الهجرة إلى الله ورسوله (2) قال ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى- في رسالته التبوكية: من ...
الهجرة إلى الله ورسوله (2)
قال ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى- في رسالته التبوكية:
من أعظم التعاون على البرِّ والتقوى، التعاون على سفر الهجرة إلى الله ورسوله باليد واللسان والقلب مساعدة ونصيحة، تعليما وإرشادا ومودة.
ومن كان هكذا مع عباد الله كان الله بكل خير إليه أسرع، وأقبل الله إليه بقلوب عباده، وفتح على قلبه أبواب العلم، ويسره لليسرى، ومن كان بالضد فبالضد {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].
• زاد المسافر:
فإن قلت: فقد أشرت إلى سفر عظيم وأمر جسيم، فما زاد هذا السفر وما طريقُه وما مركبه؟
قلت: زاده العِلم الموروث عن خاتم الأنبياء -صلى الله عليه وسلم- ولا زاد له سواه، فمن لم يحصِّل هذا الزاد فلا يخرج من بيته، وليقعد مع الخالفين، فرفقاء التخلُّف البطَّالون أكثر من أن يُحصوا، فله أسوة بهم، ولن ينفعه هذا التأسي يوم الحسرة شيئا، كما قال تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39]، فقطع الله سبحانه انتفاعهم بتأسي بعضهم بعضا في العذاب، فإن مصائب الدنيا إذا عمَّت صارت مسلاة، وتأسى بعض المصابين ببعض كما قالت الخنساء:
فلولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
أُسلِّي النفس عنه بالتأسي
فهذا الروح الحاصل من التأسي معدوم بين المشتركين في العذاب يوم القيامة.
• طريق السفر:
وأما طريقه: فهو بذل الجهد واستفراغ الوسع، فلا يُنال بالمنى، ولا يدرك بالهوينا، وإنما كما قيل:
فخض غمرات الموت واسمُ إلى العلا
لكي تدرك العز الرفيعَ الدعائم
فلا خير في نفس تخاف من الردى
ولا هِمَّة تصبو إلى لوم لائم
ولا سبيل إلى ركوب هذا الظهر إلا بأمرين:
أحدهما: أن لا يصبو في الحق إلى لوم لائم، فإن اللوم يدرك الفارس فيصرعُه عن فرسه ويجعله طريحا في الأرض.
والثاني: أن تهون عليه نفسُه في الله، فيُقدِم حينئذ ولا يخاف الأهوال، فمتى خافت النفس تأخرت وأحجمت وأخلدت إلى الأرض.
ولا يتم له هذان الأمران إلا بالصبر، فمن صبر قليلاً صارت تلك الأهوال ريحا رخاء في حقه تحمله بنفسها إلى مطلوبه، فبينما هو يخاف منها، إذ صارت أعظم أعوانِه وخدمِه، وهذا أمر لا يعرفه إلا من دخل فيه.
• مركب السفر:
وأما مركبه فصدق اللَّجأ إلى الله والانقطاع إليه بكلَّيته وتحقيق الافتقار إليه من كل وجه، والضراعة إليه وصدق التوكل عليه، والاستعانة به والانطراح بين يديه كالإناء المثلوم المكسور الفارغ الذي لا شيء فيه، يتطلع إلى قيّمه ووليه أن يجبره ويَلمَّ شعثه، ويُمدَّه من فضله ويستره، فهذا الذي يُرجى له أن يتولى الله هدايته، وأن يكشف له ما خفي على غيره من طريق هذه الهجرة، ومنازلها.
• رأس مال الأمر:
ورأس مال الأمر وعموده في ذلك إنما هو: دوام التفكر وتدبر آيات القرآن، بحيث يستولي على الفكر ويشغل القلب، فإذا صارت معاني القرآن مكان الخواطر من قلبه، وهي الغالبة عليه، بحيث يصير إليها مفزعه وملجؤه، تمكن حينئذ الإيمان من قلبه، وجلس على كرسيه، وصار له التصرف، وصار هو الآمر المطاع أمره، فحينئذ يستقيم له سيره، ويتضح له الطريق، وتراه ساكنا وهو يباري الريح: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88].
• الرفيق والطريق:
والمقصود أن القلب لما تحوَّل لهذا السفر طلب رفيقاً يأنس به في السفر، فلم يجد إلا معارضاً مناقضاً، أو لائماً بالتأنيب مصرِّحاً ومعرِّضا، أو فارغاً من هذه الحركة مُعرِضاً، وليت الكلَّ كانوا هكذا، فلقد أحسن إليك من خلاَّك وطريقك، ولم يطرح شره عليك، كما قال القائل:
أنَّا لفي زمن تركُ القبيح به
من أكثر الناس إحسانٌ وإجمال
فإذا كان هذا المعروف من الناس، فالمطلوب في هذا الزمان المعاونة على هذا السفر بالإعراض، وترك اللائمة والاعتراض، إلا ما عسى أن يقع نادراً فيكون غنيمة باردة لا قيمة لها.
وينبغي أن لا يتوقف العبد في سيره على هذه الغنيمة، بل يسير ولو وحيداً غريباً، فانفراد العبد في طريق طلبِه دليل على صدق المحبة.
• الموتى الأحياء والأحياء الموتى:
ومن أراد هذا السفر فعليه بمرافقة الأموات الذين هم في العالم أحياء، فإنه يبلغ بمرافقتهم إلى مقصده، وليحذر من مرافقة الأحياء الذين هم في الناس أموات، فإنهم يقطعون عليه طريقه، فليس لهذا السالك أنفع من تلك المرافقة، وأوفقَ له من هذه المفارقة، فقد قال بعض من سلف: "شتان بين أقوام موتى تحيا القلوب بذكرهم، وبين أقوام أحياءٍ تموت القلوب بمخالطتهم". فما على العبد أضر من عشائره وأبناء جنسه، فإن نظره قاصر وهمته واقفة عند التشبه بهم، ومباهاتهم والسلوك أيةً سلكوا، حتى لو دخلوا جحر ضب لأحب أن يدخل معهم.
قال ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى- في رسالته التبوكية:
من أعظم التعاون على البرِّ والتقوى، التعاون على سفر الهجرة إلى الله ورسوله باليد واللسان والقلب مساعدة ونصيحة، تعليما وإرشادا ومودة.
ومن كان هكذا مع عباد الله كان الله بكل خير إليه أسرع، وأقبل الله إليه بقلوب عباده، وفتح على قلبه أبواب العلم، ويسره لليسرى، ومن كان بالضد فبالضد {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].
• زاد المسافر:
فإن قلت: فقد أشرت إلى سفر عظيم وأمر جسيم، فما زاد هذا السفر وما طريقُه وما مركبه؟
قلت: زاده العِلم الموروث عن خاتم الأنبياء -صلى الله عليه وسلم- ولا زاد له سواه، فمن لم يحصِّل هذا الزاد فلا يخرج من بيته، وليقعد مع الخالفين، فرفقاء التخلُّف البطَّالون أكثر من أن يُحصوا، فله أسوة بهم، ولن ينفعه هذا التأسي يوم الحسرة شيئا، كما قال تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39]، فقطع الله سبحانه انتفاعهم بتأسي بعضهم بعضا في العذاب، فإن مصائب الدنيا إذا عمَّت صارت مسلاة، وتأسى بعض المصابين ببعض كما قالت الخنساء:
فلولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
أُسلِّي النفس عنه بالتأسي
فهذا الروح الحاصل من التأسي معدوم بين المشتركين في العذاب يوم القيامة.
• طريق السفر:
وأما طريقه: فهو بذل الجهد واستفراغ الوسع، فلا يُنال بالمنى، ولا يدرك بالهوينا، وإنما كما قيل:
فخض غمرات الموت واسمُ إلى العلا
لكي تدرك العز الرفيعَ الدعائم
فلا خير في نفس تخاف من الردى
ولا هِمَّة تصبو إلى لوم لائم
ولا سبيل إلى ركوب هذا الظهر إلا بأمرين:
أحدهما: أن لا يصبو في الحق إلى لوم لائم، فإن اللوم يدرك الفارس فيصرعُه عن فرسه ويجعله طريحا في الأرض.
والثاني: أن تهون عليه نفسُه في الله، فيُقدِم حينئذ ولا يخاف الأهوال، فمتى خافت النفس تأخرت وأحجمت وأخلدت إلى الأرض.
ولا يتم له هذان الأمران إلا بالصبر، فمن صبر قليلاً صارت تلك الأهوال ريحا رخاء في حقه تحمله بنفسها إلى مطلوبه، فبينما هو يخاف منها، إذ صارت أعظم أعوانِه وخدمِه، وهذا أمر لا يعرفه إلا من دخل فيه.
• مركب السفر:
وأما مركبه فصدق اللَّجأ إلى الله والانقطاع إليه بكلَّيته وتحقيق الافتقار إليه من كل وجه، والضراعة إليه وصدق التوكل عليه، والاستعانة به والانطراح بين يديه كالإناء المثلوم المكسور الفارغ الذي لا شيء فيه، يتطلع إلى قيّمه ووليه أن يجبره ويَلمَّ شعثه، ويُمدَّه من فضله ويستره، فهذا الذي يُرجى له أن يتولى الله هدايته، وأن يكشف له ما خفي على غيره من طريق هذه الهجرة، ومنازلها.
• رأس مال الأمر:
ورأس مال الأمر وعموده في ذلك إنما هو: دوام التفكر وتدبر آيات القرآن، بحيث يستولي على الفكر ويشغل القلب، فإذا صارت معاني القرآن مكان الخواطر من قلبه، وهي الغالبة عليه، بحيث يصير إليها مفزعه وملجؤه، تمكن حينئذ الإيمان من قلبه، وجلس على كرسيه، وصار له التصرف، وصار هو الآمر المطاع أمره، فحينئذ يستقيم له سيره، ويتضح له الطريق، وتراه ساكنا وهو يباري الريح: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88].
• الرفيق والطريق:
والمقصود أن القلب لما تحوَّل لهذا السفر طلب رفيقاً يأنس به في السفر، فلم يجد إلا معارضاً مناقضاً، أو لائماً بالتأنيب مصرِّحاً ومعرِّضا، أو فارغاً من هذه الحركة مُعرِضاً، وليت الكلَّ كانوا هكذا، فلقد أحسن إليك من خلاَّك وطريقك، ولم يطرح شره عليك، كما قال القائل:
أنَّا لفي زمن تركُ القبيح به
من أكثر الناس إحسانٌ وإجمال
فإذا كان هذا المعروف من الناس، فالمطلوب في هذا الزمان المعاونة على هذا السفر بالإعراض، وترك اللائمة والاعتراض، إلا ما عسى أن يقع نادراً فيكون غنيمة باردة لا قيمة لها.
وينبغي أن لا يتوقف العبد في سيره على هذه الغنيمة، بل يسير ولو وحيداً غريباً، فانفراد العبد في طريق طلبِه دليل على صدق المحبة.
• الموتى الأحياء والأحياء الموتى:
ومن أراد هذا السفر فعليه بمرافقة الأموات الذين هم في العالم أحياء، فإنه يبلغ بمرافقتهم إلى مقصده، وليحذر من مرافقة الأحياء الذين هم في الناس أموات، فإنهم يقطعون عليه طريقه، فليس لهذا السالك أنفع من تلك المرافقة، وأوفقَ له من هذه المفارقة، فقد قال بعض من سلف: "شتان بين أقوام موتى تحيا القلوب بذكرهم، وبين أقوام أحياءٍ تموت القلوب بمخالطتهم". فما على العبد أضر من عشائره وأبناء جنسه، فإن نظره قاصر وهمته واقفة عند التشبه بهم، ومباهاتهم والسلوك أيةً سلكوا، حتى لو دخلوا جحر ضب لأحب أن يدخل معهم.