إن في خلق السماوات والأرض لآيات • نكدح في حياة أوجدها الله لأمر عظيم، وخلق السماوات والأرض ...

إن في خلق السماوات والأرض لآيات


• نكدح في حياة أوجدها الله لأمر عظيم، وخلق السماوات والأرض وسخر الشجر والدواب من أجله، ألا وهو الإيمان بالخالق وتوحيده، وتعظيمه حق تعظيمه.

وقد أنزل الله القرآن هدى للناس يبيِّن لهم طريق السلامة، الذي يُسلِّمهم من النار ويُسلِمهم لجنة فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذّ الأعين.

وإن من يقرأ القرآن يطوف بفكره آفاق السماء وجنبات الأرض، ويقف على النبات والزروع والدواب، ويسمو بنظره فيرى النجوم، يتأمل لينظر إلى عِظم الخالق وحسن صنعه، ويعرف بعد كل ذلك أنه -سبحانه- يستحق أن نَذل له ونعظِّمه ونتبع شرعه، يستحق أن نعبده بكل جوارحنا، وفي كل أوقاتنا، وفي كل حركاتنا وسكناتنا، ولا نلتفت لمن يصرف العبادة لغيره من الأصنام والقبور والقوانين، وغيرها من الطواغيت، ونأنف أن نلتجئ لغني أو نخاف من جبار أو ننكسر لعبد.

ومنهج القرآن في التفكُّر لا شك أنه منهج عظيم، إذ غايته الوصول إلى تعظيم الله، ونظير ذلك أنك لو وقفت على آلة معقدة أُحسن صنعُها وترتيبها، وجُوِّدت مداخلها ومخارجها، أو بناء عظيم فيه من الإتقان والتفاصيل المثيرة شيء كثير، لعجبت من ذلك وعرفت به مقام صانعه، والله أجلّ وأعظم وله المثل الأعلى.
أمرنا الله بالنظر في خلقه وشكره على أنعُمه
والحديث عن الكون وآياته مثير طويل مشوق، يستفز المشاعر ويصوِّب الفكر، والنظر فيه من الذكرى التي تنفع المؤمنين، وهم مأمورون به، كما قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101]، وقال {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5]، وقال: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: 24]، فنريد أن نستعرض بشكل مختصر بعض هذه الآيات، تِبيانا للجاهل وتذكيرا للغافل وإيقاظا للمتجاهل، عسى الله أن يشرح صدورنا لذلك.

قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: 24]، كيف أوجدناه، وأنزلنا المطر لإنباته، وشققنا الأرض لاحتوائه، ثم يسرنا قطفه واستخلاصه، {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 25 - 31]، ولم نجعله نوعا واحدا بل أنواعا مختلفة لكلٍّ فيها ما يشتهيه، فكانت: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 32] وذكر الله قبل هذه الآيات أن الإنسان كفور لا يعظِّم من أنعم عليه: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَہُ} [عبس: 17 - 19] فهو خُلق من نطفة فقدَّره وسوَّاه بشرا سويا، وأتقن قواه الظاهرة والباطنة، كما ذكر مبدأ ابن آدم وأنه {لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1].

عن بُسر بن جِحاش القرشي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بزق يوما في كفه، فوضع عليها أصبعه، ثم قال: (قال الله: ابن آدم! أنى تعجزني، وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين، وللأرض منك وئيد، فجمعتَ ومنعتَ، حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتَصَدَّقُ! وأنى أوان الصدقة؟!) [رواه أحمد].

ثم أتم الله -تعالى- القول: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس: 20 - 23]، فالله -سبحانه- هو المدبّر الذي يدبر الأمور بحكمته، فهو الرب القادر على التدبير لا رب سواه، ولا يقدر أحد أن يقوم بأفعال الربوبية من الخلق والرزق والتدبير ومع هذه القدرة والتدبير التي تدل على عظمة الخالق فإن الإنسان لا يمتثل أوامر الله ونواهيه ولا يقوم بما فرضه الله عليه.

فهذه الفواكه المتنوعة من تمر وعنب وزيتون وتفاح وغيرها كثير، نعمةٌ من نعمٍ ومظهرٌ من مظاهرَ كثيرة لتنظيم الله هذا الخلق الهائل وترتيبه وجعل بعضه يخدم بعضا، وليست هذه النعم مجرد شهوات نشتهيها ومُتع نتمتع بها، بل الأمر أعظم يا عبد الله، فكن ممن ينظر ويعتبر، ولا تكن غافلا عن آيات الله فتكون من الخاسرين الخائبين الكافرين لأنعمه سبحانه، وامش بين الناس بعينٍ بصيرةٍ لا بعينٍ غافلةٍ، فالبصيرة بأن تنظر من حولك، كيف قدَّر الله لنا هذه النباتات نقتات منها، وأنها لم تأتِ عبثا، بل سخر الله الغيث وسخر لنا الأرض ومياهها، ويسَّر لنا حفرَها وتوثيق بنيانها، وإخراج الماء من بطن الأرض لنسقي به هذا الذي نأكله؟!

ليس هذا فحسب، بل يسر لنا تقطيعه بالأسنان ثم بالمعدة ثم عصره في الأمعاء، لنستخرج منه ما يقوينا، وما يداوينا، ثم لم يحبس ما فضل منها داخل أجسامنا، بل يسَّر إخراجه، كل ذلك بتقدير العليم الخبير.
إن نظرت لهذه المألوفات نظر بصيرة أورثك ذلك تعظيم المُقدِّر، ثم أورثك شكره بالقلب واللسان والجوارح. وإن نظرت إليها نظر غافل، لم ترع لله حقا، وكنت كالجاحد الذي جحد نعمة من ينعِم عليه، أرأيت لو أن ولدا عق أباه بعد أن سعى في تربيته وتنعيمه بقدر ما يستطيع، ألا يعدُّه الناس خسيس الطبع؟ فكذا من لا يشكر الله على نعمه، ولله المثل الأعلى.
• تسخير الله للكون إصلاحاً لحياة بني آدم

خلق الله الكون وسخره لبني آدم وقدره لتصلُح به حياتهم: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23].
وإذا تلونا مطلع سورة الزخرف تبين لنا عظم تقصير بني آدم في حق الله عز وجل، قال -تعالى- إخبارا عن سنَّته مع بني آدم في تذكيرهم بحقه عليهم في عبادته: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ} [الزخرف: 6]، ويكون حال بني آدم مع هؤلاء الرسل: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الزخرف: 7]، ثم يذكر -تعالى- أن الرسول لو سأل هؤلاء المشركين: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]، فإذا كانوا معترفين بأفعال الربوبية لله -سبحانه- كالخلق والرزق والتدبير والإحياء والإماتة فمن العجب من هؤلاء أن يشركوا به من لا يخلق ولا يدبر الأمر من رزق وغيره ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا!

ثم ذكر الله نعمه على عباده: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} [الزخرف: 10]، أي صالحة للعيش وذلَّلها لندرك منها كل ما تعلقت به حاجاتنا من غرس وبناء وحرث، {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف: 10]، أي جعل منافذ بين سلاسل الجبال المتصلة نعبر إلى ما وراءها من الأقطار النائية والبلدان الشاسعة.

ثم واصل ذكر بعض النعم: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [الزخرف: 11]؛ أنزل الماء بقدر الحاجة لا يزيد فيفسِد ولا ينقص فتُجدب، فتغاث به الأرض ويخرج به النبات وتحيا البلاد وتنشر من الموت، ثم ذكَّرنا أن حالنا في الآخرة كحال هذه الأرض بعد نزول الغيث: {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف: 11].

وقال بعد ذلك: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 12 - 14].

والمراد بيانه من كل هذه الآيات أن الرب -سبحانه وتعالى- الموصوف بإفاضة النعم على خلقه هو المستحق للعبادة وأن الشرك من أعظم الظلم في حقه، فقال الله مستنكرا على بني آدم بعد ذكر هذه النعم: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف: 15]، وقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] فلا تكن يا عبد الله ممن وصف الله حالهم مع كثرة نعمه عليهم، فتدبر آيات الله حتى تكون من الشاكرين.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 89
الخميس 19 شوال 1438 ه‍ـ

لقراءة الصحيفة وللأعداد الجديدة.. تواصل معنا تيليجرام:
@WMC11AR