الإنذارات السبعة .. إمهال الله "إن من مميزات التشريع الجزائي الإلهي بأنه يرسل الإنذارات أولاً، ...
الإنذارات السبعة .. إمهال الله
"إن من مميزات التشريع الجزائي الإلهي بأنه يرسل الإنذارات أولاً، ليراجع الناس حساباتهم ويصلحوا أعمالهم من قريب دون تماد في البغي والعدوان والمخالفة والعصيان، فإذا استبد العناد بالقوم، وظهر منهم التعنت والتحدي لرسالات الأنبياء، ولم يبق أمل في إصلاحهم وتحقق اليأس منهم، فإن الله ينزل بهم العقاب الصارم أو الاستئصال جزاء بما كسبوا، وردعا لأمثالهم. (1)
ولقد قرر موسى عليه السلام- بوحي من الله - أن يذهب بصحبة أخيه هارون إلى قصر فرعون، ليطلب منه أن يرسل معه بني إسرائيل، خاصة بعدما أقيمت الحجة عليه أكثر من مرة، ومعه هذه المرة إنذار وتهديد من الله إن لم يستجب لمطلبه.
فإذا لم يكن في الآية الكبرى التي رآها فرعون رأى العين، ما يقيم له دليلاً على أن موسى مرسل من ربّ العالمين، وأن سلطان هذا الربّ سلطان عظيم، يخضع له كل ذي سلطان- فقد دقت الآن طبول حرب جديدة [حرب خفية]سيسلّط الله فيها على فرعون وملئه ألواناً من البلاء، ومرسلات من النقم، لعلهم يستكينوا ويخضعوا، فتلين قلوبهم وتستنير بصيرتهم فيؤمنوا بالله وحده ﴿ وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ الزخرف:48، وكان عدد هذه النذر وتلك الآيات تسعة ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ الإسراء:101، - سبق وأخرج منهم اليد والعصا - والآن سيأتي بواحدة تلو الأخرى.
وقد كانت هذه النذر واضحة بينة ﴿ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ الإسراء:101 تحمل بين طياتها لكل متأمل ومدقق شارة تحذير من الله، ودليل صدق على أن موسى نبي مرسل من عند الله، كما كانت هذه الإنذارات منفصلات عن بعضهن في الزمن والأثر ﴿آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ﴾ الأعراف:133 حتى يكون في الانفصال الزمني فرصة للمراجعة والرجوع إلى الله(2)، وحتى يكون في اختلاف الأثر، وفي تذوّق تلك الطعوم المرّة المختلفة لهذه المحن، ما يجعل البلاء شاملاً لهم جميعاً، على اختلاف معايشهم، وتنوع أحوالهم، وتباين طبائعهم.
فقد كان أول هذه النذر أعوام الجدب (السّنون) التي أدت لنقص حاد في السلع الغذائية، ثم سقطت عليهم أمطار غزيرة انقلبت إلى طوفان أغرق أرضهم وديارهم ومخازنهم، ثم غزت محاصيلهم أسراب الجراد فأكلتها، ثم ظهرت بعض الآفات والحشرات (الْقُمَّلَ) التي نشرت بينهم الأمراض، وقتلت المواشي والأغنام، ثم انتشرت الضفادع فملأت الشوارع ودخلت البيوت فأفسدت حياتهم وأرقت نومهم، ثم تحولت المياه إلى دماء، ثم وقع الرجز فانتشر مرض (الطاعون) فقتل منهم الآلاف ﴿ وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ القمر:42، وهكذا لا يسلم أحد منهم من أن تلبسه المحنة، وتشتمل عليه، فتعالوا بنا نشاهد الذي حدث بالتفصيل.
الإنذار الأول:( القحط، ونقص للثمرات ).
ذهب موسى وبصحبته هارون إلى قصر فرعون ليعرض عليه من جديد أن يخرج معه بني إسرائيل بسلام من أرض مصر، وهدده إن لم يخرج معه بني إسرائيل فإن أرض مصر الخصبة المثمرة ستتحول إلى أرض جدباء لا زرع فيها بسبب الجفاف الذي سيضرب الله به أراضيهم.
أخذ فرعون كلام موسى على محمل الهزل وعدم التصديق، وأمر الحرس بطردهما خارج القصر.
وبعد انتهاء المهلة التي حددها موسى عليه السلام، فوجئ الملأ من قوم فرعون بانحسار الماء في الأنهار والآبار، حتى كاد قاع النيل يَظهر، وخرج منه السمك يتلوى فوق الطمي! وعم القحط أرض مصر، بسبب ندرة الأمطار، والنقصان الشديد لمنسوب ماء النيل.
فتدهور اقتصاد مصر الذي يعتمد في الأساس على المحاصيل الزراعية، وهذه ضربة – في أولها - لم ينكشف للقوم فيها وجه العبرة واضحاً، إذ كثيراً ما كان يفعل النيل شيئاً من هذا معهم، وقد عرفت مصر سبع سنين عجافاً في زمن يوسف عليه السلام، وكان ذلك من قلة ماء النيل في هذه السنين، ولكن لمّا طال الوقت ولم ينزل المطر بدءوا يشعرون أن هذه رسالة إنذار من الله، وأن عليهم أن يلجئوا لموسى كما لجئوا من قبل إلى يوسف ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ الأعراف:130، ولكنهم تمادوا في عتوهم وضلالهم وتجاهلوا الإنذار الأول(1).
التناول الإعلامي للإنذارات الربانية
وكان رد أذرع فرعون الإعلامية على هذا الإنذار الرباني، هو تجاهله تماماً ورفض ربط هذه الأحداث بما حدث للمصريين في عهد يوسف عليه السلام، بحجة أن مصر الهكسوس ليست كمصر الفرعون، ويوسف ليس كموسى! ؛ وما يحدث ليس إلا كارثة من كوارث الطبيعة سرعان ما ستنجلي عن أرض مصر، ولا دخل لدين موسى بها، فمنذ متى والدين يتدخل في طبيعة الأرصاد الجوية!
أما إذا فاض النيل واخضرت الأرض قالوا: هذا من حظنا ورزقنا ومن بركات الخطط التنموية التي رسمها الفرعون الإله، وإذا قل منسوب مياه النيل، وانقطعت الأمطار استثاروا الشعب ضد موسى، لأنه سبب غضب الآلهة عليهم بدعوته لدين غير دين آبائهم وأجدادهم، فيتشاءم الناس من موسى عليه السلام ومن معه من بني إسرائيل وقد نقل الله لنا كلامهم فقال: ﴿ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ الأعراف:131
وهنا تبرز مكانة الإعلام وأهميته في تأثيره الكبير على توجهات الناس وآرائهم في الحياة، سواءً بالسلب أو الإيجاب، فهي إما أن تسمو بهم للقمة أو تحطُّ بهم إلى الحضيض، ويبقى فكر المجتمع مرهوناً بما يقدمه الإعلام ويضخُّهُ في عقول الأفراد، فوسائل الإعلام منذ الأزل قادرة على فرض رأي أو توجّه معين بحسب توجهات وسياسة المؤسسة الإعلامية، ولا نستطيع أن نتوّجها بتاج السلطة الرابعة إلا إذا كانت تحكمها أخلاقيات ومبادئ تفرض عليها أن تلتزم الموضوعية والمصداقية في نقل مختلف الأحداث الجارية في المجتمع، ويتفق ذلك مع قول وزير إعلام هتلر، جوزيف غوبلز عندما قال: «أعطني إعلاماً بلا ضمير أُعطيك شعباً بلا وعي»(1).
وهكذا يمضى فرعون وقومه في العناد والتحدي، رغم إن الشدائد من شأنها أن ترقق القلوب، وتهذب الطباع، وتوجه الأنفس إلى مرضاة الله والتضرع له دون غيره، ولكنهم لا يتذكرون ولا يتعظون!﴿ وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ الأعراف:132.
وهكذا تجاهلوا الإنذار الأول رغم أنه كان علامة بينة وواضحة على صدق موسى عليه السلام؛ ولكن الفطرة حين تنحرف عن الإيمان بالله، فإنها لا ترى قدرته - سبحانه- في تصريف هذا الوجود، وعندئذ تفقد إدراكها بالنواميس الكونية الثابتة النافذة، فتفسر الحوادث تفسيرات منفصلة منعزلة، وتهيم مع الخرافة في دروب ملتوية متفرقة لا تلتقي عند قاعدة، ولا تجتمع وفق نظام، فهم لم ينسبوا الأحداث إلى ظلمهم واستكبارهم، ولم يعدوها آية تحذيرية من الله، بل اعتبروها سحراً ودجلاً، أو كوارث طبيعية!
فقادتُهُم – فطرتهم المنحرفة - إلى استنتاج أن كل الأحداث هي من غدر الطبيعة القاسي! فَمَنْ أُهلِكوا بالريح – وفق نظرتهم - غضبت عليهم الطبيعة إثر تقلبات جوية، ومن أُهلكوا بالطوفان، أُهِلكوا بسبب ذوبان جبال الثلج وارتفاع منسوب مياه البحر التي سببت الفيضان !
دون نظر إلى الإله الذي أوجد ومنع، ودون اعتناء بأمر من أمر هذه النواميس الثابتة أن تضطرب الساعة فاضطربت، وأمرها أن تسكن بعدها فسكنت!
مضت الأيام ببطء شديد حتى أزاح الله عنهم هذه الغمة، فسقطت الأمطار وارتفع منسوب مياه النيل، وبدأ المزارعون في زراعة أراضيهم، ودبت في مصر الحياة.
الإنذار الثاني: ( الطوفان ).
ذهب موسى عليه السلام مجدداً – بأمر من الله – إلى قصر فرعون، طالباً منهم الإيمان برسالة الله أو أن يتركوه يخرج بشعب بني إسرائيل بسلام، فلعلهم بعدما ذاقوا مَرَار الشدة، يخضعون لمراد الله.
فجدد فرعون رفضه واستكباره!
فقال له موسى: إذاً ترقب سقوط أمطار لا تتوقف ليلاً ولا نهاراً حتى تغرق أرض مصر في طوفان؛ لن يترك لكم زرعاً ولا تجارة إلا أفسدها، ثم تركه وانصرف.
ولمّا انقضت المهلة المحددة، ولم يرجع فرعون عن قراراه بمنع بني إسرائيل من الخروج، تلبدت السماء بغمام كثيف، ثم أمطرت سبعة أيام بلياليهن دون توقف، ففاض نهر النيل، وتدفقت مياهه بغزارة وجنون(1)﴿ فَأَرْسَلْنا عليهِمُ الطُّوفانَ ﴾ الأعراف:133، فأُغرق من مصر السّهل والوعر، وتهدمت المنازل، وخربت المصانع، وشُرد العمال، وتدهور الاقتصاد.
بلغ الماء المتدفق في بعض الأماكن إلى مستوى صدور الرجال، ومات المئات غرقاً ..
فسبحان من يعذب بالشيء ونقيضه، عذبهم بقلة الماء كما عذبهم بكثرته! ومع ذلك مازال فرعون متمسكاً برأيه، معانداً لموسى، وإعلامه المضلل يصف هذا الإنذار الواضح – الطوفان - أنه كارثة من كوارث الطبيعة، وغضبة من الآلهة بسبب ما يدعيه موسى من وجود إله آخر معهم!
كما حثوا الناس على الصبر إلى أن تزول هذه المحنة وتعود مصر لسابق عهدها !، وقدموا لأهالي الضحايا والمفقودين واجب العزاء، كما بشروهم أن فرعون أمر عماله بتوزيع بعض الأغذية والأقمشة على المشردين الذين صعدوا إلى المرتفعات هروباً من الطوفان.
وبعد أيام من الخراب والدمار، اكتسح فيها الماء الأراضي والبيوت والمخازن، وعلت أمواجه الغاضبة الحيوانات النافقة، والجثث المتعفنة، أمر الله السماء فأمسكت مطرها، وأمر الأرض فابتلعت ماءها، وأشرقت الشمس وصفت السماء.
فنزل المصريون من على التلال والجبال التي احتموا بها، وخرجوا من الحصون ذات الأسوار العالية التي صمد بعضها أمام اندفاع المياه، وبدأ المزارعون منهم في إصلاح أراضيهم وزراعتها من جديد، كما بدأ العمال والبناءون يزاولون أعمالهم، ورجع التجار إلى أسواقهم يفترشون بضاعتهم، وبدأت الحياة الاقتصادية تدب على أرض مصر من جديد بعد توقف متكرر.
الإنذار الثالث: ( الجراد ).
وما كادوا يشعرون بالراحة والاطمئنان، حتى ذهب موسى عليه السلام إلى القصر الفرعوني من جديد طالباً منهم أن يتعظوا بما رأوه من آيات ونذر، فكل ما حذرهم من وقوعه وقع على النحو الذي وصفه وفي التوقيت الذي رصده، وهذا دليل دامغ أنه رسول من عند الله، وأن ما يحدث لهم من كوارث إنما هي صفارات إنذار تشير إلى غضب الله عليهم، فليتقوه وليؤدوا – يخرجوا - عباد الله معه، وأن يكفوا أذرعهم الإعلامية عن رجمه بإلقاء التهم جزافاً بأنه كاذب وساحر ودجال ليخدعوا الشعب، فهم أحرار في أن يؤمنوا أو يستمروا في كفرهم، بشرط أن يعتزلوه ويتركوه يدعو إلى ما يريد وما يعتقد.
معانٍ وإشاراتٌ لم يغفل القرآن عن ذكرها ورصدها، لنقدر كم عانى موسى وهارون عليهما السلام مع هؤلاء الفراعنة الظالمون، فقد قال الله حاكياً لنا ما دار بينهما وبين الملأ في قصر فرعون فقال: ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إلى عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ﴾ الدخان:21
ولكنهم لا آمنوا به، ولا اعتزلوه وتركوه يبلغ دعوة ربه في سلام؛ ولا تركوه يخرج بقومه من مصر، بل استكبروا وعاندوا ﴿ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ الأعراف:132
فلما أبوا إلا العناد والجحود أنذرهم موسى بأن أسراباً من الجراد ستغزو جميع أراضيهم الزراعية وستأكل كل ما زرعه الزارعون، ثم تركهم وانصرف.
فقام فرعون من على عرشه غاضباً، ضرب الحائط بيده، وركل بعض الكاسات التي أمامه بقدمه فحطمها، ثم نظر إلى مرآة انعكست فيها صورته قائلاً:
ذلك الذي أتى من العدم بثعبان مبين، ويدٍ مضيئة كان جرواً صغيراً في قصري يلهو بين قدمي !
أتكون هذه هي النبوءة التي أتتني في المنام يوماً؟ أتكون نهاية حكمي على يده ؟! كيف لم أنتبه له منذ البداية ؟ لمَ لم تدهسه عربتي يوماً، أو تأكله سباعي؟!
ثم ضرب المرآة فكسرها .. قائلاً:
لن أسمح لكالح البشرة هذا أن يهزمني.
وقبل أن تنقضي المدة التي حددها لهم موسى، أصدر فرعون أوامره لجميع المزارعين بحصد كل ما يستطيعون حصاده من الثمار والزرع قبل أن تزحف عليهم أسراب الجراد التي توعدهم بها موسى.
ولما انقضت المهلة .. أرسل الله ريحاً ساقت أسراباً لا حصر لها من الجراد، أحالت أعدادها النهار المشمس إلى ليل مظلم في دقائق معدودة(1)، ثم هبطت على أراضي مصر فغطت جميع حقولها، فأكلت عُشبها، وأفسدت ثمارها حتى لم يبق شيء من الخضرة في أراضي المصريين، ولم تفلح النار ولا الأعشاب المنفرة في طردها !
طوال هذه الفترة العصيبة كان فرعون يعتمد على المخزون الاحتياطي من الزراعة، ليسد به حاجة الشعب حتى لا يثورا عليه، كما كان لتربية الماشية والأغنام دور هام في صد المجاعة التي أقبلت عليها البلاد في فترات القحط والجدب والطوفان.
انتهت الأزمة الجديدة، وباتت الخسائر الفادحة المتتالية تؤرق مضاجع الملأ، ولكنهم مازالوا يتجملون بالصمود والإصرار إلى حين.
الإنذار الرابع: (الْقُمَّلَ).
ولما أمر الله الجراد بالانسحاب من أرض مصر، وعاد كل شيء إلى طبيعته؛ ذهب موسى عليه السلام بصحبة هارون إلى فرعون، طالباً منه من جديد أن يُخرج معه بني إسرائيل من مصر، وهدده إن لم يخرجهم بسلام فسيرسل الله عليهم حشرات "الْقُمَّلَ(1)" لتقتل كل ما ربوه من مواشي وأغنام وطيور، وتنقل للناس العديد من الأمراض خاصة الأمراض الجلدية، إضافة إلى إصابتهم بأنواع مختلفة من الحمى.
فجدد فرعون رفضه واستعلاؤه، رغم يقينه من وقوع ما يحذرهم منه موسى، فهو وإن جحد بما يقوله موسى لكنه على يقين جازم أن ما جاء به هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ النمل:14
وبعد انقضاء المهلة التي حددها موسى، جاءتهم حشرات"الْقُمَّلَ" بأنواعها المختلفة، فركب بعضها على الماشية فأصابها بالهزال، وقَتل البعض الطيور والأغنام، وتسلى البعض الآخر على جلود الناس فامتص الدماء وزرع البثور التي أصابتهم بهياج شديد وقُرح، كما تسبب في إصابتهم بأنواع مختلفة من الحمى(2) التي أصابتهم بقشعريرة وشعور بالبرد، وصداع، وألم في العضلات، وكذلك غثيان، وبات الأنين من الأمراض غير محتمل !
العجيب أن بني إسرائيل لم يمسوا من تلك الإنذارات بسوء! ليبقى الإنذار واضحاً أنه لم يأتِ بعشوائية – كأي كارثة – فيعم الجميع، وإنما جاء فقط لمن كذبوا برسالة الله، وعصوا رسوله.
تكبدت الدولة خسائر فادحة، وكاد الشعب يموت جوعاً – بسبب نفاد أغلب المخزون الإستراتيجي للدولة لكثرة توقف الإنتاج – ، وانتشرت الأمراض الجلدية المعدية بين الناس، وفرعون يأبى أن يتنحى عن قرار حظر خروج بني إسرائيل من مصر، ولعل ذلك– فيما أظن – لثلاثة أسباب هي: سبب سياسي، وسبب عسكري، وسبب اقتصادي.
أما السبب السياسي: فهو من أجل أن يحافظ فرعون على ما تبقى له من هيبة في قلوب الشعب، فكيف يأخذ قراراً ويتراجع عنه؟ ولمن يتراجع ؟.. لربيب قصره ابن بني إسرائيل؟!
وأما السبب العسكري: فهو الخوف من استقواء بني إسرائيل– المستعبدين والمستضعفين منذ سنين - بأي عدو خارجي، ويعودون مرة أخرى لينتقموا من فرعون ونظامه الذي ظلمهم وقهرهم وذبح أبناءهم، خاصة بعد ظهور بعض القوى العسكرية الأخرى في البلاد المجاورة كفلسطين مثلاً وما فيها من " قوم جبارين" إثر انشغال فرعون بالشئون الداخلية للبلاد.
وأما السبب الاقتصادي: ففرعون كما نعلم كان يستخدم بني إسرائيل في الأعمال الشاقة في الدولة، فمن الذي سيقوم بأعمالهم هذه إذا تركوا مصر وخرجوا ؟!
فأي دولة في العالم حتى يومنا هذا تعتمد على عمالة من غير أبناء شعبها إذا أردت أن تضربها ضربة موجعة فاسحب كل العمالة التي فيها فجأة، لينهار اقتصادها تماما
ولأن الكبر أعمى بصيرته، وأحاطت به خطيئته استكبر أن يتفاوض مع موسى عليه السلام، أو أن يتساءل عن إمكانية خروجهم دفعات مثلاً حتى لا يتركوا فراغاً في الدولة، أو يأخذ عليهم العهود والمواثيق ألا يتعاهدوا أو يتحالفوا مع أي عدو آخر ضده وضد شعب مصر، ولولا أن تداركتهم رحمات الله الحليم، لهلك الناس جميعاً بسبب هذا العناد !
أخذت المحنة من شعب مصر ما أخذت، ثم أمر الله هذه الحشرات - وهي من جنوده التي لا تعد ولا تحصى - أن تتوقف عن عملها الذي كلفها به؛ فتوقفت ورفع الله البلاء عنهم.
الإنذار الخامس: ( الضفادع ).
وتمضي الأيام تباعاً مع تجاهل متعمد لمطالب بني إسرائيل المشروعة؛ رغم كل ما حل بآل فرعون من نقم وبلايا، وما زالت الإنذارات تتوالى رغم تجاهلهم وإعراضهم، فمن جديد يذهب موسى بصحبة هارون إليهم ومعه الإنذار الجديد، وقد كان فرعون وملؤه يستقبلون موسى في القصر - رغم تجاهلهم لمطالبه – ليعرفوا الحدث قبل وقوعه، فيحتاطوا قدر استطاعتهم!
الجديد هذه المرة، أن هذا الإنذار سينال من فرعون وملئه مثلما سينال من عموم المصريين الذين لم يؤمنوا بموسى، فإن كان فرعون في قصره بين جنوده وخدمه وحشمه ينعم بخيرات الشعب ولا يبالي بما يقع خارج القصر من سنوات جدب أدت إلى نقص الثمرات، أو حتى من سقوط أمطار أدت إلى غرق البلاد في فيضانات، أو حتى من الجراد والْقُمَّلَ اللذين أفسدا ما سيخزن وما خُزن من حبوب وثمار، فإن إنذار هذه المرة سيدخل إلى قصره، وإلى مجلسه، حتى إلى غرفة نومه؛ إنها ملايين الملايين من الضفادع التي ستأتي ولن تجعلهم يهنئون براحة أبداً إن لم يعودوا إلى خالقهم أو يخرجوا بني إسرائيل بسلام.
ويستمر سيناريو الإعراض والسخرية والاستهزاء، وتنقضي المدة وهم على الكفر كما كانوا، مُصِرين على ألا يخرج شعب بني إسرائيل، فجاءتهم الضفادع من كل مكان(1)، اكتظَّت على الضفاف وفي المستنقعات التي تشكلت بين البيوت، ثم اجتاحت بيوتهم وأفنيتهم وأطعمتهم وآنيتهم, فلا يكشف أحد إناء ولا طعاماً إلا وجد فيه الضفادع, وكان الرجل يجلس في الضفادع إلى ذقنه, ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه, وكانت تثب في قدورهم فتفسد عليهم طعامهم وتطفئ نيرانهم, وكان أحدهم يضطجع فتركبه الضفادع فتكون عليه ركاماً حتى ما يستطيع أن ينصرف إلى شقه الآخر, ويفتح فاه لِأكلته فيسبق الضفدع أكلته إلى فمه, ولا يعجن عجيناً إلا تشدخت فيه، حتى ما تكاد تنظر في مكان إلا وجدت الضفادع منتشرة، فمنعتهم من النوم بعلو أصواتها، ومنعتهم من الراحة من سرعة قفزها حولهم؛ فكدرت عليهم معيشتهم.
لم يستطع جنود فرعون الذين يحيطون بقصره أن يتخلصوا من آلاف الضفادع القافزة داخل قصره المُحصن، واستطاعت بفظاعة منظرها، وعلو صوت نقيقها(1) أن تكدر عليه صفو معيشته وتمنعه من النوم والراحة أياماً وليالٍ، حتى أمرها الله عز وجل بالانسحاب - فأطاعت ربها - وانسحبت حيث جاءت.
﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾ المدثر:21، ومضت الأيام والليالي فلا هم آمنوا بالله، ولا هم تركوا موسى يخرج ببني إسرائيل ﴿ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ الأعراف:132
الإنذار السادس ( الدم ).
وتتجدد الإنذارات وتتنوع، مع تجديد التجاهل والإعراض من أتباع فرعون سيراً على خطاه ﴿ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾ طه:79، ولكن بالرغم من تجاهل فرعون، وإظهار أنه ما زال متماسكاً وقوياً إلا أنه قد أُنهك بهذه الضربات القوية والمتتالية، وفقد تأييد أغلب الشارع المصري له، ففرعون اليوم ليس كفرعون يوم الزينة.
ذهب موسى وهارون عليهما السلام إلى قصر فرعون، فخرج عليهما فرعون محتقن العينين، ثائر النفس، آثار الإجهاد من قلة النوم - بسبب نقيق الضفادع المزعج - تبدوا جلية على ملامحه.
فجدد له موسى دعوته - بأدب ولين ﴿ لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ طه:44 - فيؤمن ويذعن لجبار السماوات والأرض، ويطلق سراح بني إسرائيل.
فلما رفض كالعادة .. أنذره قائلاً:
اعلم أنك وكل من يساندك لن تنعموا بشربة ماء نقية خلال الأيام القادمة، فنهر النيل سيتحول كله إلى دماء جارية، وكل المياه التي ستأمر بتخزينها ستتحول أيضاً إلى دم، وتركه وانصرف.
وبعد أيام – من الإعراض - تحولت مياه النيل إلى اللون الأحمر، كلون الدماء التي أسالها فرعون وجنوده .. إنها دماء الأطفال الذين ذبحهم، ودماء السحرة الذين قتلهم، ودماء آسية، ودماء الماشطة وأبناؤها، ودماء المعذبين في سجونه ...
فعاف الناس شرب الماء حتى عطشوا عطشاً شديداً، ولقد كان يُجمع بين المصري والرجل من بني إسرائيل على الإناء الواحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دماً، ويقومان إلى بئر الماء فيخرج للإسرائيلي ماء وللمصري دماً.
حتى كانت المرأة من آل فرعون تأتي المرأة من بني إسرائيل- حين جهدهم العطش - فتقول لها: اسقني من مائك، فتصب لها كأس ماء عذب نظيف، وقبل أن ترفعه إلى فمها لتشربه يتحول إلى دم صاف، فكانت تقول لها: اجعليه في فمك ثم مجيه في فمي، فتأخذ المرأة في فمها الماء فإذا مجَّته في فم المصرية صار دماً قبل أن تبتلعه.
فاضطروا خلال هذه المحنة إلى مضغ الأشجار والنباتات الرطبة لكيلا تصاب أجسامهم بالجفاف؛ وصدق الله القائل: ﴿ وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ الزخرف:48
ولولا أن علة إرسال العذاب عليهم – كما أوضحت الآية - هو شد انتباههم أن موسى عليه السلام رسول من عند الله، فيرجعون إلى رشدهم ويتراجعون عن غيهم، ويتذكرون ضعفهم وعجزهم أمام قوة الله، لهلكوا جميعاً بسبب عدم توافر المياه النظيفة؛ فالإنسان بطبيعته لا يتحمل العطش لعدة أيام متتالية.
ولكن الله – بحلمه وجوده - رفع عنهم هذا البلاء، وأعطاهم فرصة من جديد ليصححوا أوضاعهم، فإن الشدائد من شأنها أن ترقق القلوب، وتهذب الطباع، وتوجه الأنفس إلى مرضاة الله رب العالمين، ولكنهم – كالعادة لا يتذكرون، ولا يتعظون!
وفي هذه الأثناء استثمر موسى انشغال فرعون بأحوال الدولة وشؤونها المتهاوية بسبب توالي ضربات الله لهم، وراح يعبئ بني إسرائيل روحيا ونظامياً
"إن من مميزات التشريع الجزائي الإلهي بأنه يرسل الإنذارات أولاً، ليراجع الناس حساباتهم ويصلحوا أعمالهم من قريب دون تماد في البغي والعدوان والمخالفة والعصيان، فإذا استبد العناد بالقوم، وظهر منهم التعنت والتحدي لرسالات الأنبياء، ولم يبق أمل في إصلاحهم وتحقق اليأس منهم، فإن الله ينزل بهم العقاب الصارم أو الاستئصال جزاء بما كسبوا، وردعا لأمثالهم. (1)
ولقد قرر موسى عليه السلام- بوحي من الله - أن يذهب بصحبة أخيه هارون إلى قصر فرعون، ليطلب منه أن يرسل معه بني إسرائيل، خاصة بعدما أقيمت الحجة عليه أكثر من مرة، ومعه هذه المرة إنذار وتهديد من الله إن لم يستجب لمطلبه.
فإذا لم يكن في الآية الكبرى التي رآها فرعون رأى العين، ما يقيم له دليلاً على أن موسى مرسل من ربّ العالمين، وأن سلطان هذا الربّ سلطان عظيم، يخضع له كل ذي سلطان- فقد دقت الآن طبول حرب جديدة [حرب خفية]سيسلّط الله فيها على فرعون وملئه ألواناً من البلاء، ومرسلات من النقم، لعلهم يستكينوا ويخضعوا، فتلين قلوبهم وتستنير بصيرتهم فيؤمنوا بالله وحده ﴿ وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ الزخرف:48، وكان عدد هذه النذر وتلك الآيات تسعة ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ الإسراء:101، - سبق وأخرج منهم اليد والعصا - والآن سيأتي بواحدة تلو الأخرى.
وقد كانت هذه النذر واضحة بينة ﴿ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ الإسراء:101 تحمل بين طياتها لكل متأمل ومدقق شارة تحذير من الله، ودليل صدق على أن موسى نبي مرسل من عند الله، كما كانت هذه الإنذارات منفصلات عن بعضهن في الزمن والأثر ﴿آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ﴾ الأعراف:133 حتى يكون في الانفصال الزمني فرصة للمراجعة والرجوع إلى الله(2)، وحتى يكون في اختلاف الأثر، وفي تذوّق تلك الطعوم المرّة المختلفة لهذه المحن، ما يجعل البلاء شاملاً لهم جميعاً، على اختلاف معايشهم، وتنوع أحوالهم، وتباين طبائعهم.
فقد كان أول هذه النذر أعوام الجدب (السّنون) التي أدت لنقص حاد في السلع الغذائية، ثم سقطت عليهم أمطار غزيرة انقلبت إلى طوفان أغرق أرضهم وديارهم ومخازنهم، ثم غزت محاصيلهم أسراب الجراد فأكلتها، ثم ظهرت بعض الآفات والحشرات (الْقُمَّلَ) التي نشرت بينهم الأمراض، وقتلت المواشي والأغنام، ثم انتشرت الضفادع فملأت الشوارع ودخلت البيوت فأفسدت حياتهم وأرقت نومهم، ثم تحولت المياه إلى دماء، ثم وقع الرجز فانتشر مرض (الطاعون) فقتل منهم الآلاف ﴿ وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ القمر:42، وهكذا لا يسلم أحد منهم من أن تلبسه المحنة، وتشتمل عليه، فتعالوا بنا نشاهد الذي حدث بالتفصيل.
الإنذار الأول:( القحط، ونقص للثمرات ).
ذهب موسى وبصحبته هارون إلى قصر فرعون ليعرض عليه من جديد أن يخرج معه بني إسرائيل بسلام من أرض مصر، وهدده إن لم يخرج معه بني إسرائيل فإن أرض مصر الخصبة المثمرة ستتحول إلى أرض جدباء لا زرع فيها بسبب الجفاف الذي سيضرب الله به أراضيهم.
أخذ فرعون كلام موسى على محمل الهزل وعدم التصديق، وأمر الحرس بطردهما خارج القصر.
وبعد انتهاء المهلة التي حددها موسى عليه السلام، فوجئ الملأ من قوم فرعون بانحسار الماء في الأنهار والآبار، حتى كاد قاع النيل يَظهر، وخرج منه السمك يتلوى فوق الطمي! وعم القحط أرض مصر، بسبب ندرة الأمطار، والنقصان الشديد لمنسوب ماء النيل.
فتدهور اقتصاد مصر الذي يعتمد في الأساس على المحاصيل الزراعية، وهذه ضربة – في أولها - لم ينكشف للقوم فيها وجه العبرة واضحاً، إذ كثيراً ما كان يفعل النيل شيئاً من هذا معهم، وقد عرفت مصر سبع سنين عجافاً في زمن يوسف عليه السلام، وكان ذلك من قلة ماء النيل في هذه السنين، ولكن لمّا طال الوقت ولم ينزل المطر بدءوا يشعرون أن هذه رسالة إنذار من الله، وأن عليهم أن يلجئوا لموسى كما لجئوا من قبل إلى يوسف ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ الأعراف:130، ولكنهم تمادوا في عتوهم وضلالهم وتجاهلوا الإنذار الأول(1).
التناول الإعلامي للإنذارات الربانية
وكان رد أذرع فرعون الإعلامية على هذا الإنذار الرباني، هو تجاهله تماماً ورفض ربط هذه الأحداث بما حدث للمصريين في عهد يوسف عليه السلام، بحجة أن مصر الهكسوس ليست كمصر الفرعون، ويوسف ليس كموسى! ؛ وما يحدث ليس إلا كارثة من كوارث الطبيعة سرعان ما ستنجلي عن أرض مصر، ولا دخل لدين موسى بها، فمنذ متى والدين يتدخل في طبيعة الأرصاد الجوية!
أما إذا فاض النيل واخضرت الأرض قالوا: هذا من حظنا ورزقنا ومن بركات الخطط التنموية التي رسمها الفرعون الإله، وإذا قل منسوب مياه النيل، وانقطعت الأمطار استثاروا الشعب ضد موسى، لأنه سبب غضب الآلهة عليهم بدعوته لدين غير دين آبائهم وأجدادهم، فيتشاءم الناس من موسى عليه السلام ومن معه من بني إسرائيل وقد نقل الله لنا كلامهم فقال: ﴿ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ الأعراف:131
وهنا تبرز مكانة الإعلام وأهميته في تأثيره الكبير على توجهات الناس وآرائهم في الحياة، سواءً بالسلب أو الإيجاب، فهي إما أن تسمو بهم للقمة أو تحطُّ بهم إلى الحضيض، ويبقى فكر المجتمع مرهوناً بما يقدمه الإعلام ويضخُّهُ في عقول الأفراد، فوسائل الإعلام منذ الأزل قادرة على فرض رأي أو توجّه معين بحسب توجهات وسياسة المؤسسة الإعلامية، ولا نستطيع أن نتوّجها بتاج السلطة الرابعة إلا إذا كانت تحكمها أخلاقيات ومبادئ تفرض عليها أن تلتزم الموضوعية والمصداقية في نقل مختلف الأحداث الجارية في المجتمع، ويتفق ذلك مع قول وزير إعلام هتلر، جوزيف غوبلز عندما قال: «أعطني إعلاماً بلا ضمير أُعطيك شعباً بلا وعي»(1).
وهكذا يمضى فرعون وقومه في العناد والتحدي، رغم إن الشدائد من شأنها أن ترقق القلوب، وتهذب الطباع، وتوجه الأنفس إلى مرضاة الله والتضرع له دون غيره، ولكنهم لا يتذكرون ولا يتعظون!﴿ وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ الأعراف:132.
وهكذا تجاهلوا الإنذار الأول رغم أنه كان علامة بينة وواضحة على صدق موسى عليه السلام؛ ولكن الفطرة حين تنحرف عن الإيمان بالله، فإنها لا ترى قدرته - سبحانه- في تصريف هذا الوجود، وعندئذ تفقد إدراكها بالنواميس الكونية الثابتة النافذة، فتفسر الحوادث تفسيرات منفصلة منعزلة، وتهيم مع الخرافة في دروب ملتوية متفرقة لا تلتقي عند قاعدة، ولا تجتمع وفق نظام، فهم لم ينسبوا الأحداث إلى ظلمهم واستكبارهم، ولم يعدوها آية تحذيرية من الله، بل اعتبروها سحراً ودجلاً، أو كوارث طبيعية!
فقادتُهُم – فطرتهم المنحرفة - إلى استنتاج أن كل الأحداث هي من غدر الطبيعة القاسي! فَمَنْ أُهلِكوا بالريح – وفق نظرتهم - غضبت عليهم الطبيعة إثر تقلبات جوية، ومن أُهلكوا بالطوفان، أُهِلكوا بسبب ذوبان جبال الثلج وارتفاع منسوب مياه البحر التي سببت الفيضان !
دون نظر إلى الإله الذي أوجد ومنع، ودون اعتناء بأمر من أمر هذه النواميس الثابتة أن تضطرب الساعة فاضطربت، وأمرها أن تسكن بعدها فسكنت!
مضت الأيام ببطء شديد حتى أزاح الله عنهم هذه الغمة، فسقطت الأمطار وارتفع منسوب مياه النيل، وبدأ المزارعون في زراعة أراضيهم، ودبت في مصر الحياة.
الإنذار الثاني: ( الطوفان ).
ذهب موسى عليه السلام مجدداً – بأمر من الله – إلى قصر فرعون، طالباً منهم الإيمان برسالة الله أو أن يتركوه يخرج بشعب بني إسرائيل بسلام، فلعلهم بعدما ذاقوا مَرَار الشدة، يخضعون لمراد الله.
فجدد فرعون رفضه واستكباره!
فقال له موسى: إذاً ترقب سقوط أمطار لا تتوقف ليلاً ولا نهاراً حتى تغرق أرض مصر في طوفان؛ لن يترك لكم زرعاً ولا تجارة إلا أفسدها، ثم تركه وانصرف.
ولمّا انقضت المهلة المحددة، ولم يرجع فرعون عن قراراه بمنع بني إسرائيل من الخروج، تلبدت السماء بغمام كثيف، ثم أمطرت سبعة أيام بلياليهن دون توقف، ففاض نهر النيل، وتدفقت مياهه بغزارة وجنون(1)﴿ فَأَرْسَلْنا عليهِمُ الطُّوفانَ ﴾ الأعراف:133، فأُغرق من مصر السّهل والوعر، وتهدمت المنازل، وخربت المصانع، وشُرد العمال، وتدهور الاقتصاد.
بلغ الماء المتدفق في بعض الأماكن إلى مستوى صدور الرجال، ومات المئات غرقاً ..
فسبحان من يعذب بالشيء ونقيضه، عذبهم بقلة الماء كما عذبهم بكثرته! ومع ذلك مازال فرعون متمسكاً برأيه، معانداً لموسى، وإعلامه المضلل يصف هذا الإنذار الواضح – الطوفان - أنه كارثة من كوارث الطبيعة، وغضبة من الآلهة بسبب ما يدعيه موسى من وجود إله آخر معهم!
كما حثوا الناس على الصبر إلى أن تزول هذه المحنة وتعود مصر لسابق عهدها !، وقدموا لأهالي الضحايا والمفقودين واجب العزاء، كما بشروهم أن فرعون أمر عماله بتوزيع بعض الأغذية والأقمشة على المشردين الذين صعدوا إلى المرتفعات هروباً من الطوفان.
وبعد أيام من الخراب والدمار، اكتسح فيها الماء الأراضي والبيوت والمخازن، وعلت أمواجه الغاضبة الحيوانات النافقة، والجثث المتعفنة، أمر الله السماء فأمسكت مطرها، وأمر الأرض فابتلعت ماءها، وأشرقت الشمس وصفت السماء.
فنزل المصريون من على التلال والجبال التي احتموا بها، وخرجوا من الحصون ذات الأسوار العالية التي صمد بعضها أمام اندفاع المياه، وبدأ المزارعون منهم في إصلاح أراضيهم وزراعتها من جديد، كما بدأ العمال والبناءون يزاولون أعمالهم، ورجع التجار إلى أسواقهم يفترشون بضاعتهم، وبدأت الحياة الاقتصادية تدب على أرض مصر من جديد بعد توقف متكرر.
الإنذار الثالث: ( الجراد ).
وما كادوا يشعرون بالراحة والاطمئنان، حتى ذهب موسى عليه السلام إلى القصر الفرعوني من جديد طالباً منهم أن يتعظوا بما رأوه من آيات ونذر، فكل ما حذرهم من وقوعه وقع على النحو الذي وصفه وفي التوقيت الذي رصده، وهذا دليل دامغ أنه رسول من عند الله، وأن ما يحدث لهم من كوارث إنما هي صفارات إنذار تشير إلى غضب الله عليهم، فليتقوه وليؤدوا – يخرجوا - عباد الله معه، وأن يكفوا أذرعهم الإعلامية عن رجمه بإلقاء التهم جزافاً بأنه كاذب وساحر ودجال ليخدعوا الشعب، فهم أحرار في أن يؤمنوا أو يستمروا في كفرهم، بشرط أن يعتزلوه ويتركوه يدعو إلى ما يريد وما يعتقد.
معانٍ وإشاراتٌ لم يغفل القرآن عن ذكرها ورصدها، لنقدر كم عانى موسى وهارون عليهما السلام مع هؤلاء الفراعنة الظالمون، فقد قال الله حاكياً لنا ما دار بينهما وبين الملأ في قصر فرعون فقال: ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إلى عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ﴾ الدخان:21
ولكنهم لا آمنوا به، ولا اعتزلوه وتركوه يبلغ دعوة ربه في سلام؛ ولا تركوه يخرج بقومه من مصر، بل استكبروا وعاندوا ﴿ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ الأعراف:132
فلما أبوا إلا العناد والجحود أنذرهم موسى بأن أسراباً من الجراد ستغزو جميع أراضيهم الزراعية وستأكل كل ما زرعه الزارعون، ثم تركهم وانصرف.
فقام فرعون من على عرشه غاضباً، ضرب الحائط بيده، وركل بعض الكاسات التي أمامه بقدمه فحطمها، ثم نظر إلى مرآة انعكست فيها صورته قائلاً:
ذلك الذي أتى من العدم بثعبان مبين، ويدٍ مضيئة كان جرواً صغيراً في قصري يلهو بين قدمي !
أتكون هذه هي النبوءة التي أتتني في المنام يوماً؟ أتكون نهاية حكمي على يده ؟! كيف لم أنتبه له منذ البداية ؟ لمَ لم تدهسه عربتي يوماً، أو تأكله سباعي؟!
ثم ضرب المرآة فكسرها .. قائلاً:
لن أسمح لكالح البشرة هذا أن يهزمني.
وقبل أن تنقضي المدة التي حددها لهم موسى، أصدر فرعون أوامره لجميع المزارعين بحصد كل ما يستطيعون حصاده من الثمار والزرع قبل أن تزحف عليهم أسراب الجراد التي توعدهم بها موسى.
ولما انقضت المهلة .. أرسل الله ريحاً ساقت أسراباً لا حصر لها من الجراد، أحالت أعدادها النهار المشمس إلى ليل مظلم في دقائق معدودة(1)، ثم هبطت على أراضي مصر فغطت جميع حقولها، فأكلت عُشبها، وأفسدت ثمارها حتى لم يبق شيء من الخضرة في أراضي المصريين، ولم تفلح النار ولا الأعشاب المنفرة في طردها !
طوال هذه الفترة العصيبة كان فرعون يعتمد على المخزون الاحتياطي من الزراعة، ليسد به حاجة الشعب حتى لا يثورا عليه، كما كان لتربية الماشية والأغنام دور هام في صد المجاعة التي أقبلت عليها البلاد في فترات القحط والجدب والطوفان.
انتهت الأزمة الجديدة، وباتت الخسائر الفادحة المتتالية تؤرق مضاجع الملأ، ولكنهم مازالوا يتجملون بالصمود والإصرار إلى حين.
الإنذار الرابع: (الْقُمَّلَ).
ولما أمر الله الجراد بالانسحاب من أرض مصر، وعاد كل شيء إلى طبيعته؛ ذهب موسى عليه السلام بصحبة هارون إلى فرعون، طالباً منه من جديد أن يُخرج معه بني إسرائيل من مصر، وهدده إن لم يخرجهم بسلام فسيرسل الله عليهم حشرات "الْقُمَّلَ(1)" لتقتل كل ما ربوه من مواشي وأغنام وطيور، وتنقل للناس العديد من الأمراض خاصة الأمراض الجلدية، إضافة إلى إصابتهم بأنواع مختلفة من الحمى.
فجدد فرعون رفضه واستعلاؤه، رغم يقينه من وقوع ما يحذرهم منه موسى، فهو وإن جحد بما يقوله موسى لكنه على يقين جازم أن ما جاء به هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ النمل:14
وبعد انقضاء المهلة التي حددها موسى، جاءتهم حشرات"الْقُمَّلَ" بأنواعها المختلفة، فركب بعضها على الماشية فأصابها بالهزال، وقَتل البعض الطيور والأغنام، وتسلى البعض الآخر على جلود الناس فامتص الدماء وزرع البثور التي أصابتهم بهياج شديد وقُرح، كما تسبب في إصابتهم بأنواع مختلفة من الحمى(2) التي أصابتهم بقشعريرة وشعور بالبرد، وصداع، وألم في العضلات، وكذلك غثيان، وبات الأنين من الأمراض غير محتمل !
العجيب أن بني إسرائيل لم يمسوا من تلك الإنذارات بسوء! ليبقى الإنذار واضحاً أنه لم يأتِ بعشوائية – كأي كارثة – فيعم الجميع، وإنما جاء فقط لمن كذبوا برسالة الله، وعصوا رسوله.
تكبدت الدولة خسائر فادحة، وكاد الشعب يموت جوعاً – بسبب نفاد أغلب المخزون الإستراتيجي للدولة لكثرة توقف الإنتاج – ، وانتشرت الأمراض الجلدية المعدية بين الناس، وفرعون يأبى أن يتنحى عن قرار حظر خروج بني إسرائيل من مصر، ولعل ذلك– فيما أظن – لثلاثة أسباب هي: سبب سياسي، وسبب عسكري، وسبب اقتصادي.
أما السبب السياسي: فهو من أجل أن يحافظ فرعون على ما تبقى له من هيبة في قلوب الشعب، فكيف يأخذ قراراً ويتراجع عنه؟ ولمن يتراجع ؟.. لربيب قصره ابن بني إسرائيل؟!
وأما السبب العسكري: فهو الخوف من استقواء بني إسرائيل– المستعبدين والمستضعفين منذ سنين - بأي عدو خارجي، ويعودون مرة أخرى لينتقموا من فرعون ونظامه الذي ظلمهم وقهرهم وذبح أبناءهم، خاصة بعد ظهور بعض القوى العسكرية الأخرى في البلاد المجاورة كفلسطين مثلاً وما فيها من " قوم جبارين" إثر انشغال فرعون بالشئون الداخلية للبلاد.
وأما السبب الاقتصادي: ففرعون كما نعلم كان يستخدم بني إسرائيل في الأعمال الشاقة في الدولة، فمن الذي سيقوم بأعمالهم هذه إذا تركوا مصر وخرجوا ؟!
فأي دولة في العالم حتى يومنا هذا تعتمد على عمالة من غير أبناء شعبها إذا أردت أن تضربها ضربة موجعة فاسحب كل العمالة التي فيها فجأة، لينهار اقتصادها تماما
ولأن الكبر أعمى بصيرته، وأحاطت به خطيئته استكبر أن يتفاوض مع موسى عليه السلام، أو أن يتساءل عن إمكانية خروجهم دفعات مثلاً حتى لا يتركوا فراغاً في الدولة، أو يأخذ عليهم العهود والمواثيق ألا يتعاهدوا أو يتحالفوا مع أي عدو آخر ضده وضد شعب مصر، ولولا أن تداركتهم رحمات الله الحليم، لهلك الناس جميعاً بسبب هذا العناد !
أخذت المحنة من شعب مصر ما أخذت، ثم أمر الله هذه الحشرات - وهي من جنوده التي لا تعد ولا تحصى - أن تتوقف عن عملها الذي كلفها به؛ فتوقفت ورفع الله البلاء عنهم.
الإنذار الخامس: ( الضفادع ).
وتمضي الأيام تباعاً مع تجاهل متعمد لمطالب بني إسرائيل المشروعة؛ رغم كل ما حل بآل فرعون من نقم وبلايا، وما زالت الإنذارات تتوالى رغم تجاهلهم وإعراضهم، فمن جديد يذهب موسى بصحبة هارون إليهم ومعه الإنذار الجديد، وقد كان فرعون وملؤه يستقبلون موسى في القصر - رغم تجاهلهم لمطالبه – ليعرفوا الحدث قبل وقوعه، فيحتاطوا قدر استطاعتهم!
الجديد هذه المرة، أن هذا الإنذار سينال من فرعون وملئه مثلما سينال من عموم المصريين الذين لم يؤمنوا بموسى، فإن كان فرعون في قصره بين جنوده وخدمه وحشمه ينعم بخيرات الشعب ولا يبالي بما يقع خارج القصر من سنوات جدب أدت إلى نقص الثمرات، أو حتى من سقوط أمطار أدت إلى غرق البلاد في فيضانات، أو حتى من الجراد والْقُمَّلَ اللذين أفسدا ما سيخزن وما خُزن من حبوب وثمار، فإن إنذار هذه المرة سيدخل إلى قصره، وإلى مجلسه، حتى إلى غرفة نومه؛ إنها ملايين الملايين من الضفادع التي ستأتي ولن تجعلهم يهنئون براحة أبداً إن لم يعودوا إلى خالقهم أو يخرجوا بني إسرائيل بسلام.
ويستمر سيناريو الإعراض والسخرية والاستهزاء، وتنقضي المدة وهم على الكفر كما كانوا، مُصِرين على ألا يخرج شعب بني إسرائيل، فجاءتهم الضفادع من كل مكان(1)، اكتظَّت على الضفاف وفي المستنقعات التي تشكلت بين البيوت، ثم اجتاحت بيوتهم وأفنيتهم وأطعمتهم وآنيتهم, فلا يكشف أحد إناء ولا طعاماً إلا وجد فيه الضفادع, وكان الرجل يجلس في الضفادع إلى ذقنه, ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه, وكانت تثب في قدورهم فتفسد عليهم طعامهم وتطفئ نيرانهم, وكان أحدهم يضطجع فتركبه الضفادع فتكون عليه ركاماً حتى ما يستطيع أن ينصرف إلى شقه الآخر, ويفتح فاه لِأكلته فيسبق الضفدع أكلته إلى فمه, ولا يعجن عجيناً إلا تشدخت فيه، حتى ما تكاد تنظر في مكان إلا وجدت الضفادع منتشرة، فمنعتهم من النوم بعلو أصواتها، ومنعتهم من الراحة من سرعة قفزها حولهم؛ فكدرت عليهم معيشتهم.
لم يستطع جنود فرعون الذين يحيطون بقصره أن يتخلصوا من آلاف الضفادع القافزة داخل قصره المُحصن، واستطاعت بفظاعة منظرها، وعلو صوت نقيقها(1) أن تكدر عليه صفو معيشته وتمنعه من النوم والراحة أياماً وليالٍ، حتى أمرها الله عز وجل بالانسحاب - فأطاعت ربها - وانسحبت حيث جاءت.
﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾ المدثر:21، ومضت الأيام والليالي فلا هم آمنوا بالله، ولا هم تركوا موسى يخرج ببني إسرائيل ﴿ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ الأعراف:132
الإنذار السادس ( الدم ).
وتتجدد الإنذارات وتتنوع، مع تجديد التجاهل والإعراض من أتباع فرعون سيراً على خطاه ﴿ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾ طه:79، ولكن بالرغم من تجاهل فرعون، وإظهار أنه ما زال متماسكاً وقوياً إلا أنه قد أُنهك بهذه الضربات القوية والمتتالية، وفقد تأييد أغلب الشارع المصري له، ففرعون اليوم ليس كفرعون يوم الزينة.
ذهب موسى وهارون عليهما السلام إلى قصر فرعون، فخرج عليهما فرعون محتقن العينين، ثائر النفس، آثار الإجهاد من قلة النوم - بسبب نقيق الضفادع المزعج - تبدوا جلية على ملامحه.
فجدد له موسى دعوته - بأدب ولين ﴿ لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ طه:44 - فيؤمن ويذعن لجبار السماوات والأرض، ويطلق سراح بني إسرائيل.
فلما رفض كالعادة .. أنذره قائلاً:
اعلم أنك وكل من يساندك لن تنعموا بشربة ماء نقية خلال الأيام القادمة، فنهر النيل سيتحول كله إلى دماء جارية، وكل المياه التي ستأمر بتخزينها ستتحول أيضاً إلى دم، وتركه وانصرف.
وبعد أيام – من الإعراض - تحولت مياه النيل إلى اللون الأحمر، كلون الدماء التي أسالها فرعون وجنوده .. إنها دماء الأطفال الذين ذبحهم، ودماء السحرة الذين قتلهم، ودماء آسية، ودماء الماشطة وأبناؤها، ودماء المعذبين في سجونه ...
فعاف الناس شرب الماء حتى عطشوا عطشاً شديداً، ولقد كان يُجمع بين المصري والرجل من بني إسرائيل على الإناء الواحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دماً، ويقومان إلى بئر الماء فيخرج للإسرائيلي ماء وللمصري دماً.
حتى كانت المرأة من آل فرعون تأتي المرأة من بني إسرائيل- حين جهدهم العطش - فتقول لها: اسقني من مائك، فتصب لها كأس ماء عذب نظيف، وقبل أن ترفعه إلى فمها لتشربه يتحول إلى دم صاف، فكانت تقول لها: اجعليه في فمك ثم مجيه في فمي، فتأخذ المرأة في فمها الماء فإذا مجَّته في فم المصرية صار دماً قبل أن تبتلعه.
فاضطروا خلال هذه المحنة إلى مضغ الأشجار والنباتات الرطبة لكيلا تصاب أجسامهم بالجفاف؛ وصدق الله القائل: ﴿ وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ الزخرف:48
ولولا أن علة إرسال العذاب عليهم – كما أوضحت الآية - هو شد انتباههم أن موسى عليه السلام رسول من عند الله، فيرجعون إلى رشدهم ويتراجعون عن غيهم، ويتذكرون ضعفهم وعجزهم أمام قوة الله، لهلكوا جميعاً بسبب عدم توافر المياه النظيفة؛ فالإنسان بطبيعته لا يتحمل العطش لعدة أيام متتالية.
ولكن الله – بحلمه وجوده - رفع عنهم هذا البلاء، وأعطاهم فرصة من جديد ليصححوا أوضاعهم، فإن الشدائد من شأنها أن ترقق القلوب، وتهذب الطباع، وتوجه الأنفس إلى مرضاة الله رب العالمين، ولكنهم – كالعادة لا يتذكرون، ولا يتعظون!
وفي هذه الأثناء استثمر موسى انشغال فرعون بأحوال الدولة وشؤونها المتهاوية بسبب توالي ضربات الله لهم، وراح يعبئ بني إسرائيل روحيا ونظامياً