إن هي إلا أسماء سمّيتموها إن من يرجع إلى تاريخ الوثنية والأوثان، يجد أنهم من سخف عقولهم كانوا ...
إن هي إلا أسماء سمّيتموها
إن من يرجع إلى تاريخ الوثنية والأوثان، يجد أنهم من سخف عقولهم كانوا يصنعون أوثانهم بأيديهم ثم يطلقون على ما صنعوه الأسماء المفخّمة، ويعطونها الأوصاف التي لا تجوز لغير الله عز وجل، ليتّخذوها بذلك آلهة من دون الله.
فإذا غاب عنهم الوثن أو فُقد، لتحطّمه أو سرقته أو لصعوبة نقله في الأسفار، لم يجد الوثني غضاضة في أن يصنع لنفسه وثنا جديدا، يطلق عليه نفس الاسم، ويعطيه بذلك نفس الصفات التي سبق له أن أعطاها للوثن الأصلي، بل يروى عن سفهاء الجاهلية أن أحدهم إذا ما نزل منزلا في سفره اختار من حجارة الأرض التي ينزل فيها أربعة أحجار، يجعل ثلاثا منها أثافي للقدر، ويتخذ من الرابع وثنا يعبده، بعد أن يعطيه اسم «إله»، وبالتالي يحوز الحجر الجديد صفات «الإله» بمجرد إكسابه هذا الاسم.
ومما يؤكّد هذه الحقيقة أيضا الروايات المختلفة عن دخول الأوثان إلى جزيرة العرب، التي تُجمع على أنها نُقلت بأعداد قليلة من البلدان المجاورة، ثم انتشرت بكثرة في أنحاء الجزيرة كلها، فالذي انتشر هو أسماء الأوثان المعبودة في بلدان أخرى، اقتبسها مشركو جزيرة العرب عن إخوانهم في العراق والشام وفارس والروم ومصر، بل إن من يدرس تاريخ الحضارات الجاهلية القديمة يجد أن كثيرا من أوثان اليونان والرومان والفرس والهند والصين انتشرت في الأرض بسبب هذا الأمر، إذ يأخذ كل شعب عمَّن يجاوره أسماء أوثانه بعد ذيوع صيتها، ليلقيها على ما في بلده من الحجارة والأشجار، وما يراه فيه من النجوم والكواكب، مع اختلافات بسيطة في اللفظ ترجع لاختلاف اللغات.
هذه الحقيقة في الأساس مرجعها إلى كتاب الله -عز وجل- الذي بين هذا الأمر في خطابه للمشركين: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَىٰ * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ} [النجم: 19-23]، كما جاء هذا البيان للمشركين على لسان نبي الله هود -عليه السلام- لقومه لما استنكروا عليه أمره لهم بعبادة الله وحدة وترك ما يعبدون من الأوثان: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} [الأعراف: 71]، وكرّر يوسف -عليه السلام- المعنى ذاته في دعوته لمن معه في السجن إلى عبادة الله وحده فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 39-40].
ولا زلنا نرى اليوم هذه الصورة من الوثنية البدائية لدى الوثنيين في كثير من أصقاع العالم، فها هم الوثنيون المشركون في الصين والهند ما زالوا يصنعون التماثيل بأيديهم ثم يطلقون عليها أسماء بوذا وأشباهه من الطواغيت، وهم في عقولهم القاصرة وأفهامهم الفاسدة يعتقدون أنه بمجرد أن تنحت حجرا بصورة معينة وتطلق عليه اسما معينا فإن روح الطاغوت ستحل في هذا الحجر ويصبح بذلك سامعا لدعائهم، بصيرا بسجودهم له، فرحا باجتماعهم حوله في معبده، ولو نظرنا في حقيقة الأمر فهؤلاء المشركون إنما يعبدون الأسماء التي أطلقوها على تلك الأحجار المنحوتة، التي هي أسماء طواغيتهم الذين ليس لهم وجود في عالم الواقع غير تلك الأسماء.
وفي ظل ما نشاهده في أيامنا هذه من عبودية للتنظيمات والفصائل والأحزاب، فإننا إذا دققنا في واقع تلك التجمعات من البشر نجد أن أتباعها إنما يتّبعون سبيل المشركين في تقديسهم الأسماء التي لم يأمر الله بتقديسها، بل ويعبدون تلك الأسماء بطريقة أو بأخرى، شاءوا الاعتراف بذلك أم أبوا، علموا ذلك أم لم يعلموا، ولا أدلّ على ذلك من تمسّكهم بتلك التنظيمات المنحرفة، تعصّبا لأسمائها المشهورة، واعتقادا من كثير منهم أن بقاء الإسلام مرتبط ببقاء أسماء فصائلهم وتنظيماتهم، وحرصا دائما على مبارزة الخصوم بتاريخها الذي كتبوه بأيديهم ليزيدوا من خلاله من بريق تلك الأسماء.
ومن يراجع تاريخ تلك التنظيمات والأحزاب الذي يمتد أحيانا لدى بعضها إلى ما يقارب القرن من الزمان يجد أنها غيرت من عقيدتها ومنهجها عدة مرات، وأنه تعاقب عليها أجيال من القيادات والأتباع، فمنهم من هلك، ومنهم من ترك، ومنهم من انشق وشكل تنظيما جديدا، ورغم ذلك بقي الثابت الوحيد لديهم هو الاسم، حتى غدا هذا الاسم وكأنه الصنم الذي يبقى معبودا لأجيال عديدة، وكلما استجد عليه جيل من الناس كسوه حلة جديدة، وصوروه بصورة جديدة، فلا يبقى له من حاله القديمة غير الاسم الذي لا يتغير بتغير حاله، ولا بتغير عبيده.
ومن يشاهد حال الكثير من هذه الفصائل والتجمعات، يرى أنها كلما نشبت بين قادتها النزاعات، وتعرضت للتفرق والانشقاقات، فإن المتنازعين لا يتصارعون على الأتباع والمقرات والممتلكات بقدر صراعهم على حيازة اسم التنظيم، وذلك لاعتقادهم أن حيازة الاسم سيعطيهم الشرعية، ويجذب إليهم الأتباع والأنصار، ونادرا ما يتخذ المنشقون اسما جديدا لتجمعهم، لأن ذلك يعني أنهم سيمضون سنين في بناء الاسم الجديد وتعظيمه في عيون الخلق، لذلك يتصارعون حول الاسم الأصلي، فمن يحوزه يتمسك به، ومن يخسر الصراع يشتق لنفسه اسما قريبا من الاسم الأصلي يكون غالبا بإضافة كلمات جديدة عليه، توحي أن الحزب الجديد يمتلك كامل رصيد الاسم الأصلي ويزيد عليه بما استجد من شعارات تعكسها الزيادة على الاسم.
بل ونجد أنه ما إن ينتشر اسم لفصيل أو تنظيم ويصبح مشهورا، حتى يسارع بعض المفتونين بالأسماء إلى تبنّي هذا الاسم وإسباغه على تنظيماتهم وأحزابهم الجديدة، رغم عدم وجود ارتباط تنظيمي حقيقي بين التنظيم الأصلي، والتنظيمات الجديدة التي ليس لها من علاقة به غير تشابه الأسماء، وما ذلك إلا لقناعة لدى المتأخرين بأن تبني الاسم المشهور للجماعة سيسرع من عملية استقطاب الأنصار إليها.
بل ونجد بعضهم يصيبهم الكبر والغرور لمجرد استيلائهم على اسم مشهور، فيخيل لهم شياطينهم أنهم بحيازتهم لهذا الاسم وقدرتهم على منح الموافقة لتوزيع هذا الاسم على من يرتضون من التنظيمات والفصائل، أنهم صاروا بذلك أوصياء على دين الله، فلا يتعبّد اللهَ أحدٌ من الناس بهذه العبادة أو تلك إلا بإذنهم، وأنهم بامتلاكهم للاسم المشهور يحق لهم وحدهم قيادة الأمة، ويجنّ جنونهم إذا ظهر اسم جديد وانتشر واشتهر بين الناس، فلا يرون ذلك إلا مؤامرة على الدين، وحربا على الإسلام والمسلمين.
ولو دققنا في أكثر الأسماء المشهورة اليوم في عالم الأحزاب والتنظيمات، نجدها لا علاقة لها بواقع التنظيم ولا عقيدته ولا منهجه، إن لم يكن الاسم مناقضا كل التناقض لذلك، فإذا انطفأ بريق الاسم الذي يعمي الأبصار عن رؤية ما تحته من واقع، أصيب المفتونون بالصدمة، كصدمة المشرك الوثني عندما يزيل عن وثنه المعبود ذلك الاسم البراق الذي أسبغه عليه، أو تبع آباءه وأجداده في إبقائه ملتصقا به، فلا يجد في حقيقة الوثن غير قطعة من حجر لا تختلف في طبيعتها عن حجارة الأرض.
لذلك ينبغي أن ينظر المسلم إلى حقائق الأمور لا إلى أسمائها، وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من فتنة الأسماء واتباع المفتونين فيها بقوله: (ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها) [حديث صحيح رواه أبو داود وابن ماجه]، وكما أن تسمية الخمر بغير اسمها لا يرفع عنها حكم التحريم، ما دامت فيها حقيقة الإسكار، فكذلك الأمور كلها، أسماؤها مرتبطة بأوصافها، فما حمل الوصف، حمل الاسم، وحمل الحكم، وليعلم المسلم أنما تعبّده الله بالإسلام، ولم يفرض عليه تعظيم اسم لم يعظمه بنفسه أو يعظمه نبيه، وأن الله -عز وجل- لن يسأله يوم القيامة عن أسماء التنظيمات والأحزاب، ولكنه سائله عن عمله، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.
* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 42
الثلاثاء 5 ذو القعدة 1437 هـ
لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at
إن من يرجع إلى تاريخ الوثنية والأوثان، يجد أنهم من سخف عقولهم كانوا يصنعون أوثانهم بأيديهم ثم يطلقون على ما صنعوه الأسماء المفخّمة، ويعطونها الأوصاف التي لا تجوز لغير الله عز وجل، ليتّخذوها بذلك آلهة من دون الله.
فإذا غاب عنهم الوثن أو فُقد، لتحطّمه أو سرقته أو لصعوبة نقله في الأسفار، لم يجد الوثني غضاضة في أن يصنع لنفسه وثنا جديدا، يطلق عليه نفس الاسم، ويعطيه بذلك نفس الصفات التي سبق له أن أعطاها للوثن الأصلي، بل يروى عن سفهاء الجاهلية أن أحدهم إذا ما نزل منزلا في سفره اختار من حجارة الأرض التي ينزل فيها أربعة أحجار، يجعل ثلاثا منها أثافي للقدر، ويتخذ من الرابع وثنا يعبده، بعد أن يعطيه اسم «إله»، وبالتالي يحوز الحجر الجديد صفات «الإله» بمجرد إكسابه هذا الاسم.
ومما يؤكّد هذه الحقيقة أيضا الروايات المختلفة عن دخول الأوثان إلى جزيرة العرب، التي تُجمع على أنها نُقلت بأعداد قليلة من البلدان المجاورة، ثم انتشرت بكثرة في أنحاء الجزيرة كلها، فالذي انتشر هو أسماء الأوثان المعبودة في بلدان أخرى، اقتبسها مشركو جزيرة العرب عن إخوانهم في العراق والشام وفارس والروم ومصر، بل إن من يدرس تاريخ الحضارات الجاهلية القديمة يجد أن كثيرا من أوثان اليونان والرومان والفرس والهند والصين انتشرت في الأرض بسبب هذا الأمر، إذ يأخذ كل شعب عمَّن يجاوره أسماء أوثانه بعد ذيوع صيتها، ليلقيها على ما في بلده من الحجارة والأشجار، وما يراه فيه من النجوم والكواكب، مع اختلافات بسيطة في اللفظ ترجع لاختلاف اللغات.
هذه الحقيقة في الأساس مرجعها إلى كتاب الله -عز وجل- الذي بين هذا الأمر في خطابه للمشركين: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَىٰ * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ} [النجم: 19-23]، كما جاء هذا البيان للمشركين على لسان نبي الله هود -عليه السلام- لقومه لما استنكروا عليه أمره لهم بعبادة الله وحدة وترك ما يعبدون من الأوثان: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} [الأعراف: 71]، وكرّر يوسف -عليه السلام- المعنى ذاته في دعوته لمن معه في السجن إلى عبادة الله وحده فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 39-40].
ولا زلنا نرى اليوم هذه الصورة من الوثنية البدائية لدى الوثنيين في كثير من أصقاع العالم، فها هم الوثنيون المشركون في الصين والهند ما زالوا يصنعون التماثيل بأيديهم ثم يطلقون عليها أسماء بوذا وأشباهه من الطواغيت، وهم في عقولهم القاصرة وأفهامهم الفاسدة يعتقدون أنه بمجرد أن تنحت حجرا بصورة معينة وتطلق عليه اسما معينا فإن روح الطاغوت ستحل في هذا الحجر ويصبح بذلك سامعا لدعائهم، بصيرا بسجودهم له، فرحا باجتماعهم حوله في معبده، ولو نظرنا في حقيقة الأمر فهؤلاء المشركون إنما يعبدون الأسماء التي أطلقوها على تلك الأحجار المنحوتة، التي هي أسماء طواغيتهم الذين ليس لهم وجود في عالم الواقع غير تلك الأسماء.
وفي ظل ما نشاهده في أيامنا هذه من عبودية للتنظيمات والفصائل والأحزاب، فإننا إذا دققنا في واقع تلك التجمعات من البشر نجد أن أتباعها إنما يتّبعون سبيل المشركين في تقديسهم الأسماء التي لم يأمر الله بتقديسها، بل ويعبدون تلك الأسماء بطريقة أو بأخرى، شاءوا الاعتراف بذلك أم أبوا، علموا ذلك أم لم يعلموا، ولا أدلّ على ذلك من تمسّكهم بتلك التنظيمات المنحرفة، تعصّبا لأسمائها المشهورة، واعتقادا من كثير منهم أن بقاء الإسلام مرتبط ببقاء أسماء فصائلهم وتنظيماتهم، وحرصا دائما على مبارزة الخصوم بتاريخها الذي كتبوه بأيديهم ليزيدوا من خلاله من بريق تلك الأسماء.
ومن يراجع تاريخ تلك التنظيمات والأحزاب الذي يمتد أحيانا لدى بعضها إلى ما يقارب القرن من الزمان يجد أنها غيرت من عقيدتها ومنهجها عدة مرات، وأنه تعاقب عليها أجيال من القيادات والأتباع، فمنهم من هلك، ومنهم من ترك، ومنهم من انشق وشكل تنظيما جديدا، ورغم ذلك بقي الثابت الوحيد لديهم هو الاسم، حتى غدا هذا الاسم وكأنه الصنم الذي يبقى معبودا لأجيال عديدة، وكلما استجد عليه جيل من الناس كسوه حلة جديدة، وصوروه بصورة جديدة، فلا يبقى له من حاله القديمة غير الاسم الذي لا يتغير بتغير حاله، ولا بتغير عبيده.
ومن يشاهد حال الكثير من هذه الفصائل والتجمعات، يرى أنها كلما نشبت بين قادتها النزاعات، وتعرضت للتفرق والانشقاقات، فإن المتنازعين لا يتصارعون على الأتباع والمقرات والممتلكات بقدر صراعهم على حيازة اسم التنظيم، وذلك لاعتقادهم أن حيازة الاسم سيعطيهم الشرعية، ويجذب إليهم الأتباع والأنصار، ونادرا ما يتخذ المنشقون اسما جديدا لتجمعهم، لأن ذلك يعني أنهم سيمضون سنين في بناء الاسم الجديد وتعظيمه في عيون الخلق، لذلك يتصارعون حول الاسم الأصلي، فمن يحوزه يتمسك به، ومن يخسر الصراع يشتق لنفسه اسما قريبا من الاسم الأصلي يكون غالبا بإضافة كلمات جديدة عليه، توحي أن الحزب الجديد يمتلك كامل رصيد الاسم الأصلي ويزيد عليه بما استجد من شعارات تعكسها الزيادة على الاسم.
بل ونجد أنه ما إن ينتشر اسم لفصيل أو تنظيم ويصبح مشهورا، حتى يسارع بعض المفتونين بالأسماء إلى تبنّي هذا الاسم وإسباغه على تنظيماتهم وأحزابهم الجديدة، رغم عدم وجود ارتباط تنظيمي حقيقي بين التنظيم الأصلي، والتنظيمات الجديدة التي ليس لها من علاقة به غير تشابه الأسماء، وما ذلك إلا لقناعة لدى المتأخرين بأن تبني الاسم المشهور للجماعة سيسرع من عملية استقطاب الأنصار إليها.
بل ونجد بعضهم يصيبهم الكبر والغرور لمجرد استيلائهم على اسم مشهور، فيخيل لهم شياطينهم أنهم بحيازتهم لهذا الاسم وقدرتهم على منح الموافقة لتوزيع هذا الاسم على من يرتضون من التنظيمات والفصائل، أنهم صاروا بذلك أوصياء على دين الله، فلا يتعبّد اللهَ أحدٌ من الناس بهذه العبادة أو تلك إلا بإذنهم، وأنهم بامتلاكهم للاسم المشهور يحق لهم وحدهم قيادة الأمة، ويجنّ جنونهم إذا ظهر اسم جديد وانتشر واشتهر بين الناس، فلا يرون ذلك إلا مؤامرة على الدين، وحربا على الإسلام والمسلمين.
ولو دققنا في أكثر الأسماء المشهورة اليوم في عالم الأحزاب والتنظيمات، نجدها لا علاقة لها بواقع التنظيم ولا عقيدته ولا منهجه، إن لم يكن الاسم مناقضا كل التناقض لذلك، فإذا انطفأ بريق الاسم الذي يعمي الأبصار عن رؤية ما تحته من واقع، أصيب المفتونون بالصدمة، كصدمة المشرك الوثني عندما يزيل عن وثنه المعبود ذلك الاسم البراق الذي أسبغه عليه، أو تبع آباءه وأجداده في إبقائه ملتصقا به، فلا يجد في حقيقة الوثن غير قطعة من حجر لا تختلف في طبيعتها عن حجارة الأرض.
لذلك ينبغي أن ينظر المسلم إلى حقائق الأمور لا إلى أسمائها، وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من فتنة الأسماء واتباع المفتونين فيها بقوله: (ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها) [حديث صحيح رواه أبو داود وابن ماجه]، وكما أن تسمية الخمر بغير اسمها لا يرفع عنها حكم التحريم، ما دامت فيها حقيقة الإسكار، فكذلك الأمور كلها، أسماؤها مرتبطة بأوصافها، فما حمل الوصف، حمل الاسم، وحمل الحكم، وليعلم المسلم أنما تعبّده الله بالإسلام، ولم يفرض عليه تعظيم اسم لم يعظمه بنفسه أو يعظمه نبيه، وأن الله -عز وجل- لن يسأله يوم القيامة عن أسماء التنظيمات والأحزاب، ولكنه سائله عن عمله، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.
* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 42
الثلاثاء 5 ذو القعدة 1437 هـ
لقراءة المقال كاملاً، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at