كفَّارة الجماع في الحيض ( بحث فقهي مقارن) إنَّ إتْيان المرْأة في المَحيض محرَّم بالنَّصِّ وإجْماع ...

كفَّارة الجماع في الحيض ( بحث فقهي مقارن)
إنَّ إتْيان المرْأة في المَحيض محرَّم بالنَّصِّ وإجْماع العُلماء، وكبيرةٌ من الكبائِر ، قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) [البقرة: 222].
وقال صلَّى الله عليْه وسلَّم: «مَن أتَى حائضًا أو امرأةً في دبُرها أو كاهنًا، فقد كفَر بِما أُنْزِل على محمَّد» رواه التِّرمذي عن أبي هُرَيْرة.
وكان صلَّى الله عليْه وسلَّم إذا أراد أن يُباشِر امرأةً من نسائِه وهي حائض، أمرها أن تأتَزِر ثمَّ يباشرها؛ كما رواه البُخاري عن ميمونة.
والمباشرة: هي أن يقضي حاجته من زوجته بغير جماع.
وعن مُعاذ بن جبل رضِي الله عنْه: أنَّه سأل رسولَ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم: ما يَحل للرَّجُل من امرأته وهي حائض؟ قال: «ما فوْق الإزار» رواه أبو داود.
وقال صلَّى الله عليْه وسلَّم: «اصْنعوا كلَّ شيءٍ إلاَّ النِّكاح» رواه مسلم.
حكم المداعبة أثناء الحيض

أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: "كانت إِحْدَانَا إذا كانت حَائِضًا فَأَرَادَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَاشِرَهَا أَمَرَهَا أَنْ تَتَّزِرَ في فَوْرِ حَيْضَتِهَا ثُمَّ يُبَاشِرُهَا قالت: وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يَمْلِكُ إِرْبَهُ".
قال "الحافظ ابن رجب" رحمه الله في شرح هذا الحديث في كتابه (فتح الباري): (وَالْمُرَاد أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَمْلَك النَّاس لِأَمْرِهِ، فَلَا يُخْشَى عَلَيْهِ مَا يُخْشَى عَلَى غَيْره مِنْ أَنْ يَحُوم حَوْل الْحِمَى، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ يُبَاشِر فَوْق الْإِزَار تَشْرِيعًا لِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ).
وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَر الْعُلَمَاء، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى قَاعِدَة الْمَالِكِيَّة فِي بَاب سَدّ الذَّرَائِع.
- أَنَّ الَّذِي يُمْتَنَع فِي الِاسْتِمْتَاع بِالْحَائِضِ الْفَرْج فَقَطْ، وإلى هذا ذهَبَ كَثِير مِنْ السَّلَف، َالثَّوْرِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّد بْن الْحَسَن مِنْ الْحَنَفِيَّة، وَرَجَّحَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَهُوَ اِخْتِيَار أَصَبْغ مِنْ الْمَالِكِيَّة، وَأَحَد الْقَوْلَيْنِ أَوْ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ وَاخْتَارَهُ اِبْن الْمُنْذِر.
وَقَالَ "النَّوَوِيّ": هُوَ الْأَرْجَح دَلِيلًا لِحَدِيثِ أَنَس فِي (مُسْلِم) "اِصْنَعُوا كُلّ شَيْء إِلَّا الْجِمَاع ".
وَحَمَلُوا حَدِيث الْبَاب وَشَبَهه عَلَى الِاسْتِحْبَاب جَمْعًا بَيْن الْأَدِلَّة.
وَقَالَ "اِبْن دَقِيق الْعِيد": لَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب مَا يَقْتَضِي مَنْع مَا تَحْت الْإِزَار؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ. اِنْتَهَى.
وَيَدُلّ عَلَى الْجَوَاز مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ قَوِيّ عَنْ عِكْرِمَة عَنْ بَعْض أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ مِنْ الْحَائِض شَيْئًا أَلْقَى عَلَى فَرْجهَا ثَوْبًا).
وَاسْتَدَلَّ الطَّحَاوِيُّ عَلَى الْجَوَاز بِأَنَّ الْمُبَاشَرَة تَحْت الْإِزَار دُون الْفَرْج لَا تُوجِب حَدًّا وَلَا غُسْلًا فَأَشْبَهَتْ الْمُبَاشَرَة فَوْق الْإِزَار.
وَفَصَّلَ بَعْض الشَّافِعِيَّة فَقَالَ: إِنْ كَانَ يَضْبِط نَفْسه عِنْد الْمُبَاشَرَة عَنْ الْفَرْج وَيَثِق مِنْهَا بِاجْتِنَابِهِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا، وَاسْتَحْسَنَهُ النَّوَوِيّ.
وقال "ابن قدامة" في (المغني): "الاستِمْتَاع مِنَ الحائِضِ فِيما فَوْقَ السُّرَّة وَدُونَ الرُّكبة جائزٌ بالنص والإجماع، والوَطْءُ في الفَرْجِ محرَّم بهما أي بالنص والإجماع كذلك.
واخْتُلِفَ في الاستِمْتَاعِ بِما بَيْنَهُما
ذَهَبَ أحمدُ رحمه الله إلى إِبَاحَتِه، وروي ذلك عن عكرمة، وعطاء، والشعبي، والثوري، وإسحاق، ونحوه قال الحكم، فإنه قال: لا بأس أن تَضَعَ على فَرْجِها ثوبًا ما لم يُدخله.
وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: لا يُباح.
لما روي عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمُرُني فأتَّزر فيباشِرُني وأنا حائضٌ" (رواه البخاري) اهـ.

والقول الراجحُ:
هو جوازُ استمتاع الرجل بما بَيْنَ السُّرَّة والرُّكْبَةِ للأَدِلَّةِ السَّابِقَة.

وعليه فلا حَرَجَ من مداعبة زوْجِها لها حالَ الحيض وإن كان مصحوبًا بالإنزال.
حكم كفارة جماع الحائض

اختلف الفقهاء في وُجوب الكفَّارة على قولين:
القول الأول: أنَّه لا شيءَ عليْه إلاَّ التَّوبة، والى هذا ذهب جُمْهور الفقهاء من الحنفيَّة والمالكيَّة والشَّافعيَّة، ورواية عن الإمام أحمد.
وحجتهم:

1. أنَّ الأصل براءة الذمَّة، ولا ينتقل عنْها إلاَّ بدليل.
2. أنَّه وطء حُرِّم للأذى، فلم تتعلَّق به الكفَّارة، كالوَطْء في الدبر.
القول الثاني: وجوبِ الكفَّارة عليه، وإلى هذا ذهب الإمام أحمد في الرِّواية الأخرى.

وحجتهم:

لِما روى أبو داود والنَّسائي عن ابنِ عبَّاس: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في الذي يأتِي امرأتَه وهي حائض: «يتصدق بدينار أو بنصْف دينار»، والدِّينار قيمته أربع جرامات وربع الجرام من الذهب.
أخرجه أبو داود (2168)، والنسائي (289) واللفظ له، وابن ماجه (640) وصححه الألباني في صحيح النسائي برقم: 288، من حديث عبدالله بن عباس.
والحديث مُختلف في تصحيحِه وتضعيفِه فضعَّفه النَّووي وابنُ الصَّلاح، وأعلَّه الحافِظ ابن حجر بالاضطِراب. وصحَّحه ابن دقيق العيد وابن القطَّان.
قال النَّووي في شرح مسلم:

اعلم أنَّ مباشرة الحائض أقسام

أحدها: أن يُباشِرها بالجماع في الفرج، فهذا حرام بإجماع المسلمين، بنصِّ القرآن العزيز والسنَّة الصحيحة.
قال أصحابُنا: ولوِ اعتقد مسلم حلَّ جِماع الحائض في فرْجِها، صار كافِرًا مرتدًّا، ولو فعله إنسان غير معتقِدٍ حلَّه، فإن كان ناسيًا أو جاهلاً بوجود الحيض، أو جاهِلاً بتحريمه، أو مُكْرَهًا فلا إثْم عليْه، ولا كفَّارة.
وإن وطِئَها عامدًا عالماً بالحيض والتَّحريم مختارًا، فقدِ ارتكب معصية كبيرةً، نصَّ الشَّافعي على أنَّها كبيرة، وتَجِب عليْه التَّوبة، وفي وجوب الكفَّارة قولانِ للشَّافعي، أصحُّهما وهو الجديد وقول مالك وأبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتينِ، وجماهير السَّلف: أنَّه لا كفَّارة عليه، وممَّن ذهب إليْه من السَّلف: عطاء وابن أبي مليْكة، والشَّعبي والنَّخعي، ومكحول والزُّهري، وأبو الزناد وربيعة، وحماد بن أبي سليمان وأيوب السخْتياني، وسفيان الثوري واللَّيث بن سعد رحِمهم الله تعالى أجْمعين
والقول الثَّاني وهو القديم الضَّعيف: أنَّه يجب عليْه الكفَّارة، وهو مرْوي عن ابن عبَّاس والحسن البصْري وسعيد بن جبير، وقتادة والأوْزاعي وإسحاق، وأحمد في الرِّواية الثَّانية عنه.
واختلف هؤلاء في الكفَّارة
قال الحسن وسعيد: عتق رقبة.
وقال الباقون: دينار أو نصف دينار.
على اختِلاف منهم في الحال الَّذي يجب فيه الدينار ونصف الدينار، هل الدينار في أوَّل الدم، ونصفه في آخره؟
أو الدينار في زمن الدَّم، ونصفه بعد انقطاعه؟
وتعلَّقوا بحديثِ ابن عبَّاس المرْفوع: «مَن أتى امرأتَه وهي حائض، فليتصدَّق بدينار أو نصف دينار»
وهو حديث ضعيف باتِّفاق الحفَّاظ، فالصَّواب أن لا كفَّارة". اهـ.
والقول الرَّاجح: عدَم وجوب الكفَّارة، وعلى مَن فعل ذلك أن يتوب إلى الله توبةً صادقة، وأن يكثر من أعمال الخير؛ عسى الله أن يتوب عليه.
كفارة وطء الحائض ونحوها
يري المالكية والحنفية والشافعية في المذهب الجديد: أنه لا كفارة على من وطئ حائضا ونحوها، بل الواجب عليه الاستغفار والتوبة؛ لأن الأصل البراءة، فلا ينتقل عنها إلا بحجة، وحديث الكفارة مضطرب، ولأنه وطء محرم للأذى، فلم تتعلق به الكفارة كالوطء في الدبر.
ويرى الحنابلة في أرجح الروايتين عن أحمد: أنه تجب الكفارة على من وطئ امرأة في أثناء الحيض أو النفاس، وتجب على المرأة إن طاوعت الرجل في وطئها في الحيض، ككفارة الوطء في الإحرام، فإن كانت مكرهة فلا شيء عليها، لعدم تكليفها.
والكفارة واجبة ولو كان الوطء من ناسٍ ومكرهٍ وجاهل الحيض أو التحريم، أو كلاهما، ولا تجب الكفارة بوطئها بعد انقطاع الدم.
والكفارة دينار أو نصف دينار على سبيل التخيير، أيهما أخرج أجزأه، لما روي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: في الذي يأتي امرأته، وهي حائض: يتصدق بدينار أو نصف دينار). رواه الخمسة، قال الحافظ ابن حجر: والاضطراب في إسناد هذا الحديث ومتنه كثير جدا (نيل الأوطار:278/ 1).
وتسقط كفارة الوطء في الحيض بعجز عنها، ككفارة الوطء في رمضان.
وقال الشافعية: يسن لمن وطئ في إقبال الدم التصدق بدينار، ولمن وطئ في إدباره التصدق بنصف دينار، لخبر ابن عباس عند الترمذي: «إذا كان دما أحمر، فدينار، وإن كان دما أصفر فنصف دينار».
ووطء الحائض ليس بمعصية كبيرة، لعدم انطباق تعريفها عليه.