وأما مقدار ما يجد الشهيد من مس القتل، فقد بين ذلك الضحوك القتال صلى الله عليه وسلم بقوله: (ما يجد ...

وأما مقدار ما يجد الشهيد من مس القتل، فقد بين ذلك الضحوك القتال صلى الله عليه وسلم بقوله: (ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة).

ومن كرم المولى جل وعلا على عباده المجاهدين في سبيله ما حباهم به من تمام الأجور إن أخفقوا وأصيبوا، فعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من غازية أو سرية تغزو فتغنم وتسلم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم وما من غازية أو سرية تخفق وتصاب إلا تم أجورهم).

وإن الصدق وإخلاص النية في الجهاد في سبيل الله شرط لبلوغ تلك الرتب والمنازل، روى النسائي في سننه عن شداد بن الهاد، أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزوة غنم النبي صلى الله عليه وسلم سبيا، فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟، قالوا: قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ قال: (قسمته لك)، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا، وأشار إلى حلقه بسهم، فأموت فأدخل الجنة فقال: (إن تصدق الله يصدقك)، فلبثوا قليلا ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أهو هو؟) قالوا: نعم، قال: (صدق الله فصدقه) ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: (اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا أنا شهيد على ذلك).

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفضل من قدم شيئا من ولده، وأن الاعتداد به أكثر، والنفع فيه أغزر وليس كما يظن ويعتقد كثير من الناس.

روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تعدون الرقوب فيكم؟» قال قلنا: الذي لا يولد له، قال: (ليس ذاك بالرقوب ولكنه الرجل الذي لم يقدم من ولده شيئا).

ومعنى الحديث: إنكم تعتقدون أن الرقوب المحزون، هو المصاب بموت أولاده وليس هو كذلك شرعا، بل هو من لم يمت أحد من أولاده في حياته، فيحتسبه ويكتب له ثواب مصيبته به، وثواب صبره عليه، ويكون له فرطا وسلفا في الآخرة، فأبشر أيها الأب وأبشري أيتها الأم، إن احتسبتما الأجر من الله بفقد بنيكما، فكم رأينا من الآباء والأمهات من حرض بنيه وجهزهم بماله، ثم رمى بهم في نحر العدو، صابرا محتسبا لينالوا شرف القتل في سبيل الله ومنزلة الشهادة، وقد غدى هذا الفعل واقع حال في مسيرة جهاد دولة الخلافة ولله الحمد والمنة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فبعد أن كان النفير إلى الجهاد ضيقا حرجا، تقوم به طائفة من أبناء المسلمين، يندر أن لا تجد في دولة الإسلام أهل بيت إلا وقدم من التضحية و الفدائية لهذا الدين، ما يعجز البيان عن وصفه وذكره كثرة وعددا، وقد أمسوا ما بين قتيل وأسير ومهجر طريد، شيبا وشبانا نساء وأطفالا، بل وقد قتلت عوائل بأكملها أبت أن تخرج من دار الإسلام، وآثرت القتل على أن تترك دار الإسلام وترجع إلى دار الكفر تحت مظلة الطاغوت وحكمه متأسية بأصحاب الأخدود، تلك الأمة الموحدة المؤمنة التي أعلى الله شأنها وأثنى عليها في كتابه بآيات تتلى إلى يوم القيامة، وسماه الفوز الكبير قال جل وعلا: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ *إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج: 4 - 11]، فتلك الموصل والرقة وسرت وغيرها من ولايات دولة الخلافة، ألوية فخر تشحذ بها الهمم وتحض جيل الخلافة الصاعد على بذل المزيد والسعي الحثيث لتحقيق الغاية السامية من جهاده، الذي ابتدأه القادة الربانيون تقبلهم الله وأعلى نزلهم في عليين لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ويكون الدين كله لله:

ففي القتلى لأجيال حـياة
وفي الأسرى فدى لهم وعتق