تنبيه الأبرار لخطورة الاستئسار (1) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى ...
تنبيه الأبرار لخطورة الاستئسار (1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
لقد أخبرنا الله -تعالى- بأنا نحن الأعلون بديننا وإيماننا، فلا يجب أن نذل للكفار بحال، وأن لنا العزة على الكفار، فمن يحمل نور التوحيد في قلبه لا يمكن إلا أن يكون عزيزا بأفعاله، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8]، فالمسلمون مستَعْلون بدينهم أعزة على الكافرين، مأمورون بجهادهم وقتالهم ودفعهم ومراغمتهم، ومأمورون بالبراءة منهم وعداوتهم وبغضهم والكفر بهم وتكفيرهم، فهم الأعلون بإذن الله، ولا يرضون لأنفسهم إلا القوة والعزة والإباء.
ولأن الأصل في كل أحوال المسلم الصبر والثبات عند ملاقاة عدوِّه، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]، فإنه وإن لم يتمكن من دفع عدوِّه، وصار أمام خيارين إما أن يُسلم نفسه لعدوه أو يقاتله حتى يُقتل، فعليه الأخذ بالعزيمة والمُضِيُّ في مقاتلته ودفعه وعدم الاستئسار، ويتأكد ذلك عند خشية الفتنة في الدين والعرض والنفس، أو خشية إفشاء أسرار المسلمين ودولتهم، كما يتأكد حينما يتذكر المسلم أن بأسره ذل وانكسار في قلوب المسلمين، وفرح وشماتة الكافرين.
• سنة السلف الصالح
وإن عدم الاستئسار سُنَّة السلف الأبرار، فمما ورد عن صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- في عدم الاستئسار للكفار وتفضيل القتال حتى الموت في سبيل الله، ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- حيث قال: "بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشرة عينا، وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب، حتى إذا كانوا بالهدأة بين عسفان ومكة، ذُكروا لحَيٍّ من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فنفروا لهم بقريب من مائة رجل رامٍ، فاقتصُّوا آثارهم، حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزل نزلوه، فقالوا: تمر يثرب، فاتَّبعوا آثارهم، فلما حس بهم عاصم وأصحابه لجؤوا إلى موضع فأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزلوا فأعطوا بأيديكم، ولكم العهد والميثاق، أن لا نقتل منكم أحدا، فقال عاصم بن ثابت: أيها القوم، أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، ثم قال: اللهم أخبر عنا نبيك صلى الله عليه وسلم، فرمَوهم بالنبل، فقتلوا عاصما، ونزل ثلاثة نفر على العهد والميثاق، منهم خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها، قال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، إن لي بهؤلاء أسوة، يريد القتلى، فجرَّروه وعالجوه، فأبى أن يصحبهم، فانطلق بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بعد وقعة بدر، فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خبيبا، وكان خبيب هو قَتَل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيراً حتى أجمعوا قتله، فاستعار من بعض بنات الحارث موسىً يستحد بها فأعارته، فدرج بُنَيٌّ لها وهي غافلة حتى أتاه، فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده، قالت: ففزعت فزعة عرفها خبيب، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك، قالت: والله ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، والله لقد وجدته يوما يأكل قطفا من عنب في يده، وإنه لموثق بالحديد، وما بمكة من ثمرة، وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيبا، فلما خرجوا به من الحرم، ليقتلوه في الحل، قال لهم خبيب: دعوني أصلي ركعتين، فتركوه فركع ركعتين، فقال: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت، ثم قال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بَددا ولا تبق منهم أحدا، ثم أنشأ يقول:
فلست أبالي حين أقتل مسلما
على أي جنب كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع
ثم قام إليه أبو سِرْوَعة عقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب هو سنَّ لكل مسلم قُتِل صبرا الصلاة، وأخبر [يعني النبي، صلى الله عليه وسلم] أصحابه يوم أُصيبوا خبرهم، وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت حين حُدِّثوا أنه قُتل أن يُؤتَوا بشيء منه يُعرَف، وكان قَتَل رجلا عظيما من عظمائهم، فبعث الله لعاصم مِثْل الظُّلَّة من الدَّبْر فحمته من رُسُلِهم، فلم يقدروا أن يقطعوا منه شيئا" [رواه البخاري].
وفعل عاصم بن ثابت وأصحابه هو الأصل في التعامل مع الكفار، فإنهم لم يرضوا بالنزول على حكمهم لما فيه من الذلة والفتنة في الدين، قال ابن مفلح: "قال أحمد: ما يعجبني أن يستأسر، وقال: فليقاتل أحب إليَّ، الأسر شديد، وقال عمار: من استأسر برئت منه الذمة، فلهذا قال الآجري: يأثم، وأنه قول أحمد" [الفروع].
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
لقد أخبرنا الله -تعالى- بأنا نحن الأعلون بديننا وإيماننا، فلا يجب أن نذل للكفار بحال، وأن لنا العزة على الكفار، فمن يحمل نور التوحيد في قلبه لا يمكن إلا أن يكون عزيزا بأفعاله، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8]، فالمسلمون مستَعْلون بدينهم أعزة على الكافرين، مأمورون بجهادهم وقتالهم ودفعهم ومراغمتهم، ومأمورون بالبراءة منهم وعداوتهم وبغضهم والكفر بهم وتكفيرهم، فهم الأعلون بإذن الله، ولا يرضون لأنفسهم إلا القوة والعزة والإباء.
ولأن الأصل في كل أحوال المسلم الصبر والثبات عند ملاقاة عدوِّه، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]، فإنه وإن لم يتمكن من دفع عدوِّه، وصار أمام خيارين إما أن يُسلم نفسه لعدوه أو يقاتله حتى يُقتل، فعليه الأخذ بالعزيمة والمُضِيُّ في مقاتلته ودفعه وعدم الاستئسار، ويتأكد ذلك عند خشية الفتنة في الدين والعرض والنفس، أو خشية إفشاء أسرار المسلمين ودولتهم، كما يتأكد حينما يتذكر المسلم أن بأسره ذل وانكسار في قلوب المسلمين، وفرح وشماتة الكافرين.
• سنة السلف الصالح
وإن عدم الاستئسار سُنَّة السلف الأبرار، فمما ورد عن صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- في عدم الاستئسار للكفار وتفضيل القتال حتى الموت في سبيل الله، ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- حيث قال: "بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشرة عينا، وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب، حتى إذا كانوا بالهدأة بين عسفان ومكة، ذُكروا لحَيٍّ من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فنفروا لهم بقريب من مائة رجل رامٍ، فاقتصُّوا آثارهم، حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزل نزلوه، فقالوا: تمر يثرب، فاتَّبعوا آثارهم، فلما حس بهم عاصم وأصحابه لجؤوا إلى موضع فأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: انزلوا فأعطوا بأيديكم، ولكم العهد والميثاق، أن لا نقتل منكم أحدا، فقال عاصم بن ثابت: أيها القوم، أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، ثم قال: اللهم أخبر عنا نبيك صلى الله عليه وسلم، فرمَوهم بالنبل، فقتلوا عاصما، ونزل ثلاثة نفر على العهد والميثاق، منهم خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها، قال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، إن لي بهؤلاء أسوة، يريد القتلى، فجرَّروه وعالجوه، فأبى أن يصحبهم، فانطلق بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بعد وقعة بدر، فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خبيبا، وكان خبيب هو قَتَل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيراً حتى أجمعوا قتله، فاستعار من بعض بنات الحارث موسىً يستحد بها فأعارته، فدرج بُنَيٌّ لها وهي غافلة حتى أتاه، فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده، قالت: ففزعت فزعة عرفها خبيب، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك، قالت: والله ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، والله لقد وجدته يوما يأكل قطفا من عنب في يده، وإنه لموثق بالحديد، وما بمكة من ثمرة، وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيبا، فلما خرجوا به من الحرم، ليقتلوه في الحل، قال لهم خبيب: دعوني أصلي ركعتين، فتركوه فركع ركعتين، فقال: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت، ثم قال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بَددا ولا تبق منهم أحدا، ثم أنشأ يقول:
فلست أبالي حين أقتل مسلما
على أي جنب كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع
ثم قام إليه أبو سِرْوَعة عقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب هو سنَّ لكل مسلم قُتِل صبرا الصلاة، وأخبر [يعني النبي، صلى الله عليه وسلم] أصحابه يوم أُصيبوا خبرهم، وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت حين حُدِّثوا أنه قُتل أن يُؤتَوا بشيء منه يُعرَف، وكان قَتَل رجلا عظيما من عظمائهم، فبعث الله لعاصم مِثْل الظُّلَّة من الدَّبْر فحمته من رُسُلِهم، فلم يقدروا أن يقطعوا منه شيئا" [رواه البخاري].
وفعل عاصم بن ثابت وأصحابه هو الأصل في التعامل مع الكفار، فإنهم لم يرضوا بالنزول على حكمهم لما فيه من الذلة والفتنة في الدين، قال ابن مفلح: "قال أحمد: ما يعجبني أن يستأسر، وقال: فليقاتل أحب إليَّ، الأسر شديد، وقال عمار: من استأسر برئت منه الذمة، فلهذا قال الآجري: يأثم، وأنه قول أحمد" [الفروع].