المتحاكمون إلى الطواغيت قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في قوله ...

المتحاكمون إلى الطواغيت

قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في قوله تعالى:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 60 - 62]:
"إن من عرف أن لا إله إلا الله فلا بد من الانقياد لحكم الله، والتسليم لأمره الذي جاء من عنده على يد رسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، فمن شهد أن لا إله إلا الله ثم عدل إلى تحكيم غير الرسول -صلى الله عليه وسلم- في موارد النزاع فقد كذب في شهادته.

ولما كان التوحيد مبنيا على الشهادتين إذ لا تنفك إحداهما عن الأخرى لتلازمهما وكان ما تقدم من هذا الكتاب [يعني كتاب التوحيد لجده الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهما الله] في معنى شهادة أن لا إله إلا الله التي تتضمن حق الله على عباده، نبه في هذا الباب على معنى شهادة أن محمدا رسول الله التي تتضمن حق الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإنها تتضمن أنه عبد لا يُعبد، ورسول صادق لا يكذب، بل يطاع ويتبع، لأنه المبلِّغ عن الله تعالى، فله -عليه الصلاة والسلام- منصب الرسالة والتبليغ عن الله، والحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، إذ هو لا يحكم إلا بحكم الله، ومحبته على النفس والأهل والمال والوطن، وليس له من الإلهية شيء، بل هو عبد الله ورسوله، كما قال تعالى {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله) [رواه البخاري].

ومن لوازم ذلك متابعته وتحكيمه في موارد النزاع، وترك التحاكم إلى غيره، كالمنافقين الذي يدَّعون الإيمان به ويتحاكمون إلى غيره، وبهذا يتحقق العبد بكمال التوحيد وكمال المتابعة، وذلك هو كمال سعادته، وهو معنى الشهادتين، إذا تبين هذا فمعنى الآية المترجم لها: إن الله -تبارك وتعالى- أنكر على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء قبله وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما ذكر المصنف في سبب نزولها: قال ابن القيم: "والطاغوت كل من تعدى به حده، من الطغيان، وهو مجاوزة الحد"، فكل ما تحاكم إليه متنازعان غير كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فهو طاغوت، اذ قد تعدى به حده، ومن هذا كل من عبد شيئا دون الله، فإنما عبد الطاغوت وجاوز بمعبوده حده، فأعطاه العبادة التي لا تنبغي له، كما أن من دعا إلى تحكيم غير الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فقد دعا إلى تحكيم الطاغوت، وتأمل تصديره -سبحانه- الآية، منكرا لهذا التحكيم على من زعم أنه قد آمن بما أنزله الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى من قبله، ثم هو مع ذلك يدعو إلى تحكيم غير الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ويتحاكم إليه عند النزاع، وفي ضمن قوله {يَزْعُمُونَ}، نفي لما زعموه من الإيمان، ولهذا لم يقل: ألم تر إلى الذين آمنوا، فإنهم لو كانوا من أهل الإيمان حقيقة لم يريدوا أن يتحاكموا الى غير الله -تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل فيهم {يَزْعُمُونَ} فإن هذا إنما يقال -غالبا- لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب أو مُنزَّل منزلة الكاذب، لمخالفته لمُوجِبها وعمله بما ينافيها، قال ابن كثير: "والآية ذامَّة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت ههنا، وقوله تعالى: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} أي بالطاغوت، وهو دليل على أن التحاكم إلى الطاغوت مناف للإيمان، مضاد له، فلا يصح الإيمان إلا بالكفر به، وترك التحاكم اليه، فمن لم يكفر بالطاغوت لم يؤمن بالله، وقوله: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا}، أي: لأن إرادة التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- من طاعة الشيطان، وهو إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، وفي الآية دليل على أن ترك التحاكم إلى الطاغوت الذي هو ما سوى الكتاب والسنة: من الفرائض، وأن المتحاكم إليه غير مؤمن، بل ولا مسلم.
وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}، أي إذا دعوا إلى التحاكم إلى ما أنزل الله والى الرسول أعرضوا إعراضا مستكبرين، كما قال تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48]، قال ابن القيم: "هذا دليل على أن من دُعي الى تحكيم الكتاب والسنة فلم يقبل وأبى ذلك أنه من المنافقين، و{يَصُدُّونَ} هنا لازم لا متعد، هو بمعنى يُعرضون، لا بمعنى يمنعون غيرهم، ولهذا أتى مصدره على صدود، ومصدر المتعدي صدا"، فإذا كان المعرض عن ذلك قد حكم الله -سبحانه- بنفاقهم، فكيف بمن ازداد إلى إعراضه منعَ الناس من تحكيم الكتاب والسنة، والتحاكم إليهما، بقوله وعمله وتصانيفه، ثم يزعم مع ذلك أنه إنما أراد الإحسان والتوفيق؛ الإحسان في فعله ذلك والتوفيق بين الطاغوت الذي حكَّمه وبين الكتاب والسنة؟
قلت: وهذا حال كثير ممن يدعي العلم والإيمان في هذه الأزمان، إذا قيل لهم تعالوا نتحاكم الى ما أنزل الله والى الرسول {رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون: 5]، ويعتذرون أنهم لا يعرفون ذلك ولا يعقلون، {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88].

وقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}، قال ابن كثير: "أي فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير إليك في المصائب بسبب ذنوبهم، واحتاجوا إليك في ذلك"، وقال ابن القيم: "قيل المصيبة فضيحتهم، إذا أُنزل القرآن بحالهم ولا ريب أن هذا أعظم المصيبة والإضرار، فالمصائب التي تصيبهم بما قدمت أيديهم في أبدانهم وقلوبهم وأديانهم بسبب مخالفة الرسول -عليه الصلاة والسلام- أعظمها مصائب القلب والدين، فيُرى المعروف منكرا، والهدى ضلالا، والرشاد غيا، والحق باطلا، والصلاح فسادا، وهذا من المصيبة التي أصيب بها في قبله، وهو الطبع الذي أوجبه مخالفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتحكيم غيره، قال سفيان الثوري: في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63]، قال: هي أن تطبع على قلوبهم".

وقوله تعالى: {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}، قال ابن كثير: "أي: يعتذرون ويحلفون إن أردنا بذهابنا إلى غيرك إلا الإحسان والتوفيق، أي المداراة والمصانعة".

وقال غيره: "{إِلَّا إِحْسَانًا}، أي: لا إساءة، و{وَتَوْفِيقًا} أي: بين الخصمين، ولم نرد مخالفة لك، ولا تسخطا لحكمك"". [من كتاب: تيسير العزيز الحميد، باختصار]


المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 69
الخميس 25 جمادى الأولى 1438 ه‍ـ