مقال: إنما الحياة الدنيا لعب ولهو (2) (كونوا أبناء الآخرة) الحمد لله سامع السر والنجوى وكاشف ...

مقال: إنما الحياة الدنيا لعب ولهو (2)

(كونوا أبناء الآخرة)

الحمد لله سامع السر والنجوى وكاشف الضر والبلوى الذي وفّق عباده المؤمنين لإيثار الآخرة على الأولى والصلاة والسلام على نبي الهدى وعلى آله وصحبه مصابيح الدجى ومن بإحسان تبعهم واقتفى، أما بعد:

فإن كل عاقل لبيب يقدم الباقي على الفاني، ويرغب في الدائم ويعزف عن الزائل، وقد بين الله في كتابه لعباده أن الدار الآخرة خير من الحياة الفانية فقال سبحانه: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30].

قال الإمام الطبري رحمه الله: "يقول: ولدار الآخرة خير لَهُمْ مِنْ دَارِ الدُّنْيا، وكرامة الله التي أعدّها لهم فيها أعظم من كرامته التي عجلها لهم في الدنيا" [التفسير].

وبيّن أن أجرها أكبر فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل: 41].

قال الإمام الطبري رحمه الله: "يقول: ولثواب الله إياهم على هجرتهم فيه في الآخرة أكبر، لأن ثوابه إياهم هنالك الجنة التي يدوم نعيمها ولا يبيد" [التفسير].

ومع ذلك فإن أكثر الناس بهذه الحياة الفانية متمسكون، وعن الحياة الباقية معرضون كما أخبر رب العالمين بقوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16، 17].

وقد عاتب الله تعالى الراضين بالدنيا من المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38]، قال الإمام الطبري رحمه الله: "وقوله: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ)، يقول جل ثناؤه، أرضيتم بحظ الدنيا والدّعة فيها، عوضًا من نعيم الآخرة، وما عند الله للمتقين في جنانه {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ}، يقول: فما الذي يستمتع به المتمتعون في الدنيا من عيشها ولذَّاتها في نعيم الآخرة والكرامة التي أعدَّها الله لأوليائه وأهل طاعته {إِلَّا قَلِيلٌ}، يسير، يقول لهم: فاطلبوا، أيها المؤمنون، نعيم الآخرة، وشرف الكرامة التي عند الله لأوليائه، بطاعتِه والمسارعة إلى الإجابة إلى أمره في النفير لجهاد عدوِّه". [تفسير الطبري].

وقال ابن كثير رحمه الله: "هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر وحمارة القيظ، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل الله {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ} أي: تكاسلتم وملتم إلى المقام في الدعة والخفض وطيب الثمار، {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} أي: ما لكم فعلتم هكذا أرضا منكم بالدنيا بدلا من الآخرة؟ ثم زهد تبارك وتعالى في الدنيا، ورغب في الآخرة، فقال: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ}" [التفسير].

وحقّر الله تعالى من شأن الدنيا فقال سبحانه: "{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} قال ابن كثير رحمه الله:" وَقَوْلُهُ: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} تصغيرا لشأن الدنيا، وتحقيرا لأمرها، وأنها دنيئة فانية قليلة زائلة" [التفسير].

وفي صحيح مسلم عن المستورد بن شداد، أخي بني فهر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار يحيى بالسبابة- في اليم، فلينظر بم ترجع؟).

قال النووي رحمه الله: "ومعنى الحديث ما الدنيا بالنسبة إلى الآخرة في قصر مدتها وفناء لذاتها ودوام الآخرة ودوام لذاتها ونعيمها إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالأصبع إلى باقي البحر" [شرح مسلم].
وضرب الله في كتابه الأمثلة المبينة لسرعة انقضائها وزوالها فبينا هي متزينة لطلابها تزهر بنضارتها لتستهوي القلوب كزهرة جميلة فتّانة تخدع الناظر إليها لا تلبث إلا برهة حتى تذبل فتتلاشى تلك النضارة ويضمحل ذلك الجمال لتصبح يابسة تفرقها الرياح كأنها لم تكن هكذا مثل الحياة الدنيا قال تعالى مبينا ذلك بأوجز عبارة وأوضح مقالة: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45].