فتح الكريم المنان في شرح حديث حــلاوة الإيــمان أخرج الإمام البخاري في صحيحة من حديث أَنَسِ بْنِ ...
فتح الكريم المنان في شرح حديث حــلاوة الإيــمان
أخرج الإمام البخاري في صحيحة من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ [ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ] (البخاري 16).
هذا الحديث حديث عظيم، وهو أصل من أصول الإسلام.
قال صلى الله عليه وسلم: [ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ]. هذه جملة شرط، وجوابها قوله [وجد حلاوة الإيمان].
فقد اشترط النبي صلى الله عليه وسلم للفوز بحلاوة الإيمان أن توجد هذه الثلاث في العبد المسلم.
وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم هذِه الثلاثة بالذكر لأنها تربي أمة مؤمنة آمنة مطمئنة يعيش أفرادها في مودة ومحبة، وقد استقاموا على طاعة الله تعالى.
فالأولى: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، تُقوي الصلة بين العبد وربه بالحب لله ورسوله، وهذا أمر مطلوب للفوز برضى الله ومحبته وهدايته وتوفيقه في الدنيا والأخرة.
والثانية وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، تُقوي الصلة بين العبد وأخيه العبد بالحب الخالص لله لا لغرض الدنيا، وهذا أمر مطلوب لدوام الألفة والمحبة بين العباد.
والثالثة وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ، تدعو إلى الاستقامة على الطاعة والعبادة على مراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، لأن من يكره أن يلقى في النار لن يرضى بضياع إيمانه فيفرط في طاعة الله تعالى ورسوله.
قال صلى الله عليه وسلم: [وجد حلاوة الإيمان] ما هي حلاوة الإيمان؟
الإيمان: قول باللسان، وإقرار بالقلب، وعمل بالجوارح. فمن قال بلسانه لابد من إقرار قلبه وعمل جوارحه.
حلاوة الإيمان: انشراح الصدر للطاعة، والتلذذ بفعلها، وتحمل المشاق في الدين طلباً في رضا الله عز وجل.
قال صلى الله عليه وسلم [أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا].
محبة الله جل جلاله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم واجبة على كل عبد من عباده، ووجب تقديمها على أي شيء سواهما، كما في الحديث الذي معنا.
وكمال ورد في كتاب الله تعالى إذا يقول سبحانه [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ] (البقرة 165).
وفي الآية بيان حال المؤمنين أنهم أشد حباً لله.
وقد وصف الله جل جلاله من قدم الدنيا وما فيها على محبة الله جل جلاله وعلى محبة رسوله صلى الله عليه وسلم بأنهم فاسقون، وأنذرهم بأمر منه عظيم فقال تعالى [قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ] (التوبة 24).
ويقول صلى الله عليه وسلم [وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ] (البخاري 14). وزاد في رواية أخرى [لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] (البخاري 15).
قال القاضي: قال بعض المتكلمين على الحديث: جمع صلى الله عليه وسلم تحت لفظه هذا القليل معاني كثيرة؛ إذ أقسام المحبة ثلاثة، محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد؛ ومحبة رحمة وإشفاق كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة الناس بعضهم بعضاً، فجمع صلى الله عليه وسلم ذلك كله في محبته.
ومن الإشفاق في محبته نصرة سنته، والذَبُّ عن شريعته، وتمنى حضور حياته، فيبذل نفسه وماله دونه. (إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض).
كيف تكون محبة الله ومحبة رسوله؟
بأن تأتمر بأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم دون تردد ولا شك ولا تبديل للأمر عن مراده الشرعي، مع التسليم والاستسلام.
وتنتهي عما نهى الله تعالى عنه ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم دون تردد ولا شك ولا احتيال
على ما نهى الله تعالى عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، مع التسليم والاستسلام بهذا يصل العبد إلى كمال الإيمان بالله تعالى ومنه إلى مرتبة الإحسان ويكون من المحسنين.
ويؤكد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أخر [ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا] (مسلم 34).
فلن تشعر بلذة الإيمان إلا إذا رضيت بالله رباً وإله ورضيت بما شرعه وقنعت به ولم تطلب غيره، ورضيت بالإسلام لك ديانة وقنعت بها ولم تطلب غيرها، ورضيت بما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقنعت به ولم ترضى بغير سنته.
تعصي الإله وأنت تظهر حُبَّه ... هذا محال في القياس بديعُ
لو كان حبُّك صادقًا لأطعته ... إن المحبَّ لمن يحبُّ مطيعُ
قال صلى الله عليه وسلم: وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ.
حث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عَلَى المحبة في الله تعالى والإخلاص فيها.
وقد قَالَ مالك وغيره: المحبة في الله من واجبات الإسلام.
قَالَ يحيى بن معاذ الرازي: حقيقة المحبة ألا تزيد بالبر، ولا تنقص بالجفاء.
لأن المحبة للأغراض الدنيوية والحظوظ البشرية غير مطلوبة؛ لأن من أحب لذلك انقطعت عند حصول غرضه أو إياسه منه، بخلاف المحبة الخالصة، فإنها تحصل الألفة الموجبة للتعاون عَلَى البر والتقوى. (التوضيح لشرح الجامع الصحيح)
وقد ورد في فضل المحبة في الله أحاديث كثيرة، منها:
قول النبي صلى الله عليه وسلم [إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ، وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ، قَالَ: هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا، فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)] (أبو داود 3527). وقوله صلى الله عليه وسلم [أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي، الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي] (مسلم 2566).
وقال صلى الله عليه وسلم [سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ. وذكر منهم: وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ] (البخاري 660).
قال صلى الله عليه وسلم: وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ.
هذا هو الشرط الثالث لحصول حلاوة الإيمان، وهو وجوب كراهية الكفر والمعاصي أشد الكره.
وفي هذه الجملة إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الكفر والمعصية سبب لدخول النار، فمن أراد النجاة منها فعليه بأن يمنع نفسه عن اتخاذ أسباب الكفر
التي توصل إليه، وأسباب المعاصي التي توصل إليها.
لماذا عبر النبي صلى الله عليه وسلم بالكره للكفر ولم يقل وألا يعود في الكفر؟
لأن الإنسان مجبول على البعد عما يكره، فلو قال صلى الله عليه وسلم وألا يعصي، وألا يكفر لكان الإنسان أشبه بلسان الميزان يميل جهة الثقل، ووجه الشبه أن النفس أمارة بالسوء، ولو ترك الإنسان نفسه بغير حب للطاعة وكره للمعصية، لاستمالته نفسه للمعصية خاصة في زمن الفتن.
وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم السلامة للعباد بأن أرشدهم إلى طريق معاكس تماماً لطريق المعاصي والكفر، فعبر بالكراهية.
فلن يمتنع العبد عن المعاصي والكفر إلا بالكراهية، لأن كراهية المعاصي هي بوابة تركها، كما أن حب المعاصي هو سبيل فعلها.
وعلى هذا، لو أن كل مسلم أراد أن يفعل معصية تذكر أنه سيقذف في النار
بسببها، وتخيل النار وما فيها، لارتدع عن فعل المعصية.
وهذه الخصلة فيها تحذير للمسلم من المعاصي، فهي سبب كل مهلكة، وهي طريق الكفر الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم.
وانظر إلى من سبق من الأمم التي أبادها الله تعالى وأهلكها، إنما كان ذلك بسبب معاصيها.
وتأمل في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كيف أصيبوا يوم أحد، بسبب مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى [أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (آل عمران 165).
الخلاصة: أن من لم يتذوق حلاوة الإيمان ولم يشعر بلذة الطاعة، فليعلم أن عنده قصور وتقصير في هذه الثلاثة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وخصها بالذكر.
فليراجع نفسه وينظر في الصلة بينه وبين ربه، فسيجد أنه يقدم على حب الله وحب رسوله غيره من البشر أو من متاع الدنيا، فإن كنت كذلك فلابد من الرجوع عن ذلك إلى أن يكون حب الله ورسوله أحب إليك من كل ما على الأرض.
ثم ليراجع نفسه في الصلة بينه وبين أخيه المسلم في أي مكان وفي كل زمان، فإن كانت محبته لإخوانه لأجل الدنيا ومتاعها، فليرجع عن ذلك
ويجعلها خالصة لوجه الله تعالى.
ثم ليراجع نفسه هل يخاف من النار وعقوبتها وعذابها، فإذا أراد أن يفعل معصية تذكرها فرجع، أم أنه لا يؤثر فيه سماع اسمها ولا يخاف من عذابها.
فإن كان كذلك فليرجع وليخشع لله ويرجوا رحمته.
بهذه الأسباب الثلاثة إن وجدت، توجد أمة مؤمنة آمنة مطمئنة، تعيش في
ألفة ومودة، أفرادها متحابون في الله فيخافون على بعضهم البعض، وقد استقاموا على طاعة الله. فيتحقق فينا وعد الله تعالى [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ] (الأعراف 96).
كتبه/ أبو عبد الرحمن سيد فؤاد الليثي
أخرج الإمام البخاري في صحيحة من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ [ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ] (البخاري 16).
هذا الحديث حديث عظيم، وهو أصل من أصول الإسلام.
قال صلى الله عليه وسلم: [ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ]. هذه جملة شرط، وجوابها قوله [وجد حلاوة الإيمان].
فقد اشترط النبي صلى الله عليه وسلم للفوز بحلاوة الإيمان أن توجد هذه الثلاث في العبد المسلم.
وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم هذِه الثلاثة بالذكر لأنها تربي أمة مؤمنة آمنة مطمئنة يعيش أفرادها في مودة ومحبة، وقد استقاموا على طاعة الله تعالى.
فالأولى: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، تُقوي الصلة بين العبد وربه بالحب لله ورسوله، وهذا أمر مطلوب للفوز برضى الله ومحبته وهدايته وتوفيقه في الدنيا والأخرة.
والثانية وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، تُقوي الصلة بين العبد وأخيه العبد بالحب الخالص لله لا لغرض الدنيا، وهذا أمر مطلوب لدوام الألفة والمحبة بين العباد.
والثالثة وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ، تدعو إلى الاستقامة على الطاعة والعبادة على مراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، لأن من يكره أن يلقى في النار لن يرضى بضياع إيمانه فيفرط في طاعة الله تعالى ورسوله.
قال صلى الله عليه وسلم: [وجد حلاوة الإيمان] ما هي حلاوة الإيمان؟
الإيمان: قول باللسان، وإقرار بالقلب، وعمل بالجوارح. فمن قال بلسانه لابد من إقرار قلبه وعمل جوارحه.
حلاوة الإيمان: انشراح الصدر للطاعة، والتلذذ بفعلها، وتحمل المشاق في الدين طلباً في رضا الله عز وجل.
قال صلى الله عليه وسلم [أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا].
محبة الله جل جلاله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم واجبة على كل عبد من عباده، ووجب تقديمها على أي شيء سواهما، كما في الحديث الذي معنا.
وكمال ورد في كتاب الله تعالى إذا يقول سبحانه [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ] (البقرة 165).
وفي الآية بيان حال المؤمنين أنهم أشد حباً لله.
وقد وصف الله جل جلاله من قدم الدنيا وما فيها على محبة الله جل جلاله وعلى محبة رسوله صلى الله عليه وسلم بأنهم فاسقون، وأنذرهم بأمر منه عظيم فقال تعالى [قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ] (التوبة 24).
ويقول صلى الله عليه وسلم [وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ] (البخاري 14). وزاد في رواية أخرى [لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] (البخاري 15).
قال القاضي: قال بعض المتكلمين على الحديث: جمع صلى الله عليه وسلم تحت لفظه هذا القليل معاني كثيرة؛ إذ أقسام المحبة ثلاثة، محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد؛ ومحبة رحمة وإشفاق كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة الناس بعضهم بعضاً، فجمع صلى الله عليه وسلم ذلك كله في محبته.
ومن الإشفاق في محبته نصرة سنته، والذَبُّ عن شريعته، وتمنى حضور حياته، فيبذل نفسه وماله دونه. (إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض).
كيف تكون محبة الله ومحبة رسوله؟
بأن تأتمر بأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم دون تردد ولا شك ولا تبديل للأمر عن مراده الشرعي، مع التسليم والاستسلام.
وتنتهي عما نهى الله تعالى عنه ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم دون تردد ولا شك ولا احتيال
على ما نهى الله تعالى عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، مع التسليم والاستسلام بهذا يصل العبد إلى كمال الإيمان بالله تعالى ومنه إلى مرتبة الإحسان ويكون من المحسنين.
ويؤكد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أخر [ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا] (مسلم 34).
فلن تشعر بلذة الإيمان إلا إذا رضيت بالله رباً وإله ورضيت بما شرعه وقنعت به ولم تطلب غيره، ورضيت بالإسلام لك ديانة وقنعت بها ولم تطلب غيرها، ورضيت بما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقنعت به ولم ترضى بغير سنته.
تعصي الإله وأنت تظهر حُبَّه ... هذا محال في القياس بديعُ
لو كان حبُّك صادقًا لأطعته ... إن المحبَّ لمن يحبُّ مطيعُ
قال صلى الله عليه وسلم: وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ.
حث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عَلَى المحبة في الله تعالى والإخلاص فيها.
وقد قَالَ مالك وغيره: المحبة في الله من واجبات الإسلام.
قَالَ يحيى بن معاذ الرازي: حقيقة المحبة ألا تزيد بالبر، ولا تنقص بالجفاء.
لأن المحبة للأغراض الدنيوية والحظوظ البشرية غير مطلوبة؛ لأن من أحب لذلك انقطعت عند حصول غرضه أو إياسه منه، بخلاف المحبة الخالصة، فإنها تحصل الألفة الموجبة للتعاون عَلَى البر والتقوى. (التوضيح لشرح الجامع الصحيح)
وقد ورد في فضل المحبة في الله أحاديث كثيرة، منها:
قول النبي صلى الله عليه وسلم [إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ، وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ، قَالَ: هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا، فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)] (أبو داود 3527). وقوله صلى الله عليه وسلم [أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي، الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي] (مسلم 2566).
وقال صلى الله عليه وسلم [سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ. وذكر منهم: وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ] (البخاري 660).
قال صلى الله عليه وسلم: وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ.
هذا هو الشرط الثالث لحصول حلاوة الإيمان، وهو وجوب كراهية الكفر والمعاصي أشد الكره.
وفي هذه الجملة إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الكفر والمعصية سبب لدخول النار، فمن أراد النجاة منها فعليه بأن يمنع نفسه عن اتخاذ أسباب الكفر
التي توصل إليه، وأسباب المعاصي التي توصل إليها.
لماذا عبر النبي صلى الله عليه وسلم بالكره للكفر ولم يقل وألا يعود في الكفر؟
لأن الإنسان مجبول على البعد عما يكره، فلو قال صلى الله عليه وسلم وألا يعصي، وألا يكفر لكان الإنسان أشبه بلسان الميزان يميل جهة الثقل، ووجه الشبه أن النفس أمارة بالسوء، ولو ترك الإنسان نفسه بغير حب للطاعة وكره للمعصية، لاستمالته نفسه للمعصية خاصة في زمن الفتن.
وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم السلامة للعباد بأن أرشدهم إلى طريق معاكس تماماً لطريق المعاصي والكفر، فعبر بالكراهية.
فلن يمتنع العبد عن المعاصي والكفر إلا بالكراهية، لأن كراهية المعاصي هي بوابة تركها، كما أن حب المعاصي هو سبيل فعلها.
وعلى هذا، لو أن كل مسلم أراد أن يفعل معصية تذكر أنه سيقذف في النار
بسببها، وتخيل النار وما فيها، لارتدع عن فعل المعصية.
وهذه الخصلة فيها تحذير للمسلم من المعاصي، فهي سبب كل مهلكة، وهي طريق الكفر الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم.
وانظر إلى من سبق من الأمم التي أبادها الله تعالى وأهلكها، إنما كان ذلك بسبب معاصيها.
وتأمل في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كيف أصيبوا يوم أحد، بسبب مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى [أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (آل عمران 165).
الخلاصة: أن من لم يتذوق حلاوة الإيمان ولم يشعر بلذة الطاعة، فليعلم أن عنده قصور وتقصير في هذه الثلاثة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وخصها بالذكر.
فليراجع نفسه وينظر في الصلة بينه وبين ربه، فسيجد أنه يقدم على حب الله وحب رسوله غيره من البشر أو من متاع الدنيا، فإن كنت كذلك فلابد من الرجوع عن ذلك إلى أن يكون حب الله ورسوله أحب إليك من كل ما على الأرض.
ثم ليراجع نفسه في الصلة بينه وبين أخيه المسلم في أي مكان وفي كل زمان، فإن كانت محبته لإخوانه لأجل الدنيا ومتاعها، فليرجع عن ذلك
ويجعلها خالصة لوجه الله تعالى.
ثم ليراجع نفسه هل يخاف من النار وعقوبتها وعذابها، فإذا أراد أن يفعل معصية تذكرها فرجع، أم أنه لا يؤثر فيه سماع اسمها ولا يخاف من عذابها.
فإن كان كذلك فليرجع وليخشع لله ويرجوا رحمته.
بهذه الأسباب الثلاثة إن وجدت، توجد أمة مؤمنة آمنة مطمئنة، تعيش في
ألفة ومودة، أفرادها متحابون في الله فيخافون على بعضهم البعض، وقد استقاموا على طاعة الله. فيتحقق فينا وعد الله تعالى [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ] (الأعراف 96).
كتبه/ أبو عبد الرحمن سيد فؤاد الليثي