الدركات في باب الحكم بغير ما أنزل الله وهنا نقف وقفة من باب التأصيل والتقعيد لهذه المسألة ...

الدركات في باب الحكم بغير ما أنزل الله

وهنا نقف وقفة من باب التأصيل والتقعيد لهذه المسألة الجليلة التي كَثُرَ فيها اللغط في هذه الأيام، وكَثُرَ فيها الإختلاف بين قائل ومُتقوّل بعلم وبغير علم ، بفهم وبغير فهم ، فالكل يخوض في هذه المسألة من باب الترقيع لبعض الطوائف والحكومات وإباحة ما تفعل ، أو الذب والدفاع عنها بما استطاعوا من البيان كما قال ﷺ : [ أَخْوَف ما أخاف عليكم … جدالُ منافق بالقرآن ] كذلك رُوي عن النبي ﷺ أنه – قال : [ منافق عليم اللسان ] .
وهذه الدركات التي هي في باب الحكم بغير ما أنزل الله .


أولاً : الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه وتعالى – ينقسم إلى دركات :-

– الدركة الأولى :

التي هي أقل هاتيك الدركات خطئاً وإثماً وأهون تلك الدركات هي مُجمل الذنوب والمعاصي ، التي هي من قبيل الحكم بغير ما أنزل الله
فالسرقة ليست حكم الله وإنما هي حكم بغير ما أنزل الله والزنا والخمر وقِسْ على ذلك، فهذه المعاصي هي غير حكم الله – سبحانه وتعالى – ولكنها من قبيل ما هو
كفر دون كفر ؛ کفر لا ينقل عن الملة إنما هي كبائر ومعاصي لا تُخرِج بصاحبها من الملة ما لم يَستَحِلَّ تلك المعاصي ، فهذه أول دركة ولذلك ذَكَرَ الإمام الرازي عند تفسير قول الله سبحانه وتعالى -: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} – [المائدة: 44 ]
قال: الخوارج أَنْزَلُوا هذه الآية على سائر المعاصي، وقالوا بأنها -أي المعاصي – هي حُكم بغير ما أنزل الله وبالتالي هي كفر أكبر مُخرج من الملَّة .
لذا فنحن نوافق أنها قد تُسمى أو يُصطلح عليها بأنها حكم بغير ما أنزل الله ، لكننا لا نوافق أبدا أنها من قبيل الكُفر المُخرج من الملة ، بل أجمع العلماء جميعاً من علماء أهل السنة والجماعة على أن هذه المعاصي هي من قبيل كُفر دون كُفر ، ولا تُخرج بصاحبها من الملة ما لم يَسْتَحِلَّ تلك المعاصي .
إذن هذه الدركة مسألة إجماعية بين أهل السنة والجماعة؛ أنها ليست بكفر أكبر مُخرج من الملة، ولم يقل بالتكفير بها إلا الخوارج، فهذه الدركة الأولى وهي كما أسلفنا إجماعية في عدم تكفير صاحبها ، إلا أن يَسْتَحِلَّهَا .

– الدركة الثانية :

هي أن يحكم الحاكم بكتاب الله وسنة رسوله ، ويكون مرجعه للكتاب والسنة في حكمه ولكن في قضية معينة حَكَمَ بِهَوَاه ، ولم يجعل هذا الحكم ثابتاً بل حَكَمَ فيه إما لرشوة أو لغراية او لشفاعة لأحد أقرباءه أو لعداوة بينه وبين أحد أطراف القضية ، وللتوضيح أكثر نضرب مثالاً :
( حدث بيني وبينك خلاف فذهبنا لقاضٍ يحكم بشرع الله ، والقاضي من طرفي (قريبي مثلاً) فلم يحكم ضدي في هذه المسألة ، وإن كُنتُ على باطل ، هنا حَكَمَ بغير شرع الله ، ولكن هل يكفر ؟

ج : المسألة خلافية*،*فعن بن مسعود – رضي الله عنه – قال يكفر وكذلك قال الإمام السدي ، اما ابن عباس – إن صح عنه – وجمهور العلماء أنه لا يكفر ولكن معصية من كبائر الذنوب – كفر دون كفر – (لاحظ أنه حَكَمْ ، ولكن لم يُبدل ، يعني حَكَمَ بغير حكم الله في هذه القضية ، ولكن لم يجعله حكم دائم يحكم فيه لكل شخص في هذه القضية ، لأن ذلك من التبديل ، وكُفر التبديل أكبر مُخرج من الملة)

*

– الدركة الثالثة :

وهي دركة التبديل ، وهي أظلم من التي قبلها وكُفرها كُفر أكبر مُخرج من الملة ، كيف هذه الدركة ؟
ج : أن يأتي بحكم – واحد أو أكثر فالحُكم سواء – مثلاً من الديمقراطية ، السارق في شرعنا تُقطع يده ، هو يأتي بحكم ديمقراطي يستبدل فيه حكم الله ، ويجعل عقوبة السارق السجن مثلاً ، هنا ماذا فعل ؟
ج : استبدل حكم الله بحكم البشر
ما حكمه ؟

ج : كافر خارج من الملة بإجماع المسلمين ،وقد سبق أن نقلنا الإجماعات سابقاً ، وهنا تلاحظ الفرق بين الدركة الثانية

والثالثة ، فالثانية لم يستبدل ولم يحكم إلا في قضية معينة ، أما الثالثة فاستبدل الحُكم كلياً وطبَّقَهُ بدلاً من شرع الله وجعله شرعاً وقانوناً بدلاً من شرع الله عزّوجل .

– الدركة الرابعة :

في الدركة الثالثة لم يُشَرِّع ، بل أتى بقانون أو حُكم جاهز .
في هذه الدركة هوَ الذي يُشَرِّع ويَسنّ القوانين والأحكام ، وهذا أشنع من الثالث ، وإن كان الإثنان كَفَرَة خارجين من الإسلام ، ولكن هذا جعل نفسه شريكاً لله في تشريعه ، إذ أن التشريع حق خاص لله عز وجل فمن نَازَعَهُ في حقه كَفَر ، وهذا بإجماع المسلمين .

– الدركة الخامسة :

هذه أخبث من السابقة أيضاً ، وهي التي يدّعي أصحابها أن لهم أو لغيرهم حق التشريع المُطلق ، فهذا أعلن جهاراً أنه يُنازع الله في ربوبيته .
الدركة السابقة يُشَرِّع في قانون مُعيَّن مثلاً ولكن لا يَدّعي التشريع مطلقاً ، أما هؤلاء فيدّعون حق التشريع ، وهؤلاء أنجس من أولئك وكلاهما نَجس ، وكلاهما كَفَرَة بإجماع المسلمين .

الدركة السادسة :

أخبث الدركات جميعها ، فهذه الدركة تُعطل حُكم الله بالإضافة إلى أنها تمتنع بشوكة عن تعطيل شرع الله .
فهذه اجتمعت فيها أسباب : كفر الحكم بما أنزل الله ، وكفر الإمتناع عن شريعة الإسلام بشوكتها وقوتها ، فأصبح هناك مناط مستقل لكفرهم ألا وهو الإمتناع بالشوكة ، وقد نصَّ الإجماع على كفر هذه الطائفة ” أي المتمنعة بالسلاح والشوكة ” وجميع الحكومات التي تحكم بلاد المسلمين ، وقعت هذه الدركة فجمعت انواع الكفر والردة قاتلهم الله ولعنهم ومكن للمجاهدين من رقابهم.

ننتقل سريعاً لمراجعة الدركات بإختصار :
1 – جُملة المعاصي كالسرقة والزنا وشرب الخمر وهي بالإجماع كفر دون كفر – معصية يعني صاحبها مُسلم عاصي .

2 – يَحكم بشرع الله ، ولكن حَكَمَ بقضية معينة لهوىً أو رشوةً بغيره ، هنا أجمع جماهير العلماء على أنه لا يكفر .

3 – هنا يُبدل حكم واحد أو أكثر ، يستبدل حكم الله بحكم آخر ، هذا كافر بالإجماع ، وتَنَبَّه هُنا أن هذا لم يُشَرِّع فقط بل جاءَ بحكم جاهز اقتبسه من قانون أو شريعة أخرى .

4 – هنا لا يقتبس قانوناً أو تشريعاً من قانون آخر ، وإنما هو بنفسه يُشَرِّع القانون ، وأيضاً يكفر إجماعاً .

5 – يُشَرِّع ويَدَّعي أن له حق التشريع ، عكس الرابع الذي لا يَدَّعي حق التشريع ، فهذا نَازَعَ الله في ربوبيته ، وكافرٌ بإجماع المسلمين .

6 – هؤلاء عَطَّلوا حُكم الله ، وفوق هذا تمنَّعوا عليه بالسلاح والشوكة ، فهؤلاء تحققت فيهم مناطات كفر تعطيل الحكم ، وأضف إليها الإمتناع إذ هو ردةٌمستقلةٌ لوحدها .

وآخر دعوانا ان الحمدلله رب العالمين .