أمير نشر الإسلام في بلاد السودان عرضنا في المقالة السابقة شيئا من مسيرة الفقيه المجدد عبد الله ...

أمير نشر الإسلام في بلاد السودان

عرضنا في المقالة السابقة شيئا من مسيرة الفقيه المجدد عبد الله بن ياسين في تكوين الدولة المرابطية المجاهدة، هذا الرجل الذي أنشأ فضلا عن الدولة جيلا يحمل الراية من بعده، كان منه يوسف بن تاشفين الذي توجه بجيوش المسلمين شمالا فعبر إلى الأندلس وهزم الصليبيين، وكان منه كذلك القائد المظفر أبو بكر بن عمر الذي عَبر رمال الصحراء حاملا الإسلام وحكم الشريعة إلى إفريقية.

وإن ممَّا يميز سيرة هذا الرجل هو تضحيته بكل شيء خدمةً لدينه وأمته، حرصا منه على وحدة صفها وعلو شأنها، ولم يكن ابن عمر ممن يسعى لخدمة نفسه ومصالحها على حساب الأمة ووحدتها، كما هو حال كثير ممن انتسب إلى هذه الأمة في الغابر والحاضر.

- القائد العسكري الجديد

بدأت مسيرة ابن لمتونة وأميرها متعلماً على يد ابن ياسين ثم قائدا عسكريا لجيوشه، ففي المحرم سنة (448 هـ) تولى أبو بكر بن عمر القيادة العسكرية للمرابطين خلفا لأخيه يحيى بن عمر، وواصل تحت إشراف الفقيه ابن ياسين مسيرة الجهاد.

غزو الروافض البجلية

وفي السنة ذاتها (448 هـ) غزا أبو بكر بن عمر بلاد السوس، وفي سنة (449 هـ) افتتح ماسة وتارودانت، وكانت هذه المدن من معاقل الرافضة في المغرب، قال السلاوي في الاستقصا: «وكان بها قوم من الرافضة يُقال لهم البجلية، نسبة إلى عليّ بن عبد الله البَجلِيّ الرافضي... فقاتلهم عبد الله بن ياسين وأبو بكر بن عمر حتى فتحوا مدينة تارودانت عنوة، وقتلوا بها خلقا كثيرا، ورجع من بقي منهم إلى مذهب السنة والجماعة».

- خليفة الشيخ بن ياسين يكمل مسيرته

وبعد استئصال الرافضة سار ابن عمر مع شيخه ابن ياسين لقتال قبائل برغواطة ذات المعتقدات الشبيهة بعقائد المجوسية، وفي أثناء هذه الحرب أصيب عبد الله بن ياسين وكانت بها شهادته، كما نحسبه، فآلت إمارة المرابطين كاملة إلى أبي بكر بن عمر، قال السلاوي: «فكان أول ما فعله بعد تجهيزه إيّاه ودفنه [ابن ياسين] أن زحف إلى برغواطة مصمما في حربهم، متوكلا على الله في جهادهم، فأثخن فيهم قتلا وسبيا حتى تفرقوا في المكامن والغياض، واستأصل شأفتهم وأسلم الباقون إسلاما جديدا، ومحا أبو بكر بن عمر أثر دعوتهم من المغرب وجمع غنائمهم وقسمها بين المرابطين وعاد إلى مدينة أغمات»، وهذا نصر آخر يضاف إلى سلسلة انتصارات ابن عمر في حرب أهل الضلالة ونشر التوحيد، وبهذا أيضا فتحت الدنيا ذراعيها لأبي بكر بن عمر الذي غدا القائد الوحيد للمرابطين.

- أبو بكر بن عمر يترك المغرب متوجها إلى الصحراء

ولكن الأمور لم تدم صافية لابن عمر في إمارة قومه ببلاد المغرب المفتتحة، فبعد أن حقق كل هذه الانتصارات جاءته الأنباء بما يكدر صفوه، قال السلاوي: «ثم ورد عليه رسول من بلاد القبلة فأخبره باختلال أمر الصحراء ووقوع الخلاف بين أهلها»، وهنا وُضع هذا القائد على مفترق طرق، أيرسل أحد أبناء عمومته ليحل هذا الخلاف؟ أم يذهب بنفسه؟ وإن ذهب بنفسه فهل يتخلى عن إمرة قومه بالمغرب بعد كل انتصاراته فيها؟
وهنا ظهرت معادن الرجال، قال السلاوي: «كان الأمير أبو بكر رجلا متورعا فعظم عليه أن يقتل المسلمون بعضهم بعضا، وهو قادر على كفهم ولم يرَ أنه في سعة من ذلك وهو متوالي أمرهم ومسؤول عنهم، فعزم على الخروج إلى بلاد الصحراء ليصلح أمرها ويقيم رسم الجهاد بها»، فترك كل شيء في سبيل الله وحده.

- الأمير يوحد الناس على قتال المشركين

ورحل الأمير المرابطي إلى الصحراء فأصلح حالها ومهد لدولة الإسلام فيها، ثم خرج إلى بلاد السودان مجاهدا في سبيل الله داعيا إليه، قال ابن خلدون: «ولحق بقومه ورفع ما كان بينهم من خرق الفتنة، وفتح باباً من جهاد السودان، فاستولى على نحو تسعين رحلة من بلادهم»، فلم يكتف -رحمه الله- بالإصلاح بين قومه فحسب، بل مهد لغزو جيوش المسلمين غرب إفريقية وإقامة دولة الإسلام فيها.

قال السلاوي: «كان سفر أبي بكر بن عمر إلى الصحراء في ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة، ولما وصل إليها أصلح شأنها ورتب أحوالها وجمع جيشا كثيفا وغزا به بلاد السودان فاستولى منها على نحو تسعين مرحلة».

- أبو بكر بن عمر يُخضِع كفار الصحراء

ويذكر السلاوي في موضع آخر أنَّ أبا بكر بن عمر غزا مملكة غانة، ونشر فيها وفيما يجاورها الإسلام: «ثمَّ أن أهل غانة ضعف ملكهم وتلاشى أمرهم في المائة الخامسة، واستفحل أمر الملثمين المجاورين لهم من جهة الشمال ممّا يلي البربر، وزحف إليهم الأمير أبو بكر بن عمر اللمتوني»، ويذكر السلاوي أن أبا بكر بن عمر فتح من تلك البلاد مسيرة ثلاثة أشهر «وحمل الكثير منهم ممن لم يكن أسلم قبل ذلك على الإسلام».
- يترك إمارة المغرب لابن تاشفين ويعود للجهاد في السودان

ويذكر المؤرخون أن أبا بكر بن عمر -رحمه الله- عاد إلى المغرب بعدما عظم شأن ابن عمه يوسف بن تاشفين، ولكنه لما رأى ما وصل إليه ابن عمه من الفتوحات، لم ينازعه في سلطته بل تنازل له عنها وقفل عائدا إلى الصحراء، وذكر السلاوي في (الاستقصا) وصية ابن عمر لابن تاشفين، فقال: «فقال أبو بكر: إني قد وليتك هذا الأمر، وإني مسؤول عنه، فاتق الله تعالى في المسلمين وأعتقني وأعتق نفسك من النار، ولا تضيع من أمور رعيتك شيئا فإنك مسؤول عنه».

اللمتوني شهيدا في بلاد السودان

 وبعد أن أوصى ابن عمر ابن عمه قفل عائدا إلى الصحراء مجاهدا الكفار في إفريقية، قال السلاوي: «فأقام بها مواظبا على الجهاد في كفار السودان إلى أن استشهد من سهم مسموم أصابه في شعبان سنة (480 هـ) بعد أن استقام له أمر الصحراء كافة إلى جبال الذهب من بلاد السودان»، وهكذا انطوت صفحة فارس من فرسان الإسلام، ترك ملذات الدنيا والرياسة، فأبدله الله خيرا منها، قال ابن كثير: «اتفق له من الناموس ما لم يتفق لغيره من الملوك، كان يركب معه إذا سار لقتال عدو خمسمائة ألف مقاتل، كان يعتقد طاعته، وكان مع هذا يقيم الحدود ويحفظ محارم الإسلام، ويحوط الدين ويسير في الناس سيرة شرعية، مع صحة اعتقاده ودينه، وموالاة الدولة العباسية».

رحم الله الشيخ المجاهد الشهيد -بإذن الله- أبا بكر اللمتوني، وتقبّل منه دعوته وجهاده، ونصر أحفاده من جنود الخلافة في غرب إفريقية وشمالها والصحراء، الذين يسعون لإقامة دين الله في تلك البقاع، وإزالة كل آثار الشرك منها، ورزقهم الفتح والتمكين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 57
الخميس 1 ربيع الأول 1438 ه‍ـ

• لقراءة الصحيفة، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at