الفتن والابتلاءات (2) الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه، وأمرهم بالاستمرار في عبادته حتى يلقوه، ...

الفتن والابتلاءات (2)

الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه، وأمرهم بالاستمرار في عبادته حتى يلقوه، له الحكمة البالغة في فتن السراء والضراء، التي يظهر بها إيمان المؤمنين ونفاق المنافقين، ويظهر الصادق من الكاذب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: ك

فإن الله -تعالى- يحب من عباده أن يصبروا على طاعته في جميع الأحوال، وأن يوقنوا بأن كل ما يحكم الله به صادر عن حكمته البالغة وعلمه الذي أحاط بكل شيء، وأنه لا شيء يخرج عن قدرة الله عز وجل، ولا يكون صلاح أمر الناس في الدنيا والآخرة إلا باتباع شرعه وحكمه، وهذا ما يعلمه كل موقن. قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، ومن تدبّر عَلِم أن اليقين إذا لم يصحبه صبر فإن صاحبه لا يثبت بل يتزعزع، نسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه.
حِكم الله في الابتلاء:

• التمحيص:

يعلم الله -تعالى- بكل شيء، ومن ذلك ما سيفعله الناس إذا ابتلوا بأنواع الابتلاءات، ولكنه لا يؤاخذهم إلا بعد حصول الأفعال منهم، قال تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3]، أي العلم الذي يتعلق به الثواب والعقاب، وإلا فهو -سبحانه- يعلم ما كان وما سيكون، فهذه إحدى حِكم الله من ابتلاء المؤمنين، ومن الحكم أيضاً أن يظهر إيمان المؤمن للناس فيرتفع قدره عندهم ويكون له القبول في الأرض، وأن يظهر نفاق المنافق فيعامله الناس بما يستحق كما في الحديث: (إِنّ الله إذا أحبّ عبدا دعا جبريل، فقال: إني أحبّ فلانا فأحبّه، قال: فيحبّه جبريل، ثم ينادي في السماء، فيقول: إِنّ الله يحبّ فلانا فأحبّوه، فيحبّه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدا دعا جبريل عليه السلام، فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إنّ الله يبغض فلانا فأبغضوه، ثم توضع له البغضاء في الأرض) [رواه البخاري ومسلم واللفظ له].

• خروج الخبَث:

ومن الحكم أيضاً أن يُخرج الله الخُبثاء من دار الإسلام، كما في حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن أعرابيا بايع النبي -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام، فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أقلني بيعتي، فأبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالها ثلاثا، فخرج الأعرابي، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (إنما المدينة كالكير، تنفي خبثها، وينصع طيبها) [رواه البخاري ومسلم].

• لعلهم يتضرعون:

ومن حِكم الله -تعالى- من ابتلاء المؤمنين أن تخشع قلوبهم لله ويحاسبوا أنفسهم على التقصير في حق الله -تعالى- وحقوق عباده، ويلجؤوا إلى الله -تعالى- ويتضرعوا إليه ليرزقهم الصبر على البلاء ويكشفه عنهم، ويغفر لهم ذنوبهم ويثبتهم على الإيمان، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42]، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127].

• ثبات أولياء الله على الحق:

ومن يتأمل سير أنبياء الله ورسله -عليهم الصلاة والسلام- يجد الثبات على دين الله في أوضح صوره، وأنهم كانوا يتقلبون بين الشكر والصبر، فلم تغلب النعم شكرهم، ولم تغلب المصائب صبرهم، وأن هؤلاء المصطفين الأخيار قد بذلوا كل شيء في سبيل إرضاء الله تعالى، فلم يؤخرهم حب بلد نشؤوا فيه ولا تعلق بزوج أو ولد أو مال عن ابتغاء مرضاة الله تعالى، راضون مسلِّمون لأمر الله -عز وجل- وحكمته، يعلمون أن الله -تعالى- لا يريد بابتلائه لهم -بالسراء والضراء- إلا فلاحهم، يشكرون الله -تعالى- على توفيقه لهم للطاعة بمزيد من التقرب إليه والسعي في مرضاته، وعند نزول البلاء يكون همهم اتقاء سخط الله -تعالى- فيلجؤون إليه خوفاً وطمعاً.

أصابتهم محن وبلايا كثيرة فلم يتراجعوا عن حق دعوا إليه، ولم تتغير مواقفهم من الباطل وأهله، بل استمروا في طريق الدعوة إلى توحيد الله وتحكيم شريعته والجهاد في سبيل الله بكل ما أمكنهم من أنواع الجهاد، وأولها الجهاد بالحجة واللسان، ومجادلة الناس بالتي هي أحسن لتبيين الحق وكشف الباطل.

• من الناس من يعبد الله على حرف:

وهناك صنف من الناس ليسوا على يقين من صحة الطريق الذي يسلكونه لطلب مرضاة الله، وزيَّن لهم هواهم مقياساً خاطئاً لمعرفة الحق من الباطل، فإن أقبلت عليهم الدنيا بمتاعها وزخرفها قالوا إذن طريقنا الذي سلكناه صحيح وحق، وإن أصابتهم الفتن التي أخبر الله -عز وجل- بأنها ستصيب لا محالة كل من يقول آمنا بالله وبنبيه -صلى الله عليه وسلم- وبدين الإسلام، {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2]، استغرب هؤلاء من هذه الفتن واستنكروا أن تصيبهم وقرروا ترك طريق الاستقامة على دين الله، قائلين: لا طاقة لنا بهذه المصائب، مدعين أن هذه المحن تدل على عدم صحة الطريق الذي يسلكونه، فينقلبون راجعين مدبرين، وقد أخبر -تعالى- عنهم بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]، فهؤلاء كما يصورهم لنا القرآن يقفون في مكان خطير، وميزانهم غير شرعي بل تلعب به أهواؤهم، ولا فرق في الحكم عليهم بالضلال والخسران بين من ضل منهم على علم أو من ضل على جهل، والمصيبة التي أصابتهم كانت كبيرة بحيث خسروا بها الدنيا، وبنكوصهم وتراجعهم عن دينهم خسروا الآخرة أيضاً، فأي خسارة أبين من هذه؟ نسأل الله العافية في الدين والدنيا والآخرة.

• مثل لمن ضل على علم:

رجل أنعم الله عليه بنعمة العلم بآيات الله، ولكنه فتن بفتنة عظيمة من فتن الدنيا، بحيث إنه صار على مفترق طرق إما أن يختار التمسك بآيات الله فيخسر ذلك العرض الدنيوي، وإما أن ينسلخ من دينه اتباعاً لهواه، فأخلد إلى الأرض وركن إلى الدنيا مؤثراً لشهواتها على ما أعد الله للمتقين، فضرب الله له مثلاً بالكلب يظل لاهثاً سواءً أطاردته أم تركته، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175 - 176]، فهذا رجل لم ينفعه علمه ولم يسعفه فهمه، بل أعمته شهوات الدنيا عن أن يطلب لنفسه المكانة الرفيعة عند ربه تعالى، وخطر هؤلاء الذين يضلون على علمٍ كبيرٌ، لأنهم يُضلون كثيراً من الناس وراءهم، إما بأن يدعوهم إلى الضلال الذي صاروا إليه، وإما أن يسنُّوا للناس سنة سيئة فيقتدي بهم أناس في ضلالهم، فيحمل ذلك العالم وزره وأوزار من أضلهم، وقد حذرنا الله –تعالى- من أنه لا يعذر من يتبع أئمة الضلال، وأنهم سيتبرأ بعضهم من بعض، ولا ينفعهم ذلك التبرؤ شيئاً، قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 166 - 167].
ولعلنا نقف وقفات أخرى مع الفتن والابتلاءات، نسأل الله العافية في ديننا ودنيانا، والحمد لله رب العالمين.



• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 125
الخميس 12 رجب 1439 ه‍ـ