تثبّت قبل أن تحكم وتنقل • والحكم والنقل لأولي الأمر بمثابة شهادة، يجب أن تراعى فيهما المصداقية ...
تثبّت قبل أن تحكم وتنقل
• والحكم والنقل لأولي الأمر بمثابة شهادة، يجب أن تراعى فيهما المصداقية والتجرد، قال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين للّه شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ علىٰ ألّا تعدلوا} [المائدة: 8]، قال الطبري: «يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم.. ولا يحملنكم عداوة قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة».
مراحل التثبت من الخبر:
هذا، وعلى المسلم أن يعلم أن التثبت من الخبر والواقعة ثلاث مراحل يجب استيفاؤها جميعا قبل الحكم أو الشكوى، وهي:
1- التثبت من صحة الخبر أو الواقعة: ويتحصل بالاطمئنان إلى صحة أصل الخبر وحقيقة وقوع الواقعة، لأن الخبر قد يكون كذبا والواقعة مختلقة فعندها يرفض الخبر وترد الواقعة.
2- التثبت من دقة الكلام ووضوح الواقعة: فقد يكون أصل الخبر صحيحا والواقعة حقيقية ولكن يتبين فيما بعد أن تفاصيل الخبر ليست كما نقل، وأحداث الواقعة ليست كما عرضت، ومن هنا تنشأ الشائعات بتسلسل النقل المعنعن المعلول.
3- التثبت من دقة فهم الناقل واستيعابه: فقد يكون الشخص صادقا ولكنه سيء الفهم بطيء الاستيعاب، فيفهم الكلام على غير مقصوده، فينقله لغيره بفهمه الخاطئ.
وهذه المراحل الثلاث من التثبت لا بد لكل مسلم يخشى الله أن يجتازها قبل أن يحكم أو أن ينقل خبرا أو واقعة معينة.
الكذب الكسبي:
إن قصر المسلم في التثبت من صحة الخبر ودقة الكلام وفهمه، فإن ذلك ربما يدخله في الكذب الكسبي! فما هو الكذب الكسبي؟
قال ابن حجر: «الكذب: هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، سواء كان عمدا أم خطأ» [فتح الباري]، وقال النووي: «الكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو، سواء تعمدت ذلك أم جهلته» [الأذكار].
ومن هنا فإن الكذب نوعان:
كذب ذاتي: وهو تعمد الإنسان قول خلاف الحق، وكذب كسبي: وصاحبه ليس كذابا متعمدا، ولكن يناله نصيب من الكذب بما ينقله من الأخبار التي يسمعها من الآخرين دون تبين ولا تثبت.
وعن هذا القسم قال الله تعالى: {إذ تلقّونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم مّا ليس لكم به علمٌ وتحسبونه هيّنًا وهو عند اللّه عظيمٌ} [النور: 15].
فهؤلاء خاضوا في حادثة الإفك دون تثبت وتبين وتأكد، فما أن طرق خبر الطعن في عرض أمنا الصديقة بنت الصديق عائشة -رضي الله عنهما- أسماعهم حتى انساب حديثه على ألسنتهم، والصياغة تدل على سرعة روايته عن غيره، وسرعة تكلمه بما سمع، فكأنه تلقى الخبر بلسانه وليس بأذنه!
قال ابن أبي حاتم في تفسيره: «عن سعيد بن جبير في قول الله: {إذ تلقّونه بألسنتكم}، وذلك حين خاضوا في أمر عائشة، فقال بعضهم سمعت من فلان يقول كذا وكذا، فقال بعضهم بلى كان كذا وكذا، فقال تلقونه بألسنتكم، يعني: يرويه بعض عن بعض، سمعتم من فلان، وسمعتم من فلان، وفي قوله: {بأفواهكم} يعني: بألسنتكم، يعني: من قذفوها، وفي قوله: {مّا ليس لكم به علمٌ} يعني: من غير أن تعلموا أن الذي قلتم من القذف حق».
أصناف نقلة الأخبار:
وعلى المسلم أن يعلم أن نقلة الخبر أصناف كثيرة، فناقل الأخبار إما أنه ناصح، فتشترط فيه عندها ليكون كذلك شروط، هي:
أ- النية الصالحة.
ب- الصدق.
ج- الضبط (الضبط حين السماع، والضبط حين الأداء).
د- مخاطبة المنصوح مباشرة، لأن من حق المسلم على المسلم أن ينصحه، أما إن تجاوزه وتحدث أمام غيره، فإن ذلك ليس من النصح في شيء، بل هو الغيبة والتشهير والتأليب وإن لم يقصده.
فإن لم تتحقق هذه الشروط مجتمعة صار الناقل من أصناف نقلة الأخبار الأخرى المذمومة السيئة، التي منها:
1. إما أن يكون الناقل مفتريا، نسب إلى مسلم ما ليس فيه، وعنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال) [صحيح، رواه أحمد وغيره].
2. وإما أنه بهات، وفيه قال تعالى: {والّذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مّبينًا} [الأحزاب: 58]، قال ابن كثير: «أي: ينسبون إليهم ما هم برآء منه لم يعملوه ولم يفعلوه، وهذا هو البهت البين، أن يحكي عن المؤمنين ما لم يفعلوه، على سبيل العيب والتنقص».
3. وإما أنه نمام، أراد الإيقاع بين من ينقل عنه وبين من ينقل إليه، و(لا يدخل الجنة نمام) كما قال المصطفى -صلوات الله وسلامه عليه- في الحديث الذي رواه مسلم.
نصيحة وخاتمة:
فيا أخا الإسلام، حينما ترى في أخيك المسلم أمرا أو تسمع عنه شيئا، لا تتعجل الحكم ولا تنقل لغيرك قبل أن تتثبت، وكن في ذلك ناصحا أمينا صادقا دقيقا عادلا متجردا لله تعالى، وإياك إياك من الظلم والكذب والنميمة والبهتان وسائر الأخلاق الذميمة التي لا تليق بالمؤمنين.
◽ المصدر: صحيفة النبأ – العدد 23
السنة السابعة - الثلاثاء 12 جمادى الآخرة 1437 هـ
مقتطف من مقال:
تثبّت قبل أن تحكم وتنقل
• والحكم والنقل لأولي الأمر بمثابة شهادة، يجب أن تراعى فيهما المصداقية والتجرد، قال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين للّه شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ علىٰ ألّا تعدلوا} [المائدة: 8]، قال الطبري: «يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم.. ولا يحملنكم عداوة قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة».
مراحل التثبت من الخبر:
هذا، وعلى المسلم أن يعلم أن التثبت من الخبر والواقعة ثلاث مراحل يجب استيفاؤها جميعا قبل الحكم أو الشكوى، وهي:
1- التثبت من صحة الخبر أو الواقعة: ويتحصل بالاطمئنان إلى صحة أصل الخبر وحقيقة وقوع الواقعة، لأن الخبر قد يكون كذبا والواقعة مختلقة فعندها يرفض الخبر وترد الواقعة.
2- التثبت من دقة الكلام ووضوح الواقعة: فقد يكون أصل الخبر صحيحا والواقعة حقيقية ولكن يتبين فيما بعد أن تفاصيل الخبر ليست كما نقل، وأحداث الواقعة ليست كما عرضت، ومن هنا تنشأ الشائعات بتسلسل النقل المعنعن المعلول.
3- التثبت من دقة فهم الناقل واستيعابه: فقد يكون الشخص صادقا ولكنه سيء الفهم بطيء الاستيعاب، فيفهم الكلام على غير مقصوده، فينقله لغيره بفهمه الخاطئ.
وهذه المراحل الثلاث من التثبت لا بد لكل مسلم يخشى الله أن يجتازها قبل أن يحكم أو أن ينقل خبرا أو واقعة معينة.
الكذب الكسبي:
إن قصر المسلم في التثبت من صحة الخبر ودقة الكلام وفهمه، فإن ذلك ربما يدخله في الكذب الكسبي! فما هو الكذب الكسبي؟
قال ابن حجر: «الكذب: هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، سواء كان عمدا أم خطأ» [فتح الباري]، وقال النووي: «الكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو، سواء تعمدت ذلك أم جهلته» [الأذكار].
ومن هنا فإن الكذب نوعان:
كذب ذاتي: وهو تعمد الإنسان قول خلاف الحق، وكذب كسبي: وصاحبه ليس كذابا متعمدا، ولكن يناله نصيب من الكذب بما ينقله من الأخبار التي يسمعها من الآخرين دون تبين ولا تثبت.
وعن هذا القسم قال الله تعالى: {إذ تلقّونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم مّا ليس لكم به علمٌ وتحسبونه هيّنًا وهو عند اللّه عظيمٌ} [النور: 15].
فهؤلاء خاضوا في حادثة الإفك دون تثبت وتبين وتأكد، فما أن طرق خبر الطعن في عرض أمنا الصديقة بنت الصديق عائشة -رضي الله عنهما- أسماعهم حتى انساب حديثه على ألسنتهم، والصياغة تدل على سرعة روايته عن غيره، وسرعة تكلمه بما سمع، فكأنه تلقى الخبر بلسانه وليس بأذنه!
قال ابن أبي حاتم في تفسيره: «عن سعيد بن جبير في قول الله: {إذ تلقّونه بألسنتكم}، وذلك حين خاضوا في أمر عائشة، فقال بعضهم سمعت من فلان يقول كذا وكذا، فقال بعضهم بلى كان كذا وكذا، فقال تلقونه بألسنتكم، يعني: يرويه بعض عن بعض، سمعتم من فلان، وسمعتم من فلان، وفي قوله: {بأفواهكم} يعني: بألسنتكم، يعني: من قذفوها، وفي قوله: {مّا ليس لكم به علمٌ} يعني: من غير أن تعلموا أن الذي قلتم من القذف حق».
أصناف نقلة الأخبار:
وعلى المسلم أن يعلم أن نقلة الخبر أصناف كثيرة، فناقل الأخبار إما أنه ناصح، فتشترط فيه عندها ليكون كذلك شروط، هي:
أ- النية الصالحة.
ب- الصدق.
ج- الضبط (الضبط حين السماع، والضبط حين الأداء).
د- مخاطبة المنصوح مباشرة، لأن من حق المسلم على المسلم أن ينصحه، أما إن تجاوزه وتحدث أمام غيره، فإن ذلك ليس من النصح في شيء، بل هو الغيبة والتشهير والتأليب وإن لم يقصده.
فإن لم تتحقق هذه الشروط مجتمعة صار الناقل من أصناف نقلة الأخبار الأخرى المذمومة السيئة، التي منها:
1. إما أن يكون الناقل مفتريا، نسب إلى مسلم ما ليس فيه، وعنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال) [صحيح، رواه أحمد وغيره].
2. وإما أنه بهات، وفيه قال تعالى: {والّذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مّبينًا} [الأحزاب: 58]، قال ابن كثير: «أي: ينسبون إليهم ما هم برآء منه لم يعملوه ولم يفعلوه، وهذا هو البهت البين، أن يحكي عن المؤمنين ما لم يفعلوه، على سبيل العيب والتنقص».
3. وإما أنه نمام، أراد الإيقاع بين من ينقل عنه وبين من ينقل إليه، و(لا يدخل الجنة نمام) كما قال المصطفى -صلوات الله وسلامه عليه- في الحديث الذي رواه مسلم.
نصيحة وخاتمة:
فيا أخا الإسلام، حينما ترى في أخيك المسلم أمرا أو تسمع عنه شيئا، لا تتعجل الحكم ولا تنقل لغيرك قبل أن تتثبت، وكن في ذلك ناصحا أمينا صادقا دقيقا عادلا متجردا لله تعالى، وإياك إياك من الظلم والكذب والنميمة والبهتان وسائر الأخلاق الذميمة التي لا تليق بالمؤمنين.
◽ المصدر: صحيفة النبأ – العدد 23
السنة السابعة - الثلاثاء 12 جمادى الآخرة 1437 هـ
مقتطف من مقال:
تثبّت قبل أن تحكم وتنقل