انظر عمّن تأخذ دينك ابتُلي الناس اليوم بكثرة مصادر التلقي خلافا للقرون المفضلة التي نهلت من منهل ...

انظر عمّن تأخذ دينك

ابتُلي الناس اليوم بكثرة مصادر التلقي خلافا للقرون المفضلة التي نهلت من منهل صاف واحد أوحد هو الكتاب والسنة؛ فاتّبعوا سبيل ربهم ولم يتبعوا السبل، فصحّت عقيدتهم وصفَت رايتهم ورُصّت صفوفهم، فعزّوا وسادوا.

أما اليوم فما يحدث هو العكس تماما، فقد تعددت وتبدلت وتكدّرت مصادر التلقي، وزاحم الكتابَ والسنةَ مصادرُ أخرى جاهلية وبدعية، فنطق الرويبضة وأفتى أنصاف العلماء وأصفار الدعاة وتصدّر المشهد الهواة وأرباب الهوى وأصحاب البدع وعبدة الطواغيت، فضلوا وأضلوا فضاعت العقيدة وتفرقت الصفوف وعُطل الولاء والبراء فصار الصديق عدوا والعدو صديقا.

ومما فاقم المشكلة وزاد المنهل كدرا، فقهاء العنكبوتية العاكفون على شبكات التباعد والتفكك الاجتماعي، تلك الفتنة التي ربت مساوئها على محاسنها، وطغت مفاسدها على مصالحها، واقتحمت كل حصن ولطمت كل وجه ولم ينجُ منها إلا من عصمه الله تعالى.

وتزداد خطورة فقهاء العنكبوتية في النوازل والمحن التي تعصف بالأمة، في ظل حيازة كل فرد من أفرادها على "هاتف غبي" يمكنه من الغوص في بحار التيه التي أغرقت الناس وفتنتهم في دينهم!، فيُبحر أحدهم في عباب طوفان العنكبوتية بغير هاد ولا مركب، فلا يعود -إن عاد- إلا جثة هامدة أو في الرمق الأخير، أو على أقل حال مبتلى بما خاضه مما ليس يدركه.

ولذلك أصبح فقهاء العنكبوتية خطرا متحققا على عقائد المسلمين في ظل ما يبثونه من إرجاف وإرجاء وتمييع وترقيع، بفتاوى تقتل الولاء والبراء! وتساوي بين المسلم والمرتد! وتردم الهوة بين السنة والبدعة! فتاوى يسترونها بأقيسة عقلية حزبية لا دليل يستقيم لها؛ فدليلهم غائب، وإنْ حضر فهو في غير محله، وإنْ كان في محله أوردوه بفهم لا يستقيم يخالف فهم السلف.

وقد شدّد السلف في هذا الباب وحذّروا من أخذ الدين عن غير مصادره الأصيلة، فنقل الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن سيرين قوله: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"، وقال الإمام ابن أبي حاتم: "دينك، دينك، إنما هو لحمك ودمك، فانظر عمن تأخذ، خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا"، ولا شك أن زماننا أولى بهذه النصيحة من زمانهم، وقد فشا بيننا الفوضى المنهجية، والورود على موارد الفتن ودعاة الضلالة ومشايخ الهوى، الذين استطار شرهم وزادوا الناس تشتُّتا وتشعُّبا.

وقد يتبادر إلى الذهن سؤال، ما هو السبيل لمعرفة الحق من الباطل في هذا الزمان الذي اختلط فيه الصحيح بالسقيم والغث بالسمين؟، قلنا: بداية على المسلم أن يوقن بأن الدين كمل وتم لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، وأن النبي محمدا -صلى الله عليه وسلم- لم يفارق الدنيا إلا بعد أن بلّغ الرسالة وأدى الأمانة وتركنا على البيضاء، نقية واضحة لا يزيغ عنها إلا هالك ولا يتنكبها إلا ضال، وبالتالي فإن المسلم الصادق في طلب الحق، يتضح له الحق برجوعه إلى نصوص الشريعة في الكتاب والسنة، أو برجوعه إلى العالمين العاملين بالشريعة فيوضحون له ما جهل من الحق بفهم السلف.

وإن من صفات العلماء العاملين الذين يؤخذ عنهم: تقديم شرع الله تعالى على ما سواه من الأفكار والآراء، كما قال ابن تيمية -رحمه الله-: "هم أهل الكتاب والسنة؛ لأنهم يؤثِرون كلامَ الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس، ويقدِّمون هدْي محمد على هدي كلِّ أحد". [مجموع الفتاوى]

ومن أخص صفاتهم: خشية الله تعالى لقوله سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، فقد يعلم العالم العلم الصحيح لكنه يمتنع عن الصدع به أو امتثاله هوى وتقديما لمحابّ النفس أو الحزب على محاب الله.

أما دعاة العنكبوتية فمن أبرز مثالبهم: الدعوة إلى أحزابهم لا إلى الله تعالى!، والانتصار لأنفسهم لا للحق! قال تعالى: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ}، قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "فيه الإخلاصُ؛ فإنَّ كثيرًا من الناس إنما يدعو إلى نفسه، ولا يدعو إلى الله عز وجل!"، وفي قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} قال الإمام الطبري: "يعني إلى الإسلام وشرائعه"، ودعاة الضلالة اليوم يدعون إلى شرائع حركاتهم وأحزابهم وحكوماتهم! وينتصرون لها ويصححون مساراتها ولو خالفت الشريعة من ألف وجه.

وقد دلت السنة النبوية على كثرة شيوع فقهاء الضلالة والبدعة في آخر الزمان، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم) [رواه مسلم]

▫️ المصدر: افتتاحية النبأ
صحيفة النبأ الأسبوعية العدد 465
الخميس 14 ربيع الآخر 1446 هـ