة – مهما كانت صعبة – أفمن نفخ الله في روحه الحياة، وأفاض على قلبه النور.. كمن حاله أنه في الظلمات، لا مخرج له منها؟
استعذاب العذاب
وبعدما دخلت آسية السجن، وثبتت على إسلامها(1) ولم تتراجع، أشرف فرعون على عذابها بنفسه، فأمر جنوده أن يطرحوها على الأرض، ويربطوها بين أربعة أوتاد، وضربها بالسياط على جسدها، وهى صابرة محتسبة على ما تجد من ألم العذاب، فأمر بوضع رحًى على صدرها - لا يقوى الرجلان على حملها- وهي صامدة ومستعذبة العذاب، من أجل رضا الله عنها!
وبعد أيام من الجلد والشبِحِ والتعذيب تحت حرارة الشمس، في ظل صمود وصبر وثبات على الدين، اشتاقت إلى جوار الله في الجنة فرفعت يديها قائلة: ﴿ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّة وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ التحريم:11
فطلبتِ الجارَ قبل الدارِ.
إني لأحْسِدُ جارَكُمْ لجوارِكُمْ طوبَى لمن أَضْحَى لدَارِكَ جَارًا
يا ليتَ جارَكَ باعَنِي من دارِهِ شبرًا لأُعطِيه بشبرٍ دارًا
فاستجاب اللَّه دعاءها، وارتفعت روحها إلى بارئها، تظلِّلُها الملائكة بأجنحتها؛ وهي تبتسم ضاحكة لما تراه من نعيم ذاهبة إليه في جوار ربها!
ولمَ لا تبتسم وتضحك.. وقد تركت لقب "سيدة مصر الأولى" لتنضم إلى قائمة "سيدة نساء العالمين"(1) وتحظى بلقب"أفضلُ نساءِ أهلِ الجنةِ"(2).
ولمَ لا تبتسم وتضحك ساخرة من زوجها فرعون الذي اتهمها بالجنون رغم أنها في الحقيقة "أكمل الناس عقلاً"(3).
لقد ماتت آسية.. وتركت لنا مثالاً يحتذى به للمرأة الصابرة المجاهدة التي تقول الحق ولا تخشى في الله لومة لائم، لتضع بصمودها وشجاعتها وصمة عار على جبين كل جبان خائر العزم.
ولوْ كانَ النّساءُ كمَنْ فَقَدْنا .. لفُضّلَتِ النّساءُ على الرّجالِ
وما التأنيثُ لاسمِ الشّمسِ .. عَيبٌ ولا التّذكيرُ فَخْرٌ للهِلالِ (1)
بهؤلاء ينبغي أن نفتخر
هناك من المصريين حتى الآن من لا يفتخر بكونه مسلمًا بقدر ما يفتخر بكونه من الفراعنة الذين كان منهم فرعون المجرم الذي تقرؤون الآن بعض أشكال إجرامه مع أبناء شعبه، ناهيك عن إجرامه مع زوجته وماشطة ابنته، ونسي هؤلاء الذين يفتخرون بالأهرامات بأن تلك الأهرامات لم تكن سوى قبور الفراعنة التي سخروا من أجل بناءها الشعب لعشرات السنين لينعم الفرعون بقبرٍ يليق به!.
وأما القسم الآخر من مسلمي مصر فيعتقد أن سرَّ عظمة المصريين يكمن في أرض مصر نفسها وليس في الإسلام الذي جعل منهم أناسًا عظماءً، فذكروا أن سر عظمة المصريين ينبع من كون أن كلمة "مصر" وردت في القرآن خمس مرّات! ولم يعلم هؤلاء أن اللَّه ذكر في القرآن ثمود وعاد ومدين أكثر من ذكره لمصر، وأن ذكر أرض مصر جاء في القرآن على سبيل القصص في معرض قصتي نبيي اللَّه موسى ويوسف عليهما السلام !
وعزى قسمٌ ثالث من المصريين سرّ عظمتهم إلى "ماء النيل"، الذي هو نهر من أنهار الجنة(1)، وأعجبتهم كثيرًا مقولة المؤرخ الإغريقي (هيرودوت) الذي زعم أن مصر هبة النيل.
ولكن الشيء المهم الذي نسيه كل هؤلاء هو الافتخار والاعتزاز بالإنسان المصري المسلم نفسه! بالسحرة المصريين الذين وقفوا بكل ثبات أمام أعتى طاغية عرفته البشرية، بالماشطة البسيطة التي قدمت أولادها فداء لدينها وعزتها، بآسية المصرية التي ضحت بالغالي والنفيس من أجل دينها وحريتها؛ بهؤلاء جميعاً ينبغي أن يفتخر المصريون.
فرعون يعذب نفسياً
لقد أحب فرعون آسية حباً لا يوصف – فقد نزل على رأيها ولم يقتل موسى من قبل – وقتله لها اليوم عذبه نفسياً، فهو لم يكن يتوقع أن تصل الأمور إلى هذا الحد، وما أراد من تعذيبها سوى أن ترجع إلى سلطانه وتنقاد تحت إمرته، ولكن أتته الريح بما لم يشتهِ، ليقوض الله ملكه كل يوم أمام عينيه، فبالأمس قتل آلاف السحرة من كهنة المعابد، ثم قتل الماشطة، ثم قتل زوجته آسية المحببة إلى قلبه، وبات في كل يوم يستعدي الناس عليها؛ ويقف عاجزاً أمام الزحف الإسلامي، فعذابه الذي يصبه على أتباع موسى لا يثني الناس عن الإيمان به واتباع منهجه ولو سراً، وأشباح ضحاياه تؤرق ليله ونهاره وتتوعده بالانتقام.
"ظننت دعوتنا تموت بضربةٍ .. خابت ظنونك فهي شر ظنونِ
بليت سياطك والعزائم لم تزل .. منّا كحدّ الصارم المسنونِ
إنا لعمري إن صمتنا برهةً .. فالنار في البركان ذات كمونِ
تالله ما الطغيان يهزم دعوةً .. يوماً وفي التاريخ برُّ يمينِ"(1)
لم يعلم فرعون أن الإيمان الذي يحاربه قد تسرب إلى خاصة أهل بيته، فزوجته وابن عمه وماشطة ابنته كلهم قد آمنوا، ولكنهم كانوا يخفون إيمانهم !
إسلام ماشطة بنت فرعون
في يوم من الأيام – بعد مذبحة يوم الزينة – كانت الماشطة تمشط شعر ابنته وتزينه، فوقع المشط من يدها، فقالت بتلقائية القلب الذي نضح منه الإيمان: بسم الله !
فقالت ابنته لها في ابتسامة واستفهام: هل تقصدين أبى؟!
فقالت المرأة لها: لا، بل ربي وربك ورب أبيك هو الله.
فقالت: هل اتخذت إلاهاً غير أبي ؟
فقالت لها: نعم ، لأن أباكِ ليس إلها ، بل هو بشر مثلنا.
فقالت:لأُخبرن بذلك أبي؟
وذهبت البنت لفرعون وحكت له الذي حدث بينها وبين الماشطة، فغضب فرعون غضباً شديداً وأصدر قراراً بضبطها وإحضارها فوراً؛ فلما وقفت بين يديه سألها فقال: من ربك؟
فقالت بثبات ويقين: ربي وربك في السماء يا فرعون.
التعذيب البدني
فأمر فرعون جنده برميها في السجن، فضربوها وسحلوها وعذبوها لعلها بعد التعذيب تعود إلى عبادتها له مرة أخرى، ولكنها أصرت على الإيمان بالله.
ويتلقى فرعون التقارير الأمنية عنها، ليفاجأ بفشله مجدداً في انتزاع الإيمان من قلوب المؤمنين، فقرر أن يحاول بنفسه هذه المرة، ويتم التعذيب تحت عينه ورعايته
فقال فرعون للجنود: ألها أولاد؟
فقالوا له: نعم لها أربعة أحدهم ما زال طفلاً رضيعاً.
فقال فرعون: أشعلوا ناراً ببقرة من نحاس –إناء ضخم فيه زيت- حتى إذا غلى الزيت، ائتوني بها وبأولادها !
وبالفعل جاءوا بالإناء وأشعلوا تحته النار، وحمي على الزيت الذي بداخله، وأخرجوها من السجن وجروها أمام الإناء وطالبوها بالرجوع عن دينها، فرفضت؛ فأدخلوا عليها أولادها الصغار تدور أعينهم لا يدرون إلى أين يساقون، فلما رأوا أمهم تجمعوا حولها وتعلقوا بها وظلوا يبكون، فبكت لبكائهم وأقبلت عليهم تُقبلهم، وتبكي لفزعهم، ثم أخذت أصغرهم وضمته إلى صدرها، وألقمته ثديها.
التعذيب النفسي
فقالوا لها: ارحمي أولادك الصغار وعودي إلى ما كنتِ عليه.
فرفضت وقالت: ربي وربكم الله.
فلما رأى فرعون إصرارها أومأ برأسه للجنود، فأخذوا أكبر أولادها سناً وجروه نحو الإناء، وقيدوا يديه وقدميه، والغلام يصيح بأمه ويستغيث ويسترحم الجنود، ويتوسل إلى فرعون،يحاول الفكاك والهرب، ينادي أخوته الصغار ويضرب الجنود بيديه، وهم يصفعونه على وجهه، وأمه تنظر إليه تودعه وعيناها تبكيان وليس على لسانها إلا حسبي الله ونعم الوكيل.
وما هي إلا لحظات حتى غُيّب الغلام في الزيت، فذاب لحمه من على جسمه النحيل وطفت عظامه البيضاء فوق الزيت، وأخوته يغطون أعينهم بأيديهم الصغيرة، والأم في حال انهيار تام.
ثم قام فرعون من على كرسيه، يحوم حولها وحول أطفالها وهو يقول: ألك رب سواي ؟!
لتصرخ المرأة قائلة: ربي وربك الله يا فرعون.
فيزاد فرعون خزياً على خزيه، وفشلاً على فشله.. إنه يأمل ولو أن تنطق كلمة.. أي كلمة! ولو من وراء قلبها، ولكنها ترفض وتمانع؛ فأمر جنده أن يجروا ولدها الثاني ليلحق بأخيه
فسحبوه من حضن أمه وهو يبكي ويستغيث، وما هي إلا لحظات .. حتى أُلقي في الزيت وطفت عظامه إلى جوار عظام أخيه .. والأم تنظر إليه ولا تصدق ما يحدث حولها.. أي بشاعة هذه، وأي قسوة تلك! لتستفيق من ذهولها وابنها الثالث متشبث بأثوابها، ودموعه تجري على رجليها، وهم يسحبونه منها..
إنه طفل صغير.. فتحاول الأم أن تنتزعه من أيديهم وتحمله مع أخيه الرضيع، فلم تتمالك! فحاولت أن تودعه، وتقبله وتشمه، قبل أن يفارقها، فلم تستطع!
فحملوه من يديه الصغيرتين وهو يبكي ويستغيث ويتوسل بكلمات غير مفهومه، وهم لا يرحمونه.. وما هي إلا لحظات.. حتى غرق الصغير بالزيت المغلي وغاب جسده النحيل وانقطع صوته الملائكي، وشمت أمه رائحة لحمه وهو يحترق وقد علت عظامه الصغيرة البيضاء فوق الزيت يتقلب بها !
لحظات يعجز القلم عن رصد مرارتها وقسوتها على قلب أم
جريمتها الوحيدة أنها آمنت بالله!
ثم ينظر فرعون إليها وهو يقول: هل مازلت على دينك؟ ألا ترحمين طفلك الرضيع الذي على يديك؟ أما آن لك أن تعقلي وتعودي إلى دين آبائك وأجدادك ؟!
لتنظر إليه الأم المسكينة بعينين ممتلئتين بالدموع، وترد بصوت محبوس في صدرها: بل ربي وربك الله يا فرعون ! فتنزل هذه الكلمات عليه كنزول السياط الملتهبة، فيصرخ بأعلى صوته: خذوا رضيعها وارموه مع إخوته.
وقد كان الطفل يبكي ملتقماً ثدي أمه، التي لم تفتأ تبكي على إخوته الذين لم يعد منهم إلا عظامهم الطافية في إناء الزيت؛ ويتدافع الجنود نحوها.. ينتزعون صغيرها من يديها وفي فمه بقايا حليب من ثديها.. وعلى أثوابه قطرات من دموعها.. يتوجهون به نحو الإناء..
الأم تسقط على الأرض.. فما تراه لا تطيق حمله الجبال الرواسي.. يرفعون الطفل ليلقوه في الزيت .. والأم يراودها شيطانها أن تقول ما يريدونه منها؛ رحمة بطفلها الرضيع.. وما تحركت شفتاها حتى تدخلت عناية السماء فنطق الطفل بصوت مفهوم قائلاً:
اثبتي يا أماه فإنك على الحق، وإن الله قد بنى لك بيتاً في الجنة.
ثم ألقي في الزيت.. ليرحل مع إخوته الصغار، وهاهي عظامهم يلوح بها القِدر، ولحمهم يفور به الزيت،وتنظر المسكينة إلى هذه العظام.. إنها عظام أولادها، اللذين ملئوا عليها البيت ضحكاً وسروراً.. إنهم فلذات كبدها .. لكم سهرت من أجل رعايتهم، وكدت وتعبت من أجل قضاء حاجاتهم .. ثم هاهم اليوم ينتزعون من بين يديها ويقتلون أمام ناظريها !!
أي قلب قلبها .. وأي ثبات ثباتها ؟!
الآن لم يعد لها في الدنيا ما تحرص عليه، فمسحت دموعها بيدها، واستجمعت ما تبقى من قواها، وقامت من على الأرض لتقف في عزة المؤمن الذي يرى الخير فيما ابتلاه الله به، تنتظر دورها في القتل، فلما توجه الجنود نحوها ليُلحقوها بأولادها قالت لفرعون: إن لي عندك حاجه أريدك أن تقضيها لي.
فقال فرعون: وما هي ؟!
قالت: أن تجمعوا عظامي وعظام أولادي فتدفنوها في مكان واحد.
فقال لها: لك ذلك !
فأغمضت عينيها وألقيت في القدر مع أولادها واحترق جسدها وطفت عظامها، فلله درها ما أعظم ثباتها وأكثر ثوابها، وبعد هذه الحادثة بأكثر من 1500 عام رأى النبي ليلة الإسراء شيئاً من النعيم الذي أعده الله لها؛ فحدث به أصحابه فقال لهم: (( لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ بِي فِيهَا، أَتَتْ على رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلادِهَا ". قَالَ: " قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟
قَالَ: بَيْنَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ سَقَطَتِ الْمِدْرَى مِنْ يَدَيْهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللهِ. فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي؟قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللهُ. قَالَتْ: أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ قَالَتْ: نَعَمْ. فَأَخْبَرَتْهُ فَدَعَاهَا.
فَقَالَ: يَا فُلانَةُ، وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ. فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَوْلادُهَا فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إليكَ حَاجَةً. قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَتَدْفِنَنَا. قَالَ: ذَلِكَ لَكِ علينا مِنَ الحَقِّ ".
قَالَ: " فَأَمَرَ بِأَوْلادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَاحِدًا وَاحِدًا، إِلَى أَنِ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، كَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ: يَا أُمَّهْ، اقْتَحِمِي، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاقْتَحَمَتْ " قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ صِغَارٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليه السَّلامُ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَابْنُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ "(2).
إسلام آسية بنت مزاحم
لا تمر الأيام على فرعون إلا ويفاجأ بإسلام فرد جديد من أفراد رعيته؛ فما هي إلا أيام قليلة ولحقت بماشطة ابنة فرعون، زوجته آسية بنت مزاحم(1)، تلك المرأة التي نشأتْ ملكة في القصور، واعتادتْ حياة الملوك، ورأَتْ بطش القوة، وجبروت السلطان، وطاعة الأتباع والرعية، فهي زوجة فرعون الذي اغترَّ بسعة ملكه وقوة جنده، ولكنها لم تغتر بكونها ملكة، ولم يصرفها ذلك عن الإيمان بالله عز وجل حين رأت الآيات البينات، فآمنت بربها وصدَّقت برسالة موسى فقد أضاء الإيمان فؤادها يوم الزينة؛ فسئمتْ حياة الضلال، واستظلتْ بظلال الإيمان، ودعتْ ربها أن ينقذها من هذه الحياة التي تحياها، فاستجاب ربها دعاءها، وجعلها مثلاً للذين آمنوا، فقال: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ ..﴾[التحريم: 11].
فأصبحت– بإيمانها - نموذجًا في الصلاح والتُّقى والبراءة من الظلمِ وأهلِهِ، والنفورِ من الطغاة، والرغبة الصادقة في هجرِ هذه الحياةِ المتْرَفةِ، إلى حياة الأنس بالله.
آسية والميلاد الجديد
ولما علم فرعون بخبر إسلامها، جُن جنونه .. فهددها وتوعدها لئن لم ترجع عما تعتقده ليقتلنها شر قتلة؛ فلم تفلح تهديدات فرعون ولا وعيده في إبعادها عن طريق الحق والهدى، فأمر بحبسها؛ فأدخلوها في سجن ضيق - غير آدمي - تاركة القصر بزينته وخدمه وحشمه، لتبدأ في مرحلة جديدة من حياتها؛ فبعد عيش التجمُّل، جاءت حياة التحمُّل، والفارق بينهما كالفارق بين الحي والميت سواء بسواء، ولقد عبر القرآن عن الفترة التي يقضيها الإنسان بعيداً عن ربه، غير مدرك لحقيقة الغاية التي خلق من أجلها بأنها معيشة ضنك! فمهما تقلب فيها مع النعيم، ومهما تذوق فيها أنواع المتع هي معيشة ضنك ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾ طه:124.
معيشة في صورة حياة؛ ولكن أصحابها في الحقيقة ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾ النحل:21، إلى أن يولدوا ميلاداً جديداً، بعدما يُنفخُ في أرواحهم بالإيمان لتحيا ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ الأنعام:122
فيعلن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد، الإنسان المتحرر المستنير الذي خرج بعبوديته لله وحده من عبودية العبيد! وعندها تضاعف الحياة طولا وعرضا وعمقا وسعة، ولو كانت سجناً ضيقاً، كُبل فيه صاحبه بالقيود والأغلال.
وما أحلاها من حياة – مهما كانت صعبة – أفمن نفخ الله في روحه الحياة، وأفاض على قلبه النور.. كمن حاله أنه في الظلمات، لا مخرج له منها؟
استعذاب العذاب
وبعدما دخلت آسية السجن، وثبتت على إسلامها(1) ولم تتراجع، أشرف فرعون على عذابها بنفسه، فأمر جنوده أن يطرحوها على الأرض، ويربطوها بين أربعة أوتاد، وضربها بالسياط على جسدها، وهى صابرة محتسبة على ما تجد من ألم العذاب، فأمر بوضع رحًى على صدرها - لا يقوى الرجلان على حملها- وهي صامدة ومستعذبة العذاب، من أجل رضا الله عنها!
وبعد أيام من الجلد والشبِحِ والتعذيب تحت حرارة الشمس، في ظل صمود وصبر وثبات على الدين، اشتاقت إلى جوار الله في الجنة فرفعت يديها قائلة: ﴿ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّة وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ التحريم:11
فطلبتِ الجارَ قبل الدارِ.
إني لأحْسِدُ جارَكُمْ لجوارِكُمْ طوبَى لمن أَضْحَى لدَارِكَ جَارًا
يا ليتَ جارَكَ باعَنِي من دارِهِ شبرًا لأُعطِيه بشبرٍ دارًا
فاستجاب اللَّه دعاءها، وارتفعت روحها إلى بارئها، تظلِّلُها الملائكة بأجنحتها؛ وهي تبتسم ضاحكة لما تراه من نعيم ذاهبة إليه في جوار ربها!
ولمَ لا تبتسم وتضحك.. وقد تركت لقب "سيدة مصر الأولى" لتنضم إلى قائمة "سيدة نساء العالمين"(1) وتحظى بلقب"أفضلُ نساءِ أهلِ الجنةِ"(2).
ولمَ لا تبتسم وتضحك ساخرة من زوجها فرعون الذي اتهمها بالجنون رغم أنها في الحقيقة "أكمل الناس عقلاً"(3).
لقد ماتت آسية.. وتركت لنا مثالاً يحتذى به للمرأة الصابرة المجاهدة التي تقول الحق ولا تخشى في الله لومة لائم، لتضع بصمودها وشجاعتها وصمة عار على جبين كل جبان خائر العزم.
ولوْ كانَ النّساءُ كمَنْ فَقَدْنا .. لفُضّلَتِ النّساءُ على الرّجالِ
وما التأنيثُ لاسمِ الشّمسِ .. عَيبٌ ولا التّذكيرُ فَخْرٌ للهِلالِ (1)
بهؤلاء ينبغي أن نفتخر
هناك من المصريين حتى الآن من لا يفتخر بكونه مسلمًا بقدر ما يفتخر بكونه من الفراعنة الذين كان منهم فرعون المجرم الذي تقرؤون الآن بعض أشكال إجرامه مع أبناء شعبه، ناهيك عن إجرامه مع زوجته وماشطة ابنته، ونسي هؤلاء الذين يفتخرون بالأهرامات بأن تلك الأهرامات لم تكن سوى قبور الفراعنة التي سخروا من أجل بناءها الشعب لعشرات السنين لينعم الفرعون بقبرٍ يليق به!.
وأما القسم الآخر من مسلمي مصر فيعتقد أن سرَّ عظمة المصريين يكمن في أرض مصر نفسها وليس في الإسلام الذي جعل منهم أناسًا عظماءً، فذكروا أن سر عظمة المصريين ينبع من كون أن كلمة "مصر" وردت في القرآن خمس مرّات! ولم يعلم هؤلاء أن اللَّه ذكر في القرآن ثمود وعاد ومدين أكثر من ذكره لمصر، وأن ذكر أرض مصر جاء في القرآن على سبيل القصص في معرض قصتي نبيي اللَّه موسى ويوسف عليهما السلام !
وعزى قسمٌ ثالث من المصريين سرّ عظمتهم إلى "ماء النيل"، الذي هو نهر من أنهار الجنة(1)، وأعجبتهم كثيرًا مقولة المؤرخ الإغريقي (هيرودوت) الذي زعم أن مصر هبة النيل.
ولكن الشيء المهم الذي نسيه كل هؤلاء هو الافتخار والاعتزاز بالإنسان المصري المسلم نفسه! بالسحرة المصريين الذين وقفوا بكل ثبات أمام أعتى طاغية عرفته البشرية، بالماشطة البسيطة التي قدمت أولادها فداء لدينها وعزتها، بآسية المصرية التي ضحت بالغالي والنفيس من أجل دينها وحريتها؛ بهؤلاء جميعاً ينبغي أن يفتخر المصريون.
فرعون يعذب نفسياً
لقد أحب فرعون آسية حباً لا يوصف – فقد نزل على رأيها ولم يقتل موسى من قبل – وقتله لها اليوم عذبه نفسياً، فهو لم يكن يتوقع أن تصل الأمور إلى هذا الحد، وما أراد من تعذيبها سوى أن ترجع إلى سلطانه وتنقاد تحت إمرته، ولكن أتته الريح بما لم يشتهِ، ليقوض الله ملكه كل يوم أمام عينيه، فبالأمس قتل آلاف السحرة من كهنة المعابد، ثم قتل الماشطة، ثم قتل زوجته آسية المحببة إلى قلبه، وبات في كل يوم يستعدي الناس عليها؛ ويقف عاجزاً أمام الزحف الإسلامي، فعذابه الذي يصبه على أتباع موسى لا يثني الناس عن الإيمان به واتباع منهجه ولو سراً، وأشباح ضحاياه تؤرق ليله ونهاره وتتوعده بالانتقام.