خطبة فرعون الأخيرة تجمع الجيش الجرار(1)، ولبس فرعون لباس الحرب والتقط قوسه المنحنِي وفأسه الذهبية، ...
خطبة فرعون الأخيرة
تجمع الجيش الجرار(1)، ولبس فرعون لباس الحرب والتقط قوسه المنحنِي وفأسه الذهبية، ثم ارتدى خوذته واعتلى عربته الحربية ليكون على رأس الجيش فيشد من أزرهم، ويبث فيهم الحماسة.
وقبل التحرك بالجيش انتفخت عروق الكبرياء في رقبته، فوقف خطيباً في الجيش يقول:
لقد طفح الكيل من هؤلاء الشرذمة الرعاع، وأُقسم أن أغمد خنجري هذا في بطن كبيرهم المجنون، ولن أعود إلى قصري قبل أبقر بطون كل من خرجوا معه دون إذني، ولأُتِدن لهم في الأرض وأحرِقنَّهم أحياء، ليعرفوا من هو ربهم الأعلى.
ثم رفع من روح جنوده المعنوية فقال مهوناً من شأن بني إسرائيل وعددهم: ﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ﴾ فإياكم أن تخافوا منهم، فنحن أكثر منهم عدداً وعتاداً(1).
ثم ختم خطبته الحماسية طالباً منهم الحكمة والتروي والحذر أثناء ملاحقتهم لهم فقال: ﴿ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ﴾.
ثم انطلق بعربته الحربية مسرعاً وخلفه الجيش مدججاً بالسلاح نحو الجهة التي رصدوا تحرك بني إسرائيل نحوها ..
أما موسى ومن معه فقد سهل الله عليهم طريق سفرهم، فساروا يدفعهم الخوف، ويعصمهم الإيمان، حتى قطعوا رقعة اليابسة المصرية، وأشرقت عليهم شمس يوم عاشوراء(1) وقد وصلوا للنقطة المحددة لنبي الله موسى عند خليج السويس من البحر الأحمر (بحر القلزوم).
وإذا بهم أمام بحر لجي يقف أمامهم سداً منيعاً دون غايتهم، وحائلاً دون أمنيتهم، فساورهم القلق، واستولى عليهم الجزع، كان هذا حين أقبل عليهم فتى متأخر عنهم، كأن يمشي في مؤخرة الركب ليلتقط لهم ما يقع منهم أثناء سيرهم ويرصد لهم من يتبعهم من بعيد ..
شق الفتى صفوفهم التي وقفوا فيها متذمرين بعدما رأوا أنفسهم قد ضلوا الطريق، ونادى بأنفاس متهدجة: يا نبي الله .. يا نبي الله !
إن فرعون وهامان يقودان جنودهما في جيش جراراً، ويجِّدون في السير منذ ليالٍ للحاق بنا، وهاهو غبار قدوم جيشهم يتراءى من بعيد ..
فتناقل بني إسرائيل الخبر المشئوم فيما بينهم في لحظات، فازدادت خفقات قلوبهم، ودارت أعينهم من الخوف، وعلت الهمهمات، حتى رفع كبير العشيرة صوته قائلاً:
- هذا ما حذرتكم منه، لن يهدأ بال فرعون حتى يحاصركم فيذبحكم ويلقي بأجسادكم في البحر.
فصرخ فيه موسى:
- خسئت والله، بل سيُنجينا الله ولن يضيعنا.
ارتفع صوت من بعيد ..
- إذا فقل لنا كيف سينجينا ربك والبحر أمامنا وفرعون خلفنا ؟ هل ستطير بنا إلى السماء أم ستمشي بنا فوق أمواج البحر؟
صمت الكل، حتى علا صوت آخر ..
أرى أن نسلم أنفسنا إلى فرعون، ونبدي الندم بين يديه، لعله يعفو عنا ويسمح لنا بالعودة إلى منازلنا مرة أخرى.
ازداد غضب نبي الله موسى، وهمَّ أن يضرب اليائسين بعصاه، ثم قال:
من كان منكم لا يؤمن بقدرة الله، فليعد إلى الخرائب ليعيش فيها ذليلاً مهاناً، وليقبل أن تُقتل أبناؤه وتُستحيى زوجته أو بناته لخدمة فراش آل فرعون.
أمسك هارون بعضد أخيه موسى وهمس في أذنه:
اهدأ يا أخي ودعنا نفكر فيما نحن فيه.
هدأ موسى ووقف ينظر إلى البحر، وهو يتلاطم بأمواجه، ويتزايد زبد أجاجه، ثم نظر إلى هارون وقال له: هاهنا أمرتُ .. ها هنا أمرتُ !
وتراءى الجمعان
فلما تراءى الجمعان عن قرب .. سمع موسى من حاشيته المقربة كلاماً فيه عتب ولوم، كما أن فيه استنجاد ويأس، من قلوب بلغت مما ترى الحناجر وتظن بالله الظنونا !
"يا كليم الله .. أين تدبيرك؟ هاهم أولاء قد داهمونا من ورائنا، والبحر من أمامنا، وليس لنا من الموت محيص ولا مفر ﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ الشعراء:61، فما الحيلة ؟!!، وأين طريق النجاة، هل الله ضيعنا وسيجعلنا لقمة سائغة في فم عدونا ؟!
فصاح فيهم موسى عليه السلام بكلمات فيها ردع وزجر، خرجت منه بتلقائية وعفوية، فهو وإن كان لا يدري كيف سينجو بمن معه؛ لكنه على يقين في نصر الله لهم وقدرته على إهلاك عدوه ﴿ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ الشعراء:62.
معيَ من هو أقوى من كل قوي، معيَ من هو أعظم من كل عظيم، معيَ الله القادر القوي المانع، معيَ الباسط القابض، معيَ الذي من توكل عليه كفاه، ومن احتمى بحماه حماه، معيَ من لاذ بجنابه نجاه، إنه الله.. إنه الله.. إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ.
فَسَرت في نفوس القوم سارية من أمل – ولكنه - لا يلبث أن يمد شعاعه، حتى تطفئه عواصف اليأس والقنوط، مع اقتراب جيش فرعون ..
قال موسى كلمته ثم سكت وسكن، سكون من لم يعد يعبأ أو يخاف، سكون من فوض أمره لمن بيده تغيير الأمور، سكن ولسان حاله يقول:
" لا الأمرُ أمري ولا التدبيرُ تدبيري ...... ولا الشؤون التي تَجري بتقديري
... لي خالقٌ رازقٌ ماشاء يفعل بي .......... ..أحاطَ بي علمه قبل تصويري".
وعلا الموقف صمت رهيب، وبدأت عيون القوم ترقُب اقتراب عربات فرعون وجنوده وهي تهرس الأرض هرساً من فرط سرعتها، وترقُب موسى الذي وقف منتظراً وحي السماء.
وهنا أدركتهم عناية الله .. ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾ الشعراء:63.
سمع موسى الصوت، فانصاع دون تردد، وخاض مياه البحر المالحة، ورفع عصاه عالياً، وهوى بها على رأس موجة تقترب من الشاطئ ..
فانفلق الماء بين قدميه في هدير صمَّ الآذان ﴿ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ الشعراء:63.
لقد تباعد الماء كأن سكيناً خفية شقته شقاً، وجعلت بين جانبي مياهه المرتفعة كالجبال في طولها، والمتماسكة كالصخور في متانتها طريقاً يبساً، تنكشف للذي يمر فيه ما كان يحويه البحر من قواقع وأحجار، ويرى بين جانبي المياه ما تحويه من أسماك وحيتان ..!
﴿ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى﴾ طه:77.
خرست الأصوات اليائسة من فرج الله، وذهلت العقول التي شككت في بديع قدرته، يرمقون الماء الذي بلغ ارتفاع جبل، بأعناق ملتوية وأعين مندهشة، لقد بدا فرعون بجيشه وأسلحته وعرباته الحربية أقل رهبة في نفوسهم ..
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسرائيل الْبَحْرَ
صرخ موسى بأعلى صوته .. هيا اعبروا خلفي ..
انحدر بنو إسرائيل مسرعين داخل هذا الطريق المشقوق بين جانبي البحر، يكبرون الله ويحمدونه على هذه المعجزة العظيمة حتى جاوزوه إلى الشاطئ الآخر تحت رعاية وعناية الله، فالبحر الذي لا يُعبر إلا بالسفن عبره القوم مشياً على الأقدام بعد أن صار طريقاً يبساً!
فلما جاوزوه وخرج منه آخرهم، استشرفوا بعيونهم فأبصروا فرعون يتقدم العربات الحربية، تشد يمينه لجام ثلاثة أحصنة هوجاء تجر عربته بسرعة جنونية، كما سمعوا صوت دقات طبول يضربها جيشه ترويعاً لهم وتخويفاً، فعاد إليهم القلق والاضطراب، وتملكهم الخوف والإشفاق ..
حينئذٍ همّ موسى أن يضرب بعصاه البحر ليلتئم كما انفلق فيحول بينهم وبين فرعون، ولم يكد عزم موسى يختلج في فؤاده حتى أوحى الله إليه أن اترك البحر ساكناً على حالته، فلا تضربه بعصاك لئلا يتغير منه شيء فقد مضت أقدار الله أنهم لن يرجعوا إلى ديارهم سالمين ..
﴿وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ﴾ الدخان:24.
تجمع الجيش الجرار(1)، ولبس فرعون لباس الحرب والتقط قوسه المنحنِي وفأسه الذهبية، ثم ارتدى خوذته واعتلى عربته الحربية ليكون على رأس الجيش فيشد من أزرهم، ويبث فيهم الحماسة.
وقبل التحرك بالجيش انتفخت عروق الكبرياء في رقبته، فوقف خطيباً في الجيش يقول:
لقد طفح الكيل من هؤلاء الشرذمة الرعاع، وأُقسم أن أغمد خنجري هذا في بطن كبيرهم المجنون، ولن أعود إلى قصري قبل أبقر بطون كل من خرجوا معه دون إذني، ولأُتِدن لهم في الأرض وأحرِقنَّهم أحياء، ليعرفوا من هو ربهم الأعلى.
ثم رفع من روح جنوده المعنوية فقال مهوناً من شأن بني إسرائيل وعددهم: ﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ﴾ فإياكم أن تخافوا منهم، فنحن أكثر منهم عدداً وعتاداً(1).
ثم ختم خطبته الحماسية طالباً منهم الحكمة والتروي والحذر أثناء ملاحقتهم لهم فقال: ﴿ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ﴾.
ثم انطلق بعربته الحربية مسرعاً وخلفه الجيش مدججاً بالسلاح نحو الجهة التي رصدوا تحرك بني إسرائيل نحوها ..
أما موسى ومن معه فقد سهل الله عليهم طريق سفرهم، فساروا يدفعهم الخوف، ويعصمهم الإيمان، حتى قطعوا رقعة اليابسة المصرية، وأشرقت عليهم شمس يوم عاشوراء(1) وقد وصلوا للنقطة المحددة لنبي الله موسى عند خليج السويس من البحر الأحمر (بحر القلزوم).
وإذا بهم أمام بحر لجي يقف أمامهم سداً منيعاً دون غايتهم، وحائلاً دون أمنيتهم، فساورهم القلق، واستولى عليهم الجزع، كان هذا حين أقبل عليهم فتى متأخر عنهم، كأن يمشي في مؤخرة الركب ليلتقط لهم ما يقع منهم أثناء سيرهم ويرصد لهم من يتبعهم من بعيد ..
شق الفتى صفوفهم التي وقفوا فيها متذمرين بعدما رأوا أنفسهم قد ضلوا الطريق، ونادى بأنفاس متهدجة: يا نبي الله .. يا نبي الله !
إن فرعون وهامان يقودان جنودهما في جيش جراراً، ويجِّدون في السير منذ ليالٍ للحاق بنا، وهاهو غبار قدوم جيشهم يتراءى من بعيد ..
فتناقل بني إسرائيل الخبر المشئوم فيما بينهم في لحظات، فازدادت خفقات قلوبهم، ودارت أعينهم من الخوف، وعلت الهمهمات، حتى رفع كبير العشيرة صوته قائلاً:
- هذا ما حذرتكم منه، لن يهدأ بال فرعون حتى يحاصركم فيذبحكم ويلقي بأجسادكم في البحر.
فصرخ فيه موسى:
- خسئت والله، بل سيُنجينا الله ولن يضيعنا.
ارتفع صوت من بعيد ..
- إذا فقل لنا كيف سينجينا ربك والبحر أمامنا وفرعون خلفنا ؟ هل ستطير بنا إلى السماء أم ستمشي بنا فوق أمواج البحر؟
صمت الكل، حتى علا صوت آخر ..
أرى أن نسلم أنفسنا إلى فرعون، ونبدي الندم بين يديه، لعله يعفو عنا ويسمح لنا بالعودة إلى منازلنا مرة أخرى.
ازداد غضب نبي الله موسى، وهمَّ أن يضرب اليائسين بعصاه، ثم قال:
من كان منكم لا يؤمن بقدرة الله، فليعد إلى الخرائب ليعيش فيها ذليلاً مهاناً، وليقبل أن تُقتل أبناؤه وتُستحيى زوجته أو بناته لخدمة فراش آل فرعون.
أمسك هارون بعضد أخيه موسى وهمس في أذنه:
اهدأ يا أخي ودعنا نفكر فيما نحن فيه.
هدأ موسى ووقف ينظر إلى البحر، وهو يتلاطم بأمواجه، ويتزايد زبد أجاجه، ثم نظر إلى هارون وقال له: هاهنا أمرتُ .. ها هنا أمرتُ !
وتراءى الجمعان
فلما تراءى الجمعان عن قرب .. سمع موسى من حاشيته المقربة كلاماً فيه عتب ولوم، كما أن فيه استنجاد ويأس، من قلوب بلغت مما ترى الحناجر وتظن بالله الظنونا !
"يا كليم الله .. أين تدبيرك؟ هاهم أولاء قد داهمونا من ورائنا، والبحر من أمامنا، وليس لنا من الموت محيص ولا مفر ﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ الشعراء:61، فما الحيلة ؟!!، وأين طريق النجاة، هل الله ضيعنا وسيجعلنا لقمة سائغة في فم عدونا ؟!
فصاح فيهم موسى عليه السلام بكلمات فيها ردع وزجر، خرجت منه بتلقائية وعفوية، فهو وإن كان لا يدري كيف سينجو بمن معه؛ لكنه على يقين في نصر الله لهم وقدرته على إهلاك عدوه ﴿ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ الشعراء:62.
معيَ من هو أقوى من كل قوي، معيَ من هو أعظم من كل عظيم، معيَ الله القادر القوي المانع، معيَ الباسط القابض، معيَ الذي من توكل عليه كفاه، ومن احتمى بحماه حماه، معيَ من لاذ بجنابه نجاه، إنه الله.. إنه الله.. إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ.
فَسَرت في نفوس القوم سارية من أمل – ولكنه - لا يلبث أن يمد شعاعه، حتى تطفئه عواصف اليأس والقنوط، مع اقتراب جيش فرعون ..
قال موسى كلمته ثم سكت وسكن، سكون من لم يعد يعبأ أو يخاف، سكون من فوض أمره لمن بيده تغيير الأمور، سكن ولسان حاله يقول:
" لا الأمرُ أمري ولا التدبيرُ تدبيري ...... ولا الشؤون التي تَجري بتقديري
... لي خالقٌ رازقٌ ماشاء يفعل بي .......... ..أحاطَ بي علمه قبل تصويري".
وعلا الموقف صمت رهيب، وبدأت عيون القوم ترقُب اقتراب عربات فرعون وجنوده وهي تهرس الأرض هرساً من فرط سرعتها، وترقُب موسى الذي وقف منتظراً وحي السماء.
وهنا أدركتهم عناية الله .. ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾ الشعراء:63.
سمع موسى الصوت، فانصاع دون تردد، وخاض مياه البحر المالحة، ورفع عصاه عالياً، وهوى بها على رأس موجة تقترب من الشاطئ ..
فانفلق الماء بين قدميه في هدير صمَّ الآذان ﴿ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ الشعراء:63.
لقد تباعد الماء كأن سكيناً خفية شقته شقاً، وجعلت بين جانبي مياهه المرتفعة كالجبال في طولها، والمتماسكة كالصخور في متانتها طريقاً يبساً، تنكشف للذي يمر فيه ما كان يحويه البحر من قواقع وأحجار، ويرى بين جانبي المياه ما تحويه من أسماك وحيتان ..!
﴿ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى﴾ طه:77.
خرست الأصوات اليائسة من فرج الله، وذهلت العقول التي شككت في بديع قدرته، يرمقون الماء الذي بلغ ارتفاع جبل، بأعناق ملتوية وأعين مندهشة، لقد بدا فرعون بجيشه وأسلحته وعرباته الحربية أقل رهبة في نفوسهم ..
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسرائيل الْبَحْرَ
صرخ موسى بأعلى صوته .. هيا اعبروا خلفي ..
انحدر بنو إسرائيل مسرعين داخل هذا الطريق المشقوق بين جانبي البحر، يكبرون الله ويحمدونه على هذه المعجزة العظيمة حتى جاوزوه إلى الشاطئ الآخر تحت رعاية وعناية الله، فالبحر الذي لا يُعبر إلا بالسفن عبره القوم مشياً على الأقدام بعد أن صار طريقاً يبساً!
فلما جاوزوه وخرج منه آخرهم، استشرفوا بعيونهم فأبصروا فرعون يتقدم العربات الحربية، تشد يمينه لجام ثلاثة أحصنة هوجاء تجر عربته بسرعة جنونية، كما سمعوا صوت دقات طبول يضربها جيشه ترويعاً لهم وتخويفاً، فعاد إليهم القلق والاضطراب، وتملكهم الخوف والإشفاق ..
حينئذٍ همّ موسى أن يضرب بعصاه البحر ليلتئم كما انفلق فيحول بينهم وبين فرعون، ولم يكد عزم موسى يختلج في فؤاده حتى أوحى الله إليه أن اترك البحر ساكناً على حالته، فلا تضربه بعصاك لئلا يتغير منه شيء فقد مضت أقدار الله أنهم لن يرجعوا إلى ديارهم سالمين ..
﴿وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ﴾ الدخان:24.