الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 106 الافتتاحية: أي عبّاس نادِ أصحاب السَّمُرة منذ أن ...

الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 106
الافتتاحية:

أي عبّاس نادِ أصحاب السَّمُرة

منذ أن خلق الله -سبحانه- الخلق، أخذ منهم الميثاق على أنفسهم أن يعبدوه سبحانه، ولا يشركوا به شيئا، وأشهدهم على ذلك، وهو يعلم -جل جلاله- أنهم سينسون هذا الميثاق الذي واثقهم به، ولذلك أرسل إليهم الرسل تترى، وأنزل عليهم الكتب، ليذكرهم بما عاهدوا الله عليه من قبل، وخُلق الإنسان نسيّاً.

وهكذا الإنسان في كل حاله، يعوزه التذكير دوما بربه جلّ وعلا، فينتفع بهذه الذكرى من فتح الله بصيرته وأنار قلبه، ويتولى عنها من أضله الله بسوء عمله، وكتب عليه أنه من أصحاب السعير، قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 9 - 15].
فالمؤمن يجري عليه من الأمور والأحداث ما ينسيه ذكر ربه، والخوف منه سبحانه، فيقع فيما نهى عنه وحذره منه، ولكن الفرق بينه وبين الكافر والمنافق أنه إذا ذُكِّر ذكر، فتاب وأناب، واسترجع واستغفر، مهما ابتعد عن طريق الطاعة، وسبيل النجاة، فيعود مجددا لإيمانه، نادما على ما فاته من خير في فترة ذهوله وانشغاله بما يضر ولا ينفع.

وهكذا المجاهد في سبيل الله تعالى، قد يضعف إيمانه، بسبب انشغال قلبه بما يرد عليه من شهوات وشبهات، فتستقوي عليه شياطين الإنس والجان، يُنسونه ذكر ربه جل وعلا، ويلقون عليه من الأراجيف ما يزلزلون به قلبه، بل وينسونه حقيقة نفسه، وغايته التي خرج من أجلها مقاتلا أعداء الله في سبيل الله، حتى يصيبه الوهن، ويصبح أعداؤه أعظم هيبة وخشية لديه من الله سبحانه، ويتجه إلى مهاوٍ سحيقة من الشرك إن لم يتداركه الله برحمته، وينقذه منها قبل أن يزول إيمانه كله، فيتوب عليه، ويكفّر عنه الذنوب والخطايا، ويعينه على تجديد إيمانه، فيزداد بذلك ثباتا على أمر الله، ويقينا بموعود الله، ويرزقه بذلك الانتصار على نفسه الأمارة بالسوء، قبل أن ينصره على أعدائه ممن يقاتله على دينه، أو يخذّله عن طاعة ربّه.

وهذا الأمر قد يطرأ حتى على أفاضل الناس إيمانا، وأتقاهم لله، وأعظمهم له خشية ورهبة، مثلما يطرأ على من ظلم نفسه من أهل الإيمان، فيكون الفرق بين الفريقين بمقدار الابتعاد عن جادة الصواب حين النسيان، وبسرعة الاستجابة لأمر الله -سبحانه- حين الذكرى.

وإن مما يصبّر النفس على ما نمرّ به اليوم من أحداث وفتن، وما نراه من نسيان بعض من أهل الإيمان والهجرة والجهاد لأمر ربهم، وغاية جهادهم، وانشغالهم عن طاعة ربهم بما أهمّهم من أمر أنفسهم، أن هذا الأمر قد طرأ بعض منه على خير هذه الأمة، صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشواهد من هذا كثيرة، في أحد والخندق وحنين وغيرها.

وكان الدواء لهذا المرض من الله -سبحانه- ورسوله الكريم، وبعض من أفاضل صحابته، بتذكيرهم بأمر الله تعالى لهم بالجهاد والرباط والصبر والمصابرة، وتذكيرهم بما عاهدوا الله عليه من الثبات، وما سعوا إليه من منازل في الجنة.

فكان مشهد أنس بن النضر -رضي الله عنه- وهو يحرض إخوانه -فيما روي عنه- على متابعة جهادهم الذي قعدوا عنه في أُحُد لما صدَّقوا أراجيف الكفار والمنافقين وقولهم أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قد قتل، فصاح فيهم: "فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم" ثم استقبل القوم فقاتل حتى قُتل.

وكان مشهد النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو يدعو أصحابه الذين انخذلوا عنه، وهربوا من النزال في حنين، وهو يذكرهم بما سبق وعاهدوا الله عليه تحت الشجرة، في بيعة الرضوان، يوم أن وضعوا أيديهم على يده معاهدين له أن لا يفروا من قتال، وأمر عمه العباس -رضي الله عنه- أن يدعوهم بذلك: (أي عبّاس نادِ أصحاب السَّمُرة) [رواه مسلم]، فما كان شأنهم حين تذكروا إلا أن قالوا: "لبيك، لبيك"، وعاوَدوا قتالهم حتى فتح الله عليهم.

فيا جنود الدولة الإسلامية،الله الله في أنفسكم، والله الله في إيمانكم وهجرتكم وجهادكم، والله الله في دماء المسلمين، وأعراضهم، وأموالهم.
اذكروا أمر الله -تعالى- لكم، واذكروا ما عاهدتم الله عليه، واذكروا ما أعدَّ الله -تعالى- من أجر عظيم لأهل الجهاد والرباط، والبذل والاستشهاد، وما توعّد به من نكص على عقبيه، وتولى عن طاعته، قال تعالى: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].


*المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 106
الخميس 27 صفر 1439 ه‍ـ