خواطر مجاهد من ملحمة الموصل 3/5 • الطبيب الانغماسي.. أمير ديوان الصحة: يومٌ هادىء في ...
خواطر مجاهد من ملحمة الموصل
3/5
• الطبيب الانغماسي.. أمير ديوان الصحة:
يومٌ هادىء في قاطعنا، فالمرتدون لا زالوا مذعورين من غزوة مباركة للإخوة في قاطع ثان، فأتممنا صيامنا باقي اليوم، وجلسنا على مأدبة الإفطار المكونة من بضع تمرات وشيء من العدس، فضيفنا اليوم أمير ديوان الصحة المكنى بالدكتور عبد الله.
استلقى الشيخ الطبيب على ظهره بعد الإفطار ليأخذ قسطاً من الراحة العزيزة عليه، إذ يقضي يومه في تفقد جميع المفارز وزيارتها، يرافقه في بعض الأحيان يحيى وهو شاب عشريني لم يكمل دراسته في كلية الطب، كان خدوماً للإخوة، متى ما دخلتَ عليه وجدتَه يعد لهم طعاما أو يقضي لهم حاجة، واقفاً لا ينام حتى يرى جميع من بالمهجع نياما، حييٌّ جدا، كنت أنظر إليه وأقول: هذا الرجل أحسبه من أهل الجنة، فما باله لا يزال بيننا؟
ناداه الشيخ عبد الله: دونك ساقي فالألم اشتد بها، ثم تنهد طويلاً، وقال: بُعث النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في الأربعين من عمره، وتحمل مشاق الدعوة وآلامها، وقضى ثلاثا وعشرين سنة في دعوة وجهاد، وها أنذا للتو تجاوزت الأربعين ولا أستطيع المطاولة ليوم واحد، فيا رب ارحم ضعفنا.
شحوب وتعب على قسماته، يغطي عليه وقار شيبه، شدّ يحيى على ساق الشيخ فتألم قليلاً، فقلت له -مازحاً- مثلاً معروفاً: (ليس الكبر بعيب)، فضحك وقال: صدقت، ليس بعيب. وكان رجلا خفيف الظل، ثم تمتم بكلمات لم أسمعها لأن دوي القصف القريب كان أعلى منها، قال الشيخ بعد انتهاء الغارة، أمريكا هذه، هي بحقٍ فرعونُ هذا الزمان، تخيَّل تقصف صالة العمليات الثانية في المجمع الطبي ذي الأربع طوابق وتجعلها ركاما، والمعلوم عند القاصي والداني أن أطباءنا فيها يجرون العمليات لضحايا قصف أمريكا وأذنابها، فهي لم تكتفِ بقتل الطفل والمرأة والشيخ وتقطيع أوصالهم، حتى لحقتهم إلى صالة العمليات لتقضي عليهم وعلى الكادر الطبي فيها، في عداوة للتوحيد واضحة وشغف بسفك دماء المسلمين.
بالمقابل كان جنودنا الأطباء والممرضون والمسعفون في قمة الشجاعة والنخوة، فلما قُصفت الصالة بأول ضربة كان من نجا منهم رجع يبحث عن أحياء بين الركام وهو يعلم يقينا أن الطيران سيكرر الإغارة عليهم ويقتلهم، وكان هذا ما حدث في ثلاث ضربات متعاقبة، فبالفعل كانوا مفخرة لنا، انتهى حديثي معه حسيراً كسيراً بعدما فوجئتُ أن صديقي الطبيب أبا اليمان البغدادي ذا الوجه البشوش والثغر الباسم كان أحد ضحايا ذاك القصف الهمجي.
بعد أيام سمعتُ بنبأ مقتل أمير ديوان الصحة الشيخ الطبيب عبد الله، بعدما انغمس وحيداً بأعداء الله في حي الشفاء، فتقبله الله، وجمعه بزوجه التي قضت بقصف بقذائف الهاون على المدينة القديمة في نفس يوم مقتل زوجها، ونحسب أن الله استجاب دعاء شيخنا إذ كان يدعو الله أن يصطفيه وزوجه معاً، فلله درك يا فارس ديوان الصحة، وهنيئاً لأمير المؤمنين بأمثال هؤلاء الأمراء.
قُتل أمراء ديوان الصحة في غضون يومين، كان أولهم نائب أمير الديوان الدكتور خالد قرداش، إذ قُتل عقب إصابته وهو في الصف الأول بمعارك المجمع الطبي، ثم الفارس الطبيب اللبيب الدكتور قتيبة، وخاتمة المسك الهزبر عبد الله.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 88
الخميس 12 شوال 1438 هـ
لقراءة المقال كاملاً.. تواصل معنا تيليجرام:
@WMC11AR
3/5
• الطبيب الانغماسي.. أمير ديوان الصحة:
يومٌ هادىء في قاطعنا، فالمرتدون لا زالوا مذعورين من غزوة مباركة للإخوة في قاطع ثان، فأتممنا صيامنا باقي اليوم، وجلسنا على مأدبة الإفطار المكونة من بضع تمرات وشيء من العدس، فضيفنا اليوم أمير ديوان الصحة المكنى بالدكتور عبد الله.
استلقى الشيخ الطبيب على ظهره بعد الإفطار ليأخذ قسطاً من الراحة العزيزة عليه، إذ يقضي يومه في تفقد جميع المفارز وزيارتها، يرافقه في بعض الأحيان يحيى وهو شاب عشريني لم يكمل دراسته في كلية الطب، كان خدوماً للإخوة، متى ما دخلتَ عليه وجدتَه يعد لهم طعاما أو يقضي لهم حاجة، واقفاً لا ينام حتى يرى جميع من بالمهجع نياما، حييٌّ جدا، كنت أنظر إليه وأقول: هذا الرجل أحسبه من أهل الجنة، فما باله لا يزال بيننا؟
ناداه الشيخ عبد الله: دونك ساقي فالألم اشتد بها، ثم تنهد طويلاً، وقال: بُعث النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في الأربعين من عمره، وتحمل مشاق الدعوة وآلامها، وقضى ثلاثا وعشرين سنة في دعوة وجهاد، وها أنذا للتو تجاوزت الأربعين ولا أستطيع المطاولة ليوم واحد، فيا رب ارحم ضعفنا.
شحوب وتعب على قسماته، يغطي عليه وقار شيبه، شدّ يحيى على ساق الشيخ فتألم قليلاً، فقلت له -مازحاً- مثلاً معروفاً: (ليس الكبر بعيب)، فضحك وقال: صدقت، ليس بعيب. وكان رجلا خفيف الظل، ثم تمتم بكلمات لم أسمعها لأن دوي القصف القريب كان أعلى منها، قال الشيخ بعد انتهاء الغارة، أمريكا هذه، هي بحقٍ فرعونُ هذا الزمان، تخيَّل تقصف صالة العمليات الثانية في المجمع الطبي ذي الأربع طوابق وتجعلها ركاما، والمعلوم عند القاصي والداني أن أطباءنا فيها يجرون العمليات لضحايا قصف أمريكا وأذنابها، فهي لم تكتفِ بقتل الطفل والمرأة والشيخ وتقطيع أوصالهم، حتى لحقتهم إلى صالة العمليات لتقضي عليهم وعلى الكادر الطبي فيها، في عداوة للتوحيد واضحة وشغف بسفك دماء المسلمين.
بالمقابل كان جنودنا الأطباء والممرضون والمسعفون في قمة الشجاعة والنخوة، فلما قُصفت الصالة بأول ضربة كان من نجا منهم رجع يبحث عن أحياء بين الركام وهو يعلم يقينا أن الطيران سيكرر الإغارة عليهم ويقتلهم، وكان هذا ما حدث في ثلاث ضربات متعاقبة، فبالفعل كانوا مفخرة لنا، انتهى حديثي معه حسيراً كسيراً بعدما فوجئتُ أن صديقي الطبيب أبا اليمان البغدادي ذا الوجه البشوش والثغر الباسم كان أحد ضحايا ذاك القصف الهمجي.
بعد أيام سمعتُ بنبأ مقتل أمير ديوان الصحة الشيخ الطبيب عبد الله، بعدما انغمس وحيداً بأعداء الله في حي الشفاء، فتقبله الله، وجمعه بزوجه التي قضت بقصف بقذائف الهاون على المدينة القديمة في نفس يوم مقتل زوجها، ونحسب أن الله استجاب دعاء شيخنا إذ كان يدعو الله أن يصطفيه وزوجه معاً، فلله درك يا فارس ديوان الصحة، وهنيئاً لأمير المؤمنين بأمثال هؤلاء الأمراء.
قُتل أمراء ديوان الصحة في غضون يومين، كان أولهم نائب أمير الديوان الدكتور خالد قرداش، إذ قُتل عقب إصابته وهو في الصف الأول بمعارك المجمع الطبي، ثم الفارس الطبيب اللبيب الدكتور قتيبة، وخاتمة المسك الهزبر عبد الله.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 88
الخميس 12 شوال 1438 هـ
لقراءة المقال كاملاً.. تواصل معنا تيليجرام:
@WMC11AR