{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، والصلاة والسلام على أشرف ...

{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني}


بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد: إن محبة الله ليست دعوى باللسان، ولا هي مشاعر جياشة، يُعبَّر عنها بكلمات رنانة متحمسة انبعثت من قلوب ميتة لا تؤمن بها، ولن يؤمن إنسانٌ بما يقول حقاً حتى يستحيل هو ترجمة حية لما ينطق، وحتى تتجسد كلماته واقعاً يعيشه، فلابد للعبد أن يطابق بين قوله وفعله وبين عقيدته وسلوكه، ولا يتم له ذلك إلا بجهدٍ ومحاولةٍ وصلةٍ بالله وحده، واستعانةٍ به وحده، واتباعٍ لمنهجه وشرعه، حتى تصير كلماته واقعاً نافعاً له ونموذجاً يُقتدى به، إذ أن الحياة الدنيا وفتنها كثيراً ما تنأى بالعبد عن ما يعتقده في قلبه ويدعو إليه، ما لم يتصل بالله ويستمد القوة منه، لأن الحياة الدنيا وشرورها أقوى منه ما لم يتصل بقوة الله، وقد يغالبها مرة ومرة ومرة وفي لحظة ضعف تنتابه يتخاذل ويتهاوى ويخسر ماضيه وحاضره ومستقبله، لأن كلماته كانت كلمات مجردة عن أفعال تؤيدها، كانت محبته ادعاءً خالياً من الاتّباع لرسول الله، والسير على هداه، وتحقيق منهجه في الحياة، لذلك كان قول الله واضحاً مبيّناً حقيقة الدين بأنه ليس كلمات مجردة عن تطبيقاتها المأمور بها، وأن محبته لا تكون بلا اتباع لما أمر به، فقال جلَّ مِنْ قائل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[آل عمران:31]. قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأعماله".[التفسير].


- محبةُ الله هي التزام أمره ونهيه

فمحبة الله ليست كلمة فقط تقال بل هي كلمة من خلفِها تكاليف وانقياد والتزام لطاعته ودينه ظاهراً وباطناً، بهذا يكون المرء محباً لله لفظاً ومعنى، وبهذا يذوق المرء حلاوة الإيمان ذلك المذاق الفريد الجميل، وما كان له ذلك إلا بإنعام الله عليه أن هداه لحبه وشغلَه به ورزَقَه تحقيقه، وفضّله على من سواه ممن انشغل بمذاقاتٍ للحب مكذوبة، فالمحبة هي الاتباع لله ولرسوله وتحقيقٌ للمنهج القويم.

روى البخاري عن عبد الله بن هشام قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن، والله، لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر). ومعنى محبته هنا أي يكون رضاه وطاعته مقدمة على نفس عمر وإن كان في ذلك هلاكه وهذه هي حقيقة الاتباع.

قال الخطابي في شرح الحديث: "لم يرد به حب الطبع بل أراد به حب الاختيار؛ لأن حب الإنسان نفسه طبع ولا سبيل إلى قلبه، فمعناه لا تَصْدُق في حبي حتى تُفني في طاعتي نفسك وتؤثر رضاي على هواك، وإن كان فيه هلاكك".[طرح التثريب].

فهذه هي حقيقة المحبة، ثم إنه سبحانه بعد أن يهدي عبده لحبه يتكرم عليه بهائل الإنعام وعظيم الفضل؛ أن يحبه ويُلقي محبته في قلوب خلقه الصالحين من ملئِه الأعلى ويضع له القَبول في الأرض عند أهل الإيمان وذلك قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}[ مريم:96].


- يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ

ومن أهل الإيمان الذين نعتهم الله بحبه؛ أهل الجهاد الذين اختارهم لرفع رايته وتحكيم شرعه وقهر عدوه، تلك العصبة التي أتى بها سبحانه حين خذل دينَه الخلقُ، وحين ارتد من ارتد عن شرعه، أتى بها لتقرّ حكمه في الأرض، قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}[المائدة]. حبهم متبادل يحبهم ويحبونه، يتحملون في سبيله البأساء والضراء، صامدين للزلازل لا تهزّهم الفتن ولا يبالون بالبلاءات، محبتهم خالصة له وهذه هي المحبة النافعة المثمرة وكل محبة سواها ضارة باطلة.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " فكل المحاب باطلة مضمحلة سوى محبة الله وما والاها، من محبة رسوله، وكتابه، ودينه، وأوليائه. فهذه المحبة تدوم وتدوم ثمرتها ونعيمها بدوام من تعلقت به، وفضلها على سائر المحاب كفضل من تعلقت به على ما سواه".[إغاثة اللهفان].

ثم وصفهم سبحانه بأنهم {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} نفوسهم ممتلئة حنقاً وغيظاً وعزة وإباءً على الكافرين ومن والاهم، {يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} فقط في سبيل الله ولأجل الله ولإقامة منهج الله، لا يخافون لومة لائم من أهل الشقاق والنفاق أو من غيرهم، وكيف يخافون وقد ضمنوا محبة الله ومعيّته، فهو يحبهم ويحبونه.