مقال: إنما الحياة الدنيا لعب ولهو (4) (زُيّن للذين كفروا الحياة الدنيا) إن الغرور بهذه ...

مقال: إنما الحياة الدنيا لعب ولهو (4)

(زُيّن للذين كفروا الحياة الدنيا)

إن الغرور بهذه الحياة الدنيا والتمسك بها والطمأنينة إليها، والإعراض عن الآخرة وعدم العمل لها هو دأب الكفار والمنافقين، فإن الله -سبحانه وتعالى- زيّن لهم الحياة الدنيا فاغتروا بها وعملوا لأجلها، وارتكبوا الكفر والمحرمات استحبابا لها، قال تعالى مبيّنا ذلك، {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. [البقرة: 212].

قال ابن كثير رحمه الله: "ثم أخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين الذين رضوا بها واطمأنوا إليها، وجمعوا الأموال ومنعوها عن مصارفها التي أمروا بها مما يرضي الله عنهم، وسخروا من الذين آمنوا الذين أعرضوا عنها، وأنفقوا ما حصل لهم منها في طاعة ربهم، وبذلوا ابتغاء وجه الله؛ فلهذا فازوا بالمقام الأسعد والحظ الأوفر يوم معادهم، فكانوا فوق أولئك في محشرهم ومنشرهم، ومسيرهم ومأواهم، فاستقروا في الدرجات في أعلى عليين، وخلد أولئك في الدركات في أسفل السافلين". [التفسير].

وأخبر الله عن أقوام وقعوا في الكفر طلبا لها وحبا فيها ورضا بها، قال تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. [النحل: 106 – 109].

قال الإمام الطبري رحمه الله: "حل بهؤلاء المشركين غضب الله، ووجب لهم العذاب العظيم، من أجل أنهم اختاروا زينة الحياة الدنيا على نعيم الآخرة". [التفسير].

وقال ابن تيمية رحمه الله: "والله سبحانه وتعالى جعل استحباب الدنيا على الآخرة هو الأصل الموجب للخسران". [مجموع الفتاوى].

ولهذا أُعجِبَ الكفار بها مع أن حقيقتها خلاف ما زيّن لهم منها، قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}. [الحديد: 20].

قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله:{أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} أي يعجب الزراع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث; وكما يعجب الزراع ذلك كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار، فإنهم أحرص شيء عليها، وأميل الناس إليها". [التفسير].

ولذا كانت الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، ففي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤْمِنِ وجنَّةُ الكَافِرِ).

قال النووي رحمه الله: "معناه أن كل مؤمن مسجون ممنوع في الدنيا من الشهوات المحرمة والمكروهة، مكلف بفعل الطاعات الشاقة، فإذا مات استراح من هذا وانقلب إلى ما أعد الله تعالى له من النعيم الدائم والراحة الخالصة من النقصان، وأما الكافر فإنما له من ذلك ما حصل في الدنيا مع قلته وتكديره بالمنغصات، فإذا مات صار إلى العذاب الدائم وشقاء الأبد". [شرح مسلم].

وقال ابن القيم رحمه الله: "الدنيا سجن المؤمن" فيه تفسيران صحيحان:

أحدهما: أن المؤمن قيّده إيمانه عن المحظورات، والكافر مطلق التصرف.

الثاني: أن ذلك باعتبار العواقب، فالمؤمن لو كان أنعم الناس فذلك بالإضافة إلى مآله في الجنة كالسجن، والكافر عكسه، فإنه لو كان أشد الناس بؤسا فذلك بالنسبة إلى النار جنته". [بدائع الفوائد].

أيها المؤمنون، لقد طغى حب الدنيا على قلوب كثير من الناس، فأفنوا في ملذاتها أعمارهم، وضيعوا طلبا لزخرفها أوقاتهم، فصرفوا لها هِمَمهم، وحركوا لأجلها همتهم، وآثروها على نعيم الآخرة، وقدموها على الحياة الباقية، فوقعوا في الخسارة الأكيدة، واستحقوا دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم بالهلاك والتعاسة!

ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (تَعِسَ عَبْدُ الدينار، تَعِسَ عَبْدُ الدرهم، تَعِسَ عَبْدُ الخَمِيصَة، إن أُعْطِيَ رَضِيَ، وإن لم يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وانْتَكَسَ، وإذا شِيكَ فلا انتَقَشَ، طُوبَى لعبد آخذ بعِنَانِ فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مُغْبَرَّةً قدماه، إن كان في الحِرَاسَةِ كان في الحِرَاسَةِ، وإن كان في السَّاقَةِ كان في السَّاقَةِ، إن استأذن لم يُؤْذَنْ له، وإن شَفَعَ لم يُشَفَّعْ).

ومعنى (تعس) أي سقط والمراد هنا الدعاء عليه بالتعاسة والهلاك، و(عبد الدينار) أي طالبه الحريص على جمعه القائم على حفظه، فكأنه لذلك خادمه وعبده، و(الخميصة) كساء من صوف أو خز ونحوهما، مربع له أعلام، و(انتكس) انقلب على رأسه وهو دعاء عليه بالخيبة والخسران، و(شيك) أصابته شوكة، و(فلا انتقش) فلا قدر على إخراجها بالمنقاش ولا خرجت، والمراد إذا أصيب بأقل أذى فلا وجد معينا على الخلاص منه، و(طوبى) من الطيب أي الدعاء للمجاهد بالحياة الطيبة والجزاء الطيب وهو الجنة.

وانظر أخي المجاهد إلى دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن جاهد ورابط في سبيل الله، ودعاءه على من حرص على الدنيا ونسي مولاه.
قال ابن القيم رحمه الله: "فسمى هؤلاء الذين إن أعطوا رضوا وإن منعوا سخطوا، عبيدا لهذه الأشياء، لانتهاء محبتهم ورضاهم ورغبتهم إليها، فإذا شغف الإنسان بمحبة صورة لغير الله، بحيث يُرضيه وصوله إليها وظفره بها، ويُسخطه فوات ذلك، كان فيه من التعبد لها بقدر ذلك". [إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان].

فيا حسرة من باع الآخرة بدنيا فانية! و يا ندامته وخزيه يوم القيامة، وقد صوّر الله -سبحانه وتعالى- لنا حال الكفار يوم القيامة وهم يعرضون على النار، فقال سبحانه: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا}. [الأحقاف:20].

قال القرطبي رحمه الله: "قوله تعالى:{وَيَوْمَ يُعْرَضُ} أي ذكرهم يا محمد يوم يعرض {الذين كفروا على النار}، أي يكشف الغطاء فيقربون من النار وينظرون إليها..، فيقال لهم {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} أَيْ تَمَتَّعْتُمْ بِالطَّيِّبَاتِ فِي الدُّنْيَا وَاتَّبَعْتُمُ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ، يَعْنِي الْمَعَاصِيَ، {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أَيْ عَذَابَ الْخِزْيِ وَالْفَضِيحَة". [التفسير].

قال ابن القيم رحمه الله: "وقد توعد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها، وغفل عن آياته ولم يرج لقاءه، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}" [الفوائد].

فشمّر أيها الموحد في طلب المعالي، فلن تنال راحة الآخرة والسعادة الأبديّة إلا بالتعب والنصب في هذه الحياة الفانية الدنيّة.

قال ابن القيم رحمه الله:" وأجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من رافق الراحة فارق الراحة". [مدارج السالكين].

وقال ابن مفلح رحمه الله: "واعلم أن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة والعكس بالعكس". [الآداب الشرعية].

والحمد لله رب العالمين


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 183
الخميس 18 رمضان 1440 ه‍ـ