مقال: فضل العِلم وأهله (1) قال ابن قيم الجوزية: في كتاب (مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم ...

مقال: فضل العِلم وأهله (1)


قال ابن قيم الجوزية: في كتاب (مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة) وهو يذكر وجوه فضل العلم وأهله:


• الوجه التاسع والاربعون:

ما روى الترمذي من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالم ومتعلم)، قال الترمذي هذا حديث حسن.

ولما كانت الدنيا حقيرة عند الله لاتساوي لديه جناح بعوضة كانت -وما فيها- في غاية البُعد منه، وهذا هو حقيقة اللعنة، وهو سبحانه إنما خلقها مزرعة للآخرة ومعبراً إليها يتزوَّد منها عبادُه إليه، فلم يكن يُقرِّب منها إلا ما كان متضمِّنا لإقامة ذكره ومفضيا إلى محابِّه، وهوالعلم الذي به يُعرف الله ويُعبد،ويُذكر ويثنى عليه ويمجَّد.

ولهذا خلقها وخلق أهلها، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [الطلاق: 12]، فتضمنت هاتان الآيتان أنه سبحانه إنما خلق السموات والأرض وما بينهما، ليعرف بأسمائه وصفاته، وليعبد.

فهذا المطلوب وما كان طريقا إليه من العلم والتعليم فهو المستثنى من اللعنة، واللعنة واقعة على ما عداه، إذ هو بعيد عن الله وعن محابِّه وعن دينه، وهذا هو متعلَّق العذاب في الآخرة...


• الوجه الخمسون:

ما رواه الترمذي من حديث أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع) قال الترمذي: “هذا حديث حسن غريب، رواه بعضهم فلم يرفعه”، وإنما جُعل طب العلم من سبيل الله لأن به قوام الإسلام كما أن قوامه بالجهاد، فقِوام الدين بالعلم والجهاد.

ولهذا كان الجهاد نوعين:
جهاد باليد والسنان وهذا المشارك فيه كثير.
وجهاد بالحجة والبيان وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل...
قال تعالى في سورة الفرقان وهي مكية: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا } [الفرقان: 51، 52]، فهذا جهاد لهم بالقرآن، وهو أكبر الجهادين، وهو جهاد المنافقين أيضا، فإن المنافقين لم يكونوا يُقاتلون المسلمين بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم، ومع هذا فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [التوبة: 73]. ومعلوم أن جهاد المنافقين بالحجة والقرآن.

والمقصود أن سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم ودعوة الخلق به إلى الله، ولهذا قال معاذ -رضي الله عنه-: "عليكم بطلب العلم فإن تعلمه لله خشية، ومدارسته عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد".

ولهذا يقرن سبحانه بين الكتاب المنزَّل والحديد الناصر، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]، فذكر الكتاب والحديد إذ بهما قِوام الدين.

ولما كان كل من الجهاد بالسيف والحجة يسمى سبيل الله فسر الصحابة -رضي الله عنهم- قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] بالأمراء والعلماء [انظر: تفسير الطبري]، فإنهم المجاهدون في سبيل الله، هؤلاء بأيديهم وهؤلاء بألسنتهم....


• الوجه الحادي والخمسون:

ما رواه الترمذي حدثنا محمود بن غيلان: حدثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهَّل الله له طريقا إلى الجنة)، قال الترمذي هذا حديث حسن..

وقد تظاهر الشرع والقدر على أن الجزاء من جنس العمل، فكما سلكَ طريقاً يطلب فيه حياةَ قلبه ونجاتَه من الهلاك سلك الله به طريقا يحصِّل له ذلك...

• الوجه الثاني والخمسون:

أن النبي دعا لمن سمع كلامه ووعاه وبلَّغه بالنَّضرة، وهي البهجة ونضارة الوجه وتحسينُه، ففي الترمذي وغيره من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نضَّر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلَّغها، فرُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاثٌ لا يَغِلُّ عليهن قلبُ مسلم، إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإنَّ دعوتهم تُحيط مِن ورائهم)، وروى هذا الأصلَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ابنُ مسعود ومعاذُ بن جبل وأبو الدرداء وجبير بن مطعم، وأنس بن مالك، وزيد بن ثابت، والنعمان بن بشير.

ولو لم يكن في فضل العلم إلا هذا وحده لكفى به شرفا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لمن سمع كلامه، ووعاه، وحفظه، وبلَّغه. وهذه هي مراتب العلم....

فمن قام بهذه المراتب الأربع دخل تحت هذه الدعوة النبوية المتضمِّنة لجمال الظاهر والباطن، فإن النَّضرة هي البهجة والحسن الذي يُكساه الوجهُ من آثار الإيمان، وابتهاج الباطن به وفرح القلب وسروره والتذاذه به، فتظهر هذه البهجة والسرور والفرحة نضارةً على الوجه.

ولهذا يجمع سبحانه بين البهجة والسرور والنضرة، كما في قوله تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11]، فالنضرة في وجوههم والسرور في قلوبهم.

فالنعيم وطيب القلب يُظهر نضارةً في الوجه، كما قال تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين: 24]...

وقوله صلى الله عليه وسلم: ثلاث لا يَغِل عليهن قلب مسلم.. إلى آخره، أي لايحملُ الغلَّ ولا يبقى فيه مع هذه الثلاثة، فإنها تنفي الغِلَّ والغِشَّ، وهو فساد القلب وسخائمه.

فالمخلص لله إخلاصه يمنع غِلَّ قلبه، ويخرجه ويزيله جملة، لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه، فلم يبق فيه موضع للغل والغش...
وقوله: (ومناصحة أئمة المسلمين) هذا أيضا مناف للغل والغش، فإن النصيحة لا تُجامع الغل، إذ هي ضدَّہ فمن نصح الأئمة والأمة فقد برئ من الغل.

وقوله: (ولزوم جماعتهم) هذا أيضا مما يطهِّر القلب من الغل والغش، فإن صاحبه لِلزومه جماعة المسلمين يحبُّ لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكرهُ لها، ويسوؤه ما يسؤوهم ،ويسرُّہ ما يسرهم.
وهذا بخلاف من انحاز عنهم واشتغل بالطعن عليهم والعيب والذم لهم، كفعل الرافضة والخوارج والمعتزلة وغيرهم، فإن قلوبهم ممتلئة غلا وغشا، ولهذا تجد الرافضة أبعد الناس من الإخلاص، وأغشِّهم للائمة والأمة وأشدهم بعدا عن جماعة المسلمين..

وقوله: (فإن دعوتهم تحيط من ورائهم) هذا من أحسن الكلام وأوجزه وأفخمه معنى، شبَّه دعوة المسلمين بالسور والسياج المحيط بهم، المانع من دخول عدوهم عليهم، فتلك الدعوة -التي هي دعوة الإسلام وهم داخلوها- لما كانت سورا وسياجا عليهم، أخبر أن من لزم جماعة المسلمين أحاطت به تلك الدعوة -التي هي دعوة الإسلام- كما أحاطت بهم، فالدعوة تجمع شمل الأمة وتلم شعثها وتحيط بها، فمن دخل في جماعتها أحاطت به وشملته. انتهى كلامه -رحمه الله- باختصار.



• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 137
الخميس 14 شوال 1439 ه‍ـ