الرِّفقُ خُلُق الأنبياء (2/1) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن ...

الرِّفقُ خُلُق الأنبياء
(2/1)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن الله تعالى رفيق يحب الرفق في الأمر كله [حديث متفق عليه]، وقد حثّ سبحانه صفوة خلقه نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- على الترفق بالمسلمين فقال له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [سورة آل عمران: 159] وقال له جل جلاله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الشعراء: 215].

فكان -صلوات الله وسلامه عليه- أرفق الناس بالناس، بل كان الرفق علامة من علامات نبوته -صلى الله عليه وسلم- ومن صور رفقه ما رواه مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي، قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم؟ تنظرون إلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله، ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن).
وما رواه البخاري عن أبي هريرة –رضي الله عنه- في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، وقوله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، رضي الله عنهم: (دعوه وهريقوا على بوله سَجلا من ماء، أو ذَنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين).

وروى الشيخان عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت للنبي، صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحُد؟ قال: (لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلّم عليّ، ثم قال: يا محمد فقال ذلك فيما شئت إن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا).

وهذا مع قوم آذوه وسبوه وسفهوه وطاردوه، صلى الله عليه وسلم.

ولما كانت هذه منزلة الرفق بالناس من الدين، حث عليها أرفق الناس بالناس، رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أحاديث كثيرة صحيحة، كقوله، صلى الله عليه وسلم: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه) وقوله: (يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا)، وقوله: (ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل قريب هيِّن ليِّن سهل).

كما تبرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- من فعل كل عنيف غليظ بغير حق، فقال: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم، فارفق به) [رواه مسلم]، وقال: (ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر) [متفق عليه].

ويروى أن رجلا قبطيا من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: يا أمير المؤمنين! سابقت ابن عمرو بن العاص (وكان والي مصر آنذاك) فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين! فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم ويجلب ابنه معه، فلما قدم، قال عمر للمصري: خذ السوط فاضربه، فجعل يضرب، وعمر يردد: «اضرب ابن الأكرمين»، ثم التفت عمر لعمرو وقال له: «مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!» فقال عمرو: يا أمير المؤمنين! لم أعلم ولم يأتني [جامع الأحاديث للسيوطي].

فانظر -أخي- كيف يقتص لـمعاهد من ابن صحابي! كيف لا وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من إيذاء الكافر الذمي، إن كان من رعية الدولة الإسلامية، فقال: (ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة) [صحيح، رواه أبو داود].
ومن هنا ندعوك -أخانا المسلم- إلى التحلي بهذا الخلق العظيم، فكن محظوظا برفقك ولا تكن محروما بفضاضتك، (فمن أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير ومن حُرِم حظه من الرفق فقد حُرِم حظه من الخير) [رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح]، وليكن أمرك بالمعروف معروفا، ولا يكن نهيك عن المنكر منكرا، واختر أحسن كلماتك وعباراتك.

واعلم أن الكلمة الطيبة صدقة، وتبسَّم في وجوه المسلمين ليطمئنوا إليك، واعلم أن تبسمك في وجه أخيك المسلم صدقة.

وإياك إياك أن تحكم على الناس بالهلاك، وترى نفسك أنت وحدك الناجي! وإلا كنت أنت أهلك الناس أو أنك أنت الذي أهلكتهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلَكُهم) [رواه مسلم]، وفي رواية (فهو أهلَكَهم)، وكلا المعنيين صحيح.


◽ المصدر: صحيفة النبأ - العدد 32
شعبان 1437 ه‍ـ