الذين إن مكنَّاهم فـي الأرض (1) إن قضية الشعارات في كثير من الأحزاب والتنظيمات لا تتعدى كونها ...
الذين إن مكنَّاهم فـي الأرض (1)
إن قضية الشعارات في كثير من الأحزاب والتنظيمات لا تتعدى كونها -غالباً- وسيلة لحشد الأتباع، وتحسين صورة الجماعة، وعلى هذه السنَّة تمضي بعض الجماعات المنتسبة إلى الإسلام، الزاعمة للجهاد في سبيل الله.
فعلى مدى قرن من الزمان، تابع المسلمون في كل مكان ولادة كثير من التنظيمات التي تتبنى أكثرها شعارات متقاربة، ثم تدَّعي أن لكل منها وسيلة مختلفة في تحقيق تلك الشعارات، التي كان ولا يزال شعار "إقامة الدولة الإسلامية" هو أشهرها وأكثرها انتشاراً، فنجد أن التنظيمات المقاتلة، والأحزاب المنغمسة في شرك الديموقراطية، وغيرها من التجمعات ذات التوجهات الدعوية أو العلمية أكثرها يزعم أن هدفه الحقيقي من كل نشاطاته هو أن تؤدي إلى "إقامة الدولة الإسلامية، وتحكيم الشريعة"، ويجادل أتباع كل منها بأن وسيلته هي المثلى، وأن وسيلة غيره لن تؤدي إلى غير تضييع الأعمار والأموال والخبرات فيما لا طائل منه.
ولقد كان تحقيق حلم الخلافة من قبل الثلة المجاهدة من الموحدين في العراق والشام، ومن انضم إلى جماعتهم من المجاهدين في شرق الأرض وغربها، زلزالاً عنيفاً هزَّ تلك التنظيمات، وعاصفة هوجاء اقتلعت خيامهم وكفأت قدورهم، وذلك لما وجد أتباعها أن ما كان يمنيهم به زعماؤهم من خلال الطرق البدعية، حققه الموحدون باتباع طريق السنة القويم، بجهاد المشركين حتى إزالة الشرك من الأرض، وإقامة دين الإسلام مكانه، وتحويل الأرض بذلك إلى دار إسلام، تحكمها جماعة المسلمين بشرع رب العالمين.
• شروطٌ بدعيَّة لإقامة الدين:
ولما تبين للناس أن قضية "إقامة الدولة الإسلامية" لم تكن مجرد شعار دعائي عند جنود الدولة الإسلامية، بل كان عهداً عزم المجاهدون أن يحققوه، وصدقوا الله في ذلك -نحسبهم- فصدقهم -سبحانه- بأن مكن لهم في الأرض، خرج أفراد تلك التنظيمات يطالبون زعماءهم بتصحيح سعيهم، وتوضيح رايتهم، وإقامة الدين فيما مكًّنهم الله فيه من الأرض، بل ودعوهم إلى الانضمام إلى جماعة المسلمين، ومبايعة إمامها على السمع والطاعة، الأمر الذي هدد بنقض تلك التنظيمات التي فرقت المسلمين، وما زادتهم إلا خبالاً، فوجد أرباب تلك التنظيمات أنفسهم محاصرين بالأدلة الشرعية، التي تلزمهم بالخضوع لحكم الله في هذه القضايا، فما وجدوا عنها محيداً إلا أن يبتدعوا في دين الله، ويخترعوا فيه أحكاماً جديدة، يحسبون أنهم بخداعهم لأتباعهم من خلالها ينجون من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وهكذا وجدنا سفيه القاعدة في اليمن المدعو (قاسم الريمي) يخرج محاضراً في أتباعه شارحاً "مفاهيم" منهج القاعدة، ساعياً من خلال ذلك إلى نقض شرعية الدولة الإسلامية، بل وتأثيم مجاهديها، لأنهم قاموا -بحسب جهله المُركّب- بفعل غير شرعي، وهو تحكيم شريعة رب العالمين على أرضه، مستدلاً على ذلك بعدم تحقيقهم لما ابتدعه من شروط ما أنزل الله بها من سلطان.
والشرط الذي يكتمل لإقامة الدولة الإسلامية -بحسب قوله- هو عدم تحقق التمكين في الأرض للمجاهدين اليوم، طالما بقيت أمريكا وغيرها من الدول المتجبرة قادرة على نقض هذه الدولة، كما حدث مراراً مع من أعلنوا دولا وإمارات سمَّوها إسلامية، خلال العقود الماضية.
وبالتالي فإن وصف التمكين -بحسب هذا الاستدلال البدعي- يتحقق إذا ضمن من يقيمها أن لا يتمكَّن عدوُّہ من إزالتها أبداً، وأما إذا تحقق التمكين وفي الأرض من الدول القوية التي يمكنها الهجوم عليها وإزالتها فإن إقامة الدين وتحكيم الشريعة فيها -الذي ليست الدولة الإسلامية إلا صورة واقعية له- محرَّم في شريعتهم، لأن التمكين شرط صحة لها، وقد انتقض -حسب مذهبهم- بتهديد بقائه، واحتمال زواله.
• هل حققت الدولة النبوية شرط المبتدعة؟
ولو طردنا هذا الأصل الفاسد، لما حلَّ لمسلم في أي زمان ومكان أن يقيم الدين إن مكَّنه الله في الأرض، بل الواجب عليه -في دينهم- أن يهرب من هذه الأرض، هروب الصحيح من أرض الطاعون والجذام، لأن قيامه فيها بما يرضي الله سيجلب عليه غضب الجبابرة الكافرين، أو أن يحكم تلك الأرض بما يرضي أولئك الطواغيت، ليحفظ فيها تمكينه، وفي الوقت نفسه يخادع الناس من حوله بأن ما يفعله من امتناع عن إقامة الدين هو من إقامة الدين، وما يجريه على تلك الأرض من أحكام الجاهلية، هو حكم بالشريعة، كما نراه واضحاً الآن من فعل فصائل الصحوات في الشام.
ومن أراد الدليل الشرعي على نقض ذلك، فحسبه فعل النبي -عليه الصلاة والسلام-، الذي أقام الدولة النبوية في يثرب وهي محاطة بالأعداء الأقوياء، الذي يكفي للدلالة على تناسب القوة بينهم وبين أهل المدينة ما حصل عندما تألبت الأحزاب عليهم يوم الخندق، حتى إن أحدهم لم يكن يجرؤ على قضاء حاجته من شدة الخوف والوجل، ومن خلف أولئك الأعداء من مشركي العرب كان هناك أقوى الدول في الأرض آنذاك وهم فارس والروم، اللتان كان سلطانهما إلى أطراف جزيرة العرب، ومع هذا لم يجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحطيم قوة قريش والأعراب، ومن بعدهما فارس والروم، أو انتظار أن يُفني أحدهما الآخر، شرطاً لإقامة الدين في المدينة، بل الوقائع تثبت أنه -عليه الصلاة والسلام- لم تطأ قدمه المدينة، إلا وقد أعلنها دولة هو إمامها، الحكم فيها لله، وما على أهلها إلا الخضوع لهذه الأحكام، ومن ناصبها العداء فله الحرب.
ولو قدَّر الله فتمكن الأحزاب من كسر دفاعات المسلمين يوم الخندق، ثم السيطرة على المدينة، وإزالة حكم الإسلام منها، بعد قتل الرجال، وسبي الذرية والنساء، أو قدَّر الله أن يتمكَّن الأعراب المرتدون من إزالة حكم الإسلام من المدينة بعد أن أزالوه من كل الجزيرة العربية، أو قدَّر الله أن يرسل كسرى أو قيصر لاقتحام المدينة، ففي أي من الحالات، هل كان أحد يدَّعي الإسلام يجرؤ على القول إن دولة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تكن دولة شرعيَّة، لأنها قامت قبل تمكُّنه -عليه الصلاة والسلام- من تأمين المدينة من خطر اليهود، وقريش، والأعراب، وفارس والروم؟
وبالمثل هل يجرؤ أحد أدعياء السلفية أن ينقض شرعية دولة أئمة الدعوة النجدية، ويؤثم الإمامين محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب لإقامتهما الدولة الإسلامية في الدرعية وما حولها، ثم سعيهم ومن جاء بعدهم إلى مد سلطان الشريعة إلى البحرين والحجاز وبادية الشام، وهم يعلمون يقيناً أن دولة الأتراك الكافرة، ومن يتبعها يتربصون بهم، ولن يرضيهم قيام دولة لا تخضع لقوانينهم، ولا تعظم أوثانهم، وأن من حولهم من الأعراب منافقون لن يتأخروا عن نصرة المشركين عليهم؟
إن قياس حال دولة الإسلام اليوم على حالها في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- من الناحية السياسية، هو قياس صحيح، وما قدَّمناه على ما هو أولى منه من الأدلَّة إلا لسهولة الإيضاح من خلاله، وإلا فإن أدلة الكتاب والسنة التي لا تبيح فحسب إقامة دولة الإسلام لمن مكَّنه الله في الأرض، بل وتوجبه عليه، وتحكم بكفره إن هو امتنع عن إقامة الدين، وتحكيم شريعة رب العالمين، وهذا ما سنتناوله -بإذن الله- في قادم الكلام.
• المبتدعة يقدِّمون سلامة النفس على الدين:
إن سبب شبهة تنظيم القاعدة التي ذكرنا جانباً منها هو حرصهم على بقاء تنظيمهم، وتقديمهم سلامة التنظيم على سلامة الدين، لكون الدين عندهم هو التنظيم، فبقاؤه من بقائه وزواله من زواله، لذلك ابتدعوا مثل هذه الشروط ليهربوا من إقامة الدين، بزعم عدم تحقق ما ابتدعوه من شروط لذلك، ويسكتوا أتباعهم الذين استنكر بعضهم على زعمائهم امتناعهم عن تحكيم الشريعة في المناطق التي تمكنوا منها، فالتمكين في دينهم مبيح لأخذ المكوس من الناس، ولكنه لا يبيح تحكيم الشريعة، وهو مبيح لمحاكمة الموحدين وسفك دمائهم المحرمة على أنهم خوارج، ولكنه لا يبيح لهم إقامة حكم الله في المرتدين، وهو يوجب عليهم تولِّي الحكومات الكافرة، وحراسة حدودها، ولكنه لا يأمرهم بالاعتصام بحبل الله بمبايعة خليفة المسلمين ولا يبيح لهم أن يطيعوا أياً من أوامر الله التي يُغضب المشركين القيام بها.
ومن قدَّم سلامة نفسه وتنظيمه على سلامة الدين، فلن يبقى له دين ولن تسلم له نفسه، ومن قدَّم رضا رب العالمين، وقدَّم إزهاق نفسه في سبيل سلامة دينه، فإنه إن لم تسلم له نفسه، فهو مع النبيين والشهداء والصديقين، وحسن أولئك رفيقاً.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 126
الخميس 19 رجب 1439 هـ
إن قضية الشعارات في كثير من الأحزاب والتنظيمات لا تتعدى كونها -غالباً- وسيلة لحشد الأتباع، وتحسين صورة الجماعة، وعلى هذه السنَّة تمضي بعض الجماعات المنتسبة إلى الإسلام، الزاعمة للجهاد في سبيل الله.
فعلى مدى قرن من الزمان، تابع المسلمون في كل مكان ولادة كثير من التنظيمات التي تتبنى أكثرها شعارات متقاربة، ثم تدَّعي أن لكل منها وسيلة مختلفة في تحقيق تلك الشعارات، التي كان ولا يزال شعار "إقامة الدولة الإسلامية" هو أشهرها وأكثرها انتشاراً، فنجد أن التنظيمات المقاتلة، والأحزاب المنغمسة في شرك الديموقراطية، وغيرها من التجمعات ذات التوجهات الدعوية أو العلمية أكثرها يزعم أن هدفه الحقيقي من كل نشاطاته هو أن تؤدي إلى "إقامة الدولة الإسلامية، وتحكيم الشريعة"، ويجادل أتباع كل منها بأن وسيلته هي المثلى، وأن وسيلة غيره لن تؤدي إلى غير تضييع الأعمار والأموال والخبرات فيما لا طائل منه.
ولقد كان تحقيق حلم الخلافة من قبل الثلة المجاهدة من الموحدين في العراق والشام، ومن انضم إلى جماعتهم من المجاهدين في شرق الأرض وغربها، زلزالاً عنيفاً هزَّ تلك التنظيمات، وعاصفة هوجاء اقتلعت خيامهم وكفأت قدورهم، وذلك لما وجد أتباعها أن ما كان يمنيهم به زعماؤهم من خلال الطرق البدعية، حققه الموحدون باتباع طريق السنة القويم، بجهاد المشركين حتى إزالة الشرك من الأرض، وإقامة دين الإسلام مكانه، وتحويل الأرض بذلك إلى دار إسلام، تحكمها جماعة المسلمين بشرع رب العالمين.
• شروطٌ بدعيَّة لإقامة الدين:
ولما تبين للناس أن قضية "إقامة الدولة الإسلامية" لم تكن مجرد شعار دعائي عند جنود الدولة الإسلامية، بل كان عهداً عزم المجاهدون أن يحققوه، وصدقوا الله في ذلك -نحسبهم- فصدقهم -سبحانه- بأن مكن لهم في الأرض، خرج أفراد تلك التنظيمات يطالبون زعماءهم بتصحيح سعيهم، وتوضيح رايتهم، وإقامة الدين فيما مكًّنهم الله فيه من الأرض، بل ودعوهم إلى الانضمام إلى جماعة المسلمين، ومبايعة إمامها على السمع والطاعة، الأمر الذي هدد بنقض تلك التنظيمات التي فرقت المسلمين، وما زادتهم إلا خبالاً، فوجد أرباب تلك التنظيمات أنفسهم محاصرين بالأدلة الشرعية، التي تلزمهم بالخضوع لحكم الله في هذه القضايا، فما وجدوا عنها محيداً إلا أن يبتدعوا في دين الله، ويخترعوا فيه أحكاماً جديدة، يحسبون أنهم بخداعهم لأتباعهم من خلالها ينجون من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وهكذا وجدنا سفيه القاعدة في اليمن المدعو (قاسم الريمي) يخرج محاضراً في أتباعه شارحاً "مفاهيم" منهج القاعدة، ساعياً من خلال ذلك إلى نقض شرعية الدولة الإسلامية، بل وتأثيم مجاهديها، لأنهم قاموا -بحسب جهله المُركّب- بفعل غير شرعي، وهو تحكيم شريعة رب العالمين على أرضه، مستدلاً على ذلك بعدم تحقيقهم لما ابتدعه من شروط ما أنزل الله بها من سلطان.
والشرط الذي يكتمل لإقامة الدولة الإسلامية -بحسب قوله- هو عدم تحقق التمكين في الأرض للمجاهدين اليوم، طالما بقيت أمريكا وغيرها من الدول المتجبرة قادرة على نقض هذه الدولة، كما حدث مراراً مع من أعلنوا دولا وإمارات سمَّوها إسلامية، خلال العقود الماضية.
وبالتالي فإن وصف التمكين -بحسب هذا الاستدلال البدعي- يتحقق إذا ضمن من يقيمها أن لا يتمكَّن عدوُّہ من إزالتها أبداً، وأما إذا تحقق التمكين وفي الأرض من الدول القوية التي يمكنها الهجوم عليها وإزالتها فإن إقامة الدين وتحكيم الشريعة فيها -الذي ليست الدولة الإسلامية إلا صورة واقعية له- محرَّم في شريعتهم، لأن التمكين شرط صحة لها، وقد انتقض -حسب مذهبهم- بتهديد بقائه، واحتمال زواله.
• هل حققت الدولة النبوية شرط المبتدعة؟
ولو طردنا هذا الأصل الفاسد، لما حلَّ لمسلم في أي زمان ومكان أن يقيم الدين إن مكَّنه الله في الأرض، بل الواجب عليه -في دينهم- أن يهرب من هذه الأرض، هروب الصحيح من أرض الطاعون والجذام، لأن قيامه فيها بما يرضي الله سيجلب عليه غضب الجبابرة الكافرين، أو أن يحكم تلك الأرض بما يرضي أولئك الطواغيت، ليحفظ فيها تمكينه، وفي الوقت نفسه يخادع الناس من حوله بأن ما يفعله من امتناع عن إقامة الدين هو من إقامة الدين، وما يجريه على تلك الأرض من أحكام الجاهلية، هو حكم بالشريعة، كما نراه واضحاً الآن من فعل فصائل الصحوات في الشام.
ومن أراد الدليل الشرعي على نقض ذلك، فحسبه فعل النبي -عليه الصلاة والسلام-، الذي أقام الدولة النبوية في يثرب وهي محاطة بالأعداء الأقوياء، الذي يكفي للدلالة على تناسب القوة بينهم وبين أهل المدينة ما حصل عندما تألبت الأحزاب عليهم يوم الخندق، حتى إن أحدهم لم يكن يجرؤ على قضاء حاجته من شدة الخوف والوجل، ومن خلف أولئك الأعداء من مشركي العرب كان هناك أقوى الدول في الأرض آنذاك وهم فارس والروم، اللتان كان سلطانهما إلى أطراف جزيرة العرب، ومع هذا لم يجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحطيم قوة قريش والأعراب، ومن بعدهما فارس والروم، أو انتظار أن يُفني أحدهما الآخر، شرطاً لإقامة الدين في المدينة، بل الوقائع تثبت أنه -عليه الصلاة والسلام- لم تطأ قدمه المدينة، إلا وقد أعلنها دولة هو إمامها، الحكم فيها لله، وما على أهلها إلا الخضوع لهذه الأحكام، ومن ناصبها العداء فله الحرب.
ولو قدَّر الله فتمكن الأحزاب من كسر دفاعات المسلمين يوم الخندق، ثم السيطرة على المدينة، وإزالة حكم الإسلام منها، بعد قتل الرجال، وسبي الذرية والنساء، أو قدَّر الله أن يتمكَّن الأعراب المرتدون من إزالة حكم الإسلام من المدينة بعد أن أزالوه من كل الجزيرة العربية، أو قدَّر الله أن يرسل كسرى أو قيصر لاقتحام المدينة، ففي أي من الحالات، هل كان أحد يدَّعي الإسلام يجرؤ على القول إن دولة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تكن دولة شرعيَّة، لأنها قامت قبل تمكُّنه -عليه الصلاة والسلام- من تأمين المدينة من خطر اليهود، وقريش، والأعراب، وفارس والروم؟
وبالمثل هل يجرؤ أحد أدعياء السلفية أن ينقض شرعية دولة أئمة الدعوة النجدية، ويؤثم الإمامين محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب لإقامتهما الدولة الإسلامية في الدرعية وما حولها، ثم سعيهم ومن جاء بعدهم إلى مد سلطان الشريعة إلى البحرين والحجاز وبادية الشام، وهم يعلمون يقيناً أن دولة الأتراك الكافرة، ومن يتبعها يتربصون بهم، ولن يرضيهم قيام دولة لا تخضع لقوانينهم، ولا تعظم أوثانهم، وأن من حولهم من الأعراب منافقون لن يتأخروا عن نصرة المشركين عليهم؟
إن قياس حال دولة الإسلام اليوم على حالها في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- من الناحية السياسية، هو قياس صحيح، وما قدَّمناه على ما هو أولى منه من الأدلَّة إلا لسهولة الإيضاح من خلاله، وإلا فإن أدلة الكتاب والسنة التي لا تبيح فحسب إقامة دولة الإسلام لمن مكَّنه الله في الأرض، بل وتوجبه عليه، وتحكم بكفره إن هو امتنع عن إقامة الدين، وتحكيم شريعة رب العالمين، وهذا ما سنتناوله -بإذن الله- في قادم الكلام.
• المبتدعة يقدِّمون سلامة النفس على الدين:
إن سبب شبهة تنظيم القاعدة التي ذكرنا جانباً منها هو حرصهم على بقاء تنظيمهم، وتقديمهم سلامة التنظيم على سلامة الدين، لكون الدين عندهم هو التنظيم، فبقاؤه من بقائه وزواله من زواله، لذلك ابتدعوا مثل هذه الشروط ليهربوا من إقامة الدين، بزعم عدم تحقق ما ابتدعوه من شروط لذلك، ويسكتوا أتباعهم الذين استنكر بعضهم على زعمائهم امتناعهم عن تحكيم الشريعة في المناطق التي تمكنوا منها، فالتمكين في دينهم مبيح لأخذ المكوس من الناس، ولكنه لا يبيح تحكيم الشريعة، وهو مبيح لمحاكمة الموحدين وسفك دمائهم المحرمة على أنهم خوارج، ولكنه لا يبيح لهم إقامة حكم الله في المرتدين، وهو يوجب عليهم تولِّي الحكومات الكافرة، وحراسة حدودها، ولكنه لا يأمرهم بالاعتصام بحبل الله بمبايعة خليفة المسلمين ولا يبيح لهم أن يطيعوا أياً من أوامر الله التي يُغضب المشركين القيام بها.
ومن قدَّم سلامة نفسه وتنظيمه على سلامة الدين، فلن يبقى له دين ولن تسلم له نفسه، ومن قدَّم رضا رب العالمين، وقدَّم إزهاق نفسه في سبيل سلامة دينه، فإنه إن لم تسلم له نفسه، فهو مع النبيين والشهداء والصديقين، وحسن أولئك رفيقاً.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 126
الخميس 19 رجب 1439 هـ