إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا • كيف يقع المرء في النار رغم يقينه بحرها ...

إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا

• كيف يقع المرء في النار رغم يقينه بحرها وحرقها؟ ذلك حين تختل الموازين، ويُرى الماء سرابا والسراب ماء، ومن ذلك توهم الناس أن الأمان في القعود، والراحة في البُعد عن ساحات الجهاد، ولكن هيهات هيهات فمن طلب السعادة بمعصية الله كانت التعاسة إليه أقرب.

في القرآن توعد الله القاعدين بالعذاب الأليم، فقال سبحانه وتعالى: { إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا }، آية لو تدبرها القارئ لكتاب الله لفزع قلبه، عذاب ووعيد لمن قعد عن الجهاد المتعيّن، وتهديد من رب العالمين لا يتساهل فيه إلا منافق معلوم النفاق، أو مريض القلب أو غافل ضعيف الإيمان، وطالما كان الوعيد من ربنا سبحانه وتعالى فهو محقق لا محالة.

عذاب الله للقاعدين نافذ فيهم وكلٌّ يصيبه ذلك العذاب، إما ضنك في الحياة وضيق عيش وهذا لا يكاد يسلم منه قاعد من القاعدين، حيث أن أعظم نعم الجهاد ذهاب الهم والغم كما قال عليه الصلاة والسلام: (الجهاد باب من أبواب الجنة ينجي من الهم والغم) [الطبراني]، فمن ترك الجهاد لم يخطئه هم ولا غم، وهذا مشاهد في أحوال القاعدين زفراتهم وآلامهم وأكدارهم لا تنتهي.

وعذاب آخر يعذب به القاعد في تلك الأشياء التي تسببت بصده عن الجهاد من مال أو ولد أو غيره، كما قال الله عن المنافقين: { فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } ومن جنس هذا العذاب أن تحصل الجفوة والفرقة بين المرء وأهله وأقاربه وتفسد ذات بينهم بسبب ترك الجهاد، وهم الذين غالبا من منعه وثناه عن الجهاد، يشهد لهذا قول الله تعالى: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ }، قال ابن كثير: "أي: عن الجهاد ونكلتم عنه، { أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } أي: تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء، تسفكون الدماء وتقطعون الأرحام" [التفسير]، وهذا يصيب كثيرا من الناس فتجدهم لما أطاعوا ذويهم بترك فريضة الجهاد المتعين؛ عذبهم الله بأن جعل بأسهم بينهم، فقتل هنا وحرب هناك، ومشكلة هنا وجريمة هناك، وكل ذلك عذاب عجّل عليهم في الدنيا والله المستعان.

وهكذا فما كان سببا في ترك الجهاد يتحول إلى عذاب في ذاته وهذا من عدل ربنا جل وعلا، وإن ترك ذلك الشيء لله، تولاه الله له ورعاه وربّاه، فمن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه.

ونظير هذا أيضا حلول الدمار والخراب في ديار القاعدين عن الجهاد بعد أن نكلوا وتقاعسوا عن الجهاد ظنا منهم أنه سبب دمار البلاد وخرابها، فإذا الذي يخشونه يلاحقهم، وذلك بتسلط الطواغيت على ديارهم وممتلكاتهم واستمرائهم في التعدي على بيوتهم ومساكنهم فتجرف بيوت وتهدّم ويهجّر آخرون ويضطهدون، أو ما ينشب بين الطواغيت أنفسهم من حروب تطال من بين ظهرانيهم من الناس، وذلك دون أي اعتبار لدماء المسلمين ولا أموالهم، ولو جاهد الناس في سبيل ربهم لكان خيرا لهم.

ومنه العذاب المعنوي بتقريع القاعد أن الله في غنى عنه وذاك في قوله تعالى: { وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا } وأن الله سيستبدل به من هو خير منه؛ لأنه الأذل والأدنى، كما قال سبحانه: { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ }.

ومن ذلك أيضا أن يُفتن عن دينه بانتكاسة وتراجع حتى عن الاستقامة على طاعة الله أحيانا، تحت حجة ضغط الواقع، كما زعم قوم أن الجهاد فتنة فإذا هم ساقطون في الفتنة، قال الله تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي ۚ أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } وأكبر منها أن يعذب بسقوطه في موالاة الطواغيت والتذلّل إليهم لخوف أو شهوة أو شبهة، فيذهب دينه والعياذ بالله ومردّ ذلك حب الدنيا وكراهية الموت وهذا عذاب شديد حين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف فـ { كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ }، وقد رأينا بعض الذين تركوا الجهاد وفارقوا ساحاته، انتهى بهم المطاف جنوداً وعبيداً للطاغوت بعد أن كانوا جنوداً وعبيداً لله، وبالجملة فإن القعود معصية لله رب العالمين ووقوع فيما فيه سخطه سبحانه، وخصلة من خصال المنافقين وكبيرة من كبائر الذنوب، ولو تفكر القاعد في الوعيد الذي كررته آيات القرآن في حق القاعدين، لما أمن من مكر الله، ولأصبح حريصاً للنفير طالباً للجهاد، خاشياً أن ينزل عليه العذاب، أو يأتيه الموت وهو على ذلك.

◽ المصدر: صحيفة النبأ العدد 472
الخميس 4 جمادى الآخرة 1446 هـ

مقال:
إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا