لا سواء... والعاقبة للمتقين الجانب الآخر من فقه حقيقة حروب الرّسل وأتباعهم، أنّ المساجلة في ...

لا سواء... والعاقبة للمتقين

الجانب الآخر من فقه حقيقة حروب الرّسل وأتباعهم، أنّ المساجلة في الحرب بين أهل الإيمان وأهل الكفر ليست دليل استواءٍ بين حال الطّرفين، وإن تساووا بعَدَد المرّات التي يَنال فيها كلٌّ منهم من الآخر، أو بعدد من يَقتلُ كلٌ منهم من الآخر، أو بحجم ما يغتنمونه من بعضهم، فالرّسل وأتباعهم إنّما يكونون مستضعفين في بادئ أمرهم، يسومهم أنصار الطّواغيت، وأجناد الفراعنة القهر والعذاب، ويحيونهم حياة الذّلّ والمهانة إن استبقوهم أحياء، فإذا بلغ هؤلاء المستضعفون المرحلة التي يساجلون فيها أعداءهم، فإنّ هذا دليل غلبةٍ لا دليل استواءٍ، كما ورد في الحديث عنْ أوس بن حذيفة (قالَ: كنتُ في الوفدِ الذين أتَوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أسلمُوا مِنْ ثَقيف مِنْ بني مالك أَنْزَلَنا في قبّةٍ له، فكان يختلفُ إلينا بين بيوته وبين المسجد، فإذا صلّى العشاءَ الآخرةَ انصرفَ إلينا فلا يبرحُ يحدّثُنا ويشتكي قريشاً ويشتكي أهلَ مكّةَ ثم يقولُ لا سواء، كنَّا بمكّةَ مُستذَلّين أو مُستضعَفين، فلمّا خرجْنا إلى المدينة كانت سِجال الحرب علينا ولنا) (رواه أحمد وابن ماجة وأبو داود وغيرهم)، فانتقال العصبة المؤمنة إلى المرحلة التي تكون فيها تكاليف الصّراع مع أهل الشّرك لهم وعليهم، لا يمكن مقارنتها بمرحلة الاستضعاف التي تكون فيها التّكاليف الشّديدة للصّراع محصورةً بأهل التّوحيد، وهذا ما حَدَثَ للرّسول عليه الصلاة والسلام ومَنْ معه بانتقالهم مِنْ مرحلة الاستذلال والاستضعاف (في مكّة) إلى مرحلة الشّوكة والتّمكين (في المدينة)، ثم الانتقال إلى المرحلة اللّاحقة وهي مرحلة الفتح التي تكون فيها التكاليف محصورةً بجانب المشركين كما حَدَثَ بعد صلح الحديبية حتى فتح مكّة.

إنَّ أكثر مَنْ يُدرك هذه المعاني من جنود الدّولة الإسلاميّة هم المجاهدون القدماء، ومن ناصر المجاهدين قبل قيام الدّولة الإسلاميّة، فقد كانت الأيّام الماضية أيّام استضعاف وقهر لهم، فكم منهم من قضى سنيناً في سجون المشركين يسومونه سوء العذاب، يُهان دينهم، ويُسبّ إلههم، ويُشتم عرض نبيّهم، ويُداس قرآنهم أمام أعينهم، ولا يملكون لكلّ ذلك شيئاً، بل ويُمنعون من الصّلاة، وتُمنع زوجاتهم من الحجاب، ولا ملجأ لهم من هذا الاستضعاف، ولا قوّة لديهم كي ينتقموا من عدوّهم، ولا ركناً شديداً كي يأووا إليه، وكان أملهم بالله أنْ يهيّء لهم قيام الخلافة، فيهاجروا إليها، فتمكّنهم من إقامة دينهم، وتجعلهم أعزّةً بعد ذلّهم، ويكونوا من جنودها فينتقموا من الطّواغيت وجنودهم، ويذيقوهم كأس العلقم التي لطالما شربها المسلمون على أيديهم.

ولذلك تجد هذا الصّنف من المجاهدين أقل جنود الدّولة الإسلاميّة تأثّراً بخسارة الأرض، أو فقدان الموارد، بسبب المعارك مع أعداء الله، إذ تكون صورة حالهم أيّام الاستضعاف حاضرةً في أذهانهم دائماً، فلم يكنْ شبرٌ من الأرض تحت أيديهم، بل حتّى بيوتهم الخاصّة كان بقاؤهم فيها رهناً ببقائهم خارج السّجون، ولم يكنْ لديهم من السّلاح والمعدّات أيّ شيءٍ، فكان كثيرٌ منهم يخشى اقتناء قطعة سلاحٍ ولو كانت بندقيّة صيدٍ صدئةً، ولم يكنْ لديهم من المال أحياناً ما يسدّ رمقهم ويغنيهم عن سؤال النّاس، فمكّنهم الله، وآواهم، وأغناهم، وما داموا يتمكّنون بفضل الله من النيل من أعدائهم، فلا سواء بين الحالين.

وتجد هذا الصّنف من المجاهدين أقلّ النّاس تأثّراً بالمُرجفين والمُخذّلين، وأقلّ النّاس تأثّراً بكلام أعداء الله، وادّعاءات إعلامهم بتحقيقِ الانتصارات على الدّولة الإسلاميّة، وتجد أنّ لديه في الغالب الجواب على كلّ الأراجيف التي يبثّونها.

مقتطف من صحيفة النبأ – العدد 5
مقال:
لا سواء... والعاقبة للمتقين