سياحة الجهاد • روى أبو داود في سُننه عن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- أن رجلا قال: «يا رسول ...
سياحة الجهاد
• روى أبو داود في سُننه عن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- أن رجلا قال: «يا رسول الله، ائذن لي بالسياحة»؛ فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله)؛ سكت عنه أبو داود، ورواه الحاكم في مستدركه وصحّح إسناده، وصحّحه عبد الحق الإشبيلي والذهبي، وجوّد إسناده النووي والعراقي.
وهذا الحديث مما أخطأ بعض أهل الهجرة والجهاد في فهمه، وظنوا أن سياحة الجهاد هي ما عليه أهل العصر من «التنقل من بلد إلى بلد طلبا للتنزه أو الاستطلاع والكشف» [المعجم الوسيط المعاصر]، فإذا نظر بعد فهمه الخاطئ إلى شيء من جمال البلد المُهاجَر إليه من جبال وأنهار وشواطئ وأشجار، أو وجد شيئا من رغد العيش فيه من طعام وشراب وزينة وراحة، أشار إلى زهرة الحياة الدنيا، وقال: «صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إن الجهاد سياحة الأمة!».
وهكذا أخطأ كثير من الناس في فهم الحديث والأثر، فشتّان ما بين ما هو مقصود في الحديث الشريف، وبين ما ذهبت إليه أذهان كثير من الناس.
فإن قيل، فما معنى «السياحة» المذكورة إن لم يكن سفر النزهة المتعارف عليه؟
الجواب: إنما يُفسّر غريب الحديث والأثر بلسان العرب الفصيح وبفهم السلف الصالح -لا ما اصطلح عليه المتأخرون ولا ما تعارف عليه المعاصرون- وهذا بالرجوع إلى أئمة اللغة والغريب، الذين حفظوا معاني القرآن والحديث لمن بعدهم من القرون كما حفظ القراء والمحدثون ألفاظ الوحيين، جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا كبيرا كثيرا.
قال ابن قتيبة، رحمه الله (المتوفى 276 هـ) في شرح ما جاء من السياحة في الأثر: «[السياحة]: مفارقة الأمصار والذهاب في الأرض كفعل... عُبّاد بني إسرائيل... وأراد -صلى الله عليه وسلم- أن الله -جل وعز- قد وضع هذا عن المسلمين وبعثه بالحنيفية السمحة» [غريب الحديث].
وقال ابن الأنباري، رحمه الله (المتوفى 328 هـ): «السياحة: الخروج إلى أطراف البلاد، والتفرد من الناس، بحيث لا يشهد جمعة، ولا يحضر جماعة» [الزاهر].
وقال أبو منصور الأزهري، رحمه الله (المتوفى 370 هـ): «قال الليث: السياحة ذهاب الرجل في الأرض للعبادة والترهّب، وسياحة هذه الأمة الصيام ولزوم المساجد» [تهذيب اللغة].
فالسياحة التي لم يأذن بها النبي -صلى الله عليه وسلم- هي من الترهّب الذي لم يشرّعه أحكم الحاكمين، قال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27].
عن عروة بن الزبير -رحمه الله- قال: «دخلت امرأة عثمان بن مظعون... على عائشة وهي باذَّة الهيئة فسألتها ما شأنك؟ فقالت: زوجي يقوم الليل ويصوم النهار؛ فدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكرت عائشة ذلك له، فلقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عثمان فقال: (يا عثمان، إن الرهبانية لم تكتب علينا، أفما لك فيّ أسوة، فوالله إني أخشاكم لله، وأحفظكم لحدوده) [رواه أحمد وأبو داود وابن حبان].
وهكذا، لما استأذن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- النبي -صلى الله عليه وسلم- في السياحة، نهاه -صلى الله عليه وسلم- عن التشبّه بالرهبان الضالين، وأرشده إلى ما شرعه الله –تعالى- منهاجا لخير أمة أخرجت للناس: الجهاد في سبيله؛ وفيه ما في سياحة الرهبانية من الزهد والعزلة والذكر والعبادة، يتقرب المجاهد إلى الله بالتزام هذه الحقائق في أسفار جهاده، وليكون بذلك من رهبان الليل فرسان النهار، وهم: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 13-14].
وتشهد لقول أئمة اللغة بعضُ الأحاديث المرفوعة الضعيفة، منها: (عليك بالجهاد، فإنه رهبانية الإسلام) [رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري]، و(لكل نبي رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله) [رواه أحمد عن أنس]، و(عليك بالجهاد فإنه رهبانية أمّتي) [رواه ابن حبّان عن أبي ذر].
ومنها: رواية لحديث عثمان بن مظعون، أنه أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «ائذن لنا بالاختصاء»؛ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من خصى، ولا اختصى، إنّ إخصاء أمتي الصيام)؛ فقال: «يا رسول الله، ائذن لنا في السياحة»؛ فقال: (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله)؛ فقال: «يا رسول الله، ائذن لنا في الترهّب»؛ فقال: (إن ترهّب أمتي الجلوس في المساجد انتظار الصلاة) [رواه ابن المبارك في الزهد بإسناد ضعيف].
• روى أبو داود في سُننه عن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- أن رجلا قال: «يا رسول الله، ائذن لي بالسياحة»؛ فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله)؛ سكت عنه أبو داود، ورواه الحاكم في مستدركه وصحّح إسناده، وصحّحه عبد الحق الإشبيلي والذهبي، وجوّد إسناده النووي والعراقي.
وهذا الحديث مما أخطأ بعض أهل الهجرة والجهاد في فهمه، وظنوا أن سياحة الجهاد هي ما عليه أهل العصر من «التنقل من بلد إلى بلد طلبا للتنزه أو الاستطلاع والكشف» [المعجم الوسيط المعاصر]، فإذا نظر بعد فهمه الخاطئ إلى شيء من جمال البلد المُهاجَر إليه من جبال وأنهار وشواطئ وأشجار، أو وجد شيئا من رغد العيش فيه من طعام وشراب وزينة وراحة، أشار إلى زهرة الحياة الدنيا، وقال: «صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إن الجهاد سياحة الأمة!».
وهكذا أخطأ كثير من الناس في فهم الحديث والأثر، فشتّان ما بين ما هو مقصود في الحديث الشريف، وبين ما ذهبت إليه أذهان كثير من الناس.
فإن قيل، فما معنى «السياحة» المذكورة إن لم يكن سفر النزهة المتعارف عليه؟
الجواب: إنما يُفسّر غريب الحديث والأثر بلسان العرب الفصيح وبفهم السلف الصالح -لا ما اصطلح عليه المتأخرون ولا ما تعارف عليه المعاصرون- وهذا بالرجوع إلى أئمة اللغة والغريب، الذين حفظوا معاني القرآن والحديث لمن بعدهم من القرون كما حفظ القراء والمحدثون ألفاظ الوحيين، جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا كبيرا كثيرا.
قال ابن قتيبة، رحمه الله (المتوفى 276 هـ) في شرح ما جاء من السياحة في الأثر: «[السياحة]: مفارقة الأمصار والذهاب في الأرض كفعل... عُبّاد بني إسرائيل... وأراد -صلى الله عليه وسلم- أن الله -جل وعز- قد وضع هذا عن المسلمين وبعثه بالحنيفية السمحة» [غريب الحديث].
وقال ابن الأنباري، رحمه الله (المتوفى 328 هـ): «السياحة: الخروج إلى أطراف البلاد، والتفرد من الناس، بحيث لا يشهد جمعة، ولا يحضر جماعة» [الزاهر].
وقال أبو منصور الأزهري، رحمه الله (المتوفى 370 هـ): «قال الليث: السياحة ذهاب الرجل في الأرض للعبادة والترهّب، وسياحة هذه الأمة الصيام ولزوم المساجد» [تهذيب اللغة].
فالسياحة التي لم يأذن بها النبي -صلى الله عليه وسلم- هي من الترهّب الذي لم يشرّعه أحكم الحاكمين، قال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27].
عن عروة بن الزبير -رحمه الله- قال: «دخلت امرأة عثمان بن مظعون... على عائشة وهي باذَّة الهيئة فسألتها ما شأنك؟ فقالت: زوجي يقوم الليل ويصوم النهار؛ فدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكرت عائشة ذلك له، فلقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عثمان فقال: (يا عثمان، إن الرهبانية لم تكتب علينا، أفما لك فيّ أسوة، فوالله إني أخشاكم لله، وأحفظكم لحدوده) [رواه أحمد وأبو داود وابن حبان].
وهكذا، لما استأذن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- النبي -صلى الله عليه وسلم- في السياحة، نهاه -صلى الله عليه وسلم- عن التشبّه بالرهبان الضالين، وأرشده إلى ما شرعه الله –تعالى- منهاجا لخير أمة أخرجت للناس: الجهاد في سبيله؛ وفيه ما في سياحة الرهبانية من الزهد والعزلة والذكر والعبادة، يتقرب المجاهد إلى الله بالتزام هذه الحقائق في أسفار جهاده، وليكون بذلك من رهبان الليل فرسان النهار، وهم: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 13-14].
وتشهد لقول أئمة اللغة بعضُ الأحاديث المرفوعة الضعيفة، منها: (عليك بالجهاد، فإنه رهبانية الإسلام) [رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري]، و(لكل نبي رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله) [رواه أحمد عن أنس]، و(عليك بالجهاد فإنه رهبانية أمّتي) [رواه ابن حبّان عن أبي ذر].
ومنها: رواية لحديث عثمان بن مظعون، أنه أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «ائذن لنا بالاختصاء»؛ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من خصى، ولا اختصى، إنّ إخصاء أمتي الصيام)؛ فقال: «يا رسول الله، ائذن لنا في السياحة»؛ فقال: (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله)؛ فقال: «يا رسول الله، ائذن لنا في الترهّب»؛ فقال: (إن ترهّب أمتي الجلوس في المساجد انتظار الصلاة) [رواه ابن المبارك في الزهد بإسناد ضعيف].