تنبيه الأبرار لخطورة الاستئسار 3 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتِم النبيين، ...

تنبيه الأبرار لخطورة الاستئسار 3


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتِم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد تكلمنا عن خطورة الاستئسار وفداحة عاقبته، لأنه فتنة في الدين، ولأن فيه ما فيه من انتهاك لحرمة المسلم من قبل الكفار المجرمين الذين تجرَّدوا من كل خُلُق وفضيلة، وسعَوا بكل ما أوتوا لصد المسلمين عن دينهم قتلا وأسرا، ومارسوا كل صنوف التعذيب والإهانة، إمعانا في الحرب على دين الله وأوليائه، ولذلك قلنا أن على المسلم أن يسعى بكل وسيلة للتخلص من الأسر إذا قدر الله عليه ذلك، ونحن اليوم نكمل موضوعنا فنتكلم عن حق الأسير على إخوانه المسلمين من وجوب استنقاذه من الأسر وتخليصه من هذا البلاء العظيم، فحقُّ الولاء بين المؤمنين يوجب العون والنصرة، قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، فهذه الموالاة الناشئة عن رابطة الإيمان وأخُوَّة الدين تستوجب العون والنصرة بين المؤمنين.

قال الإمام الطبري في قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}: "وهم المصدقون بالله ورسوله وآيات كتابه، فإن صفتهم: أن بعضهم أنصارُ بعض وأعوانهم" [جامع البيان في تأويل القرآن].

وقال الإمام البغوي: "قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ}، فِي الدِّينِ واجتماع الكلمة والعون والنصرة" [معالم التنزيل في تفسير القرآن].

وقال الإمام ابن كثير في تأويل هذه الآية: "يتعاضدون ويتناصرون" [تفسير القرآن العظيم].
وأخرج الشيخان في صحيحيهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرَّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة).

وفي النص دلالة واضحة على وجوب نصرة المؤمن لأخيه المؤمن الذي يحتاج العون والنصرة، فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يُسلمه)، أي لا يدعه تحت الأذى والضرر من دون أن يحميه ويدفع عنه عدوه أو يرفع أذى عدوه عنه، ولا يخذله بترك نصرته وهو في حاجته، وتأمل فضل فكاك الأسير والثواب الجزيل في قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن فرَّج عن مسلم كربة، فرَّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة).

ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين
وكذلك من أدلة الوجوب، حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (فكُّوا العاني وأجيبوا الداعي) [رواه البخاري]، وبهذا الحديث وغيره بوَّب الإمام البخاري باب: [فكاك الأسير]، والعاني هو الأسير، وفكاكه هو تخليصه من الأسر.

قال ابن قدامة: "وروى سعيد، بإسناده عن حبان بن أبي جبلة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن على المسلمين في فيئهم أن يُفادوا أسيرهم، ويُؤدوا عن غارمهم)، وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار (أن يعقِلوا معاقلهم، وأن يفكوا عانيهم بالمعروف)، وفادى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلين من المسلمين بالرجل الذي أخذه من بني عقيل، وفادى بالمرأة التي استوهبها من سلمة بن الأكوع رجلين" [المغني]. فلا بد من تخليص المأسور بالطرق المتاحة، فإما أن يكون بالقتال أو بالمفاداة بالكفار المأسورين لدى المسلمين أو بالفداء بالمال.

واستنقاذ الأسارى من أيدي الكفار بالقتال هو الوسيلة الأنجع إن توفرت ظروفها، وخطاب الله -تعالى- للمؤمنين واضح بهذا الشأن، قال جلَّ وعلا: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75].

قال الإمام أبو المظفر السمعاني في تفسيره: "قال الأزهري: معنى الآية: لا تقاتلون في سبيل الله، وفي سبيل المستضعفين بتخليصهم من أيدي المشركين".