محاصرة الذنوب! خلق الله الإنسان وخلق معه الخير والشر، وجعل بينهما صراعا ممتدا إلى قيام الساعة، ...

محاصرة الذنوب!

خلق الله الإنسان وخلق معه الخير والشر، وجعل بينهما صراعا ممتدا إلى قيام الساعة، كل منهما لا يكل ولا يمل من مدافعة الآخر، ويشن إبليس حامل لواء الباطل وأتباعه من الإنس والجن هجمات مكثفة لاستهداف أهل الحق وإضعاف صفوفهم، ومن أساليبه في ذلك؛ تزيين الذنوب في أعينهم وتهوينها في نفوسهم حتى يقعوا فيها، فإن أتوها سهُل عليه اختراق دفاعاتهم بعدها.

لأجل هذا كانت الذنوب وما تزال ركنا أساسيا من أركان جيش الباطل وآلة حرب يستخدمها إبليس وجنوده في مهاجمة جيش الحق وتقويض بنيانه وزعزعة أركانه، وهو ما يحتّم على المسلمين التنبه لها والتوقي منها ومعرفة أساليب مواجهتها.

ومن بين أنجع الأساليب القتالية التي تدرّسها المعسكرات الحربية؛ محاصرة العدو بغية إضعافه وهزيمته، ويكون ذلك بإغلاق جميع المنافذ وطرق الإمداد التي ترفده بالذخيرة والمؤن، فينهكه الجوع والعطش، وتنفذ ذخيرته وتتحطم معنوياته وتخور قواه، فيكون مصيره الاستسلام أو الموت، وكلما كان الحصار محكما، كانت نتائجه أكثر فتكا وأثرا في صفوف العدو، ومن المناسب اتباع هذا الأسلوب في محاصرة الذنوب وتطويقها وتجفيف منابعها وتضييق مجاريها استقاءً من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن الشَّيطانَ يَجري مِن ابنِ آدمَ مَجرى الدَّمِ) [أخرجه الشيخان].

فقهيا، يُعرّف العلماء الذنب بأنه: كل فعل يُستقبح شرعا ويستحق فاعله العقوبة من الله تعالى، وهو يتراوح بين مخالفة الأمر أو النهي الإلهي، بمعنى: فعل شيء محرم أو ترك شيء واجب.

وقد قسّم جمهور الفقهاء الذنوب إلى قسمين اثنين: كبائر وصغائر وكلاهما وبال على المكلّف لا ينبغي الاستهانة بأي منهما، ولقد شاع في زماننا أن يجتهد العبد في اجتناب الكبائر بينما يتساهل في الصغائر ولا يحترز منها، في حين كان السلف يجتنبون صغائر الذنوب كما كبائرها ولا يحقرون شيئا منها، روى البخاري في "باب ما يُتّقى من محقرات الذنوب" عن أنس رضي الله عنه قال: "إنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أعْمالًا، هي أدَقُّ في أعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إنْ كُنَّا لَنَعُدُّها علَى عَهْدِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ المُوبِقاتِ" يعني المهلكات، وقال ابن القيم في المدارج: "وقد يقترن بالصغيرة -من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها- ما يلحقها بالكبائر!"، ونُسب إلى بعض السلف قوله: "مثل الذي يجتنب الكبائر ويقع في المحقرات، كرجل لقيه سبع فاتقاه حتى نجا منه، ثم لقيه فحل إبل فاتقاه فنجا منه، فلدغته نملة فأوجعته، ثم أخرى ثم أخرى حتى اجتمعن عليه فصرعنه!".

والذنوب أصل كل شر وبلية قديما وحديثا، ويكفي للدلالة على خطرها أنها كانت سببا في إخراج أبوينا من الجنة! لقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ}، وبالجملة فالذنوب سبب الخروج من كل خير والولوج في كل شر، ومؤلفات السلف والخلف تكتظ ببيان عاقبة الذنوب وأخطارها على العبد في الدارين ما يضيق المقام لسرده هنا، غير أن شؤمها وشرورها وحصادها في واقع أمتنا لا يكاد يخفى.

ومن بين أخطر نتائج الذنوب في الدنيا أنها تكون سببا في تسلُّط العدو أو تأخُّر النصر وحجبه عمّن ينتظره أو ضياعه بعد نزوله كما حدث -مثلا- يوم أُحد لقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}، قال ابن كثير: "أي ببعض ذنوبهم السالفة" وقال البغوي: "بشؤم ذنوبهم". وهم مَن هم في الطاعة والتقوى، فكيف بزماننا وأحوالنا؟ اللهم سلّم سلّم.
ومن أخطارها الصامتة القاتلة حرمان الهداية إلى الحق، وقد دلت السنة الصحيحة على أن مراكمة الذنوب تجعل القلب: (أسودَ مُربَدًّا كالكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعرِفُ مَعروفًا، ولا يُنكِرُ مُنكَرًا) [مسلم]، حيث تتكاثر الذنوب عليه وتطغى حتى تحجبه عن نور الحق فيرى المعروف منكرا والمنكر معروفا، فتنتكس فطرته وتعمى بصيرته وهذا هو "الران" كما روى الإمام الترمذي عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنَّ العبدَ إذا أخطأَ خطيئةً نُكِتت في قلبِهِ نُكْتةٌ سوداءُ، فإذا هوَ نزعَ واستَغفرَ وتابَ سُقِلَ قلبُهُ، وإن عادَ زيدَ فيها حتَّى تعلو قلبَهُ، وَهوَ الرَّانُ الَّذي ذَكَرَ الله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}).

إن أنجع السبل لمحاصرة الذنوب، هي اعتزالها وسد الطرق إليها وقطع العلائق بها ومفارقة أصحابها وهجرة مواطنها، ولذا كانت الهجرة إلى مواطن الإيمان من أسباب النجاة، والبقاء في مواطن الكفر والفسوق من أسباب الفتنة والهلاك، قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}، قال القرطبي: "فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم".

إن محاصرة الذنوب مهمة فردية وجماعية معا، ينطلق بها الفرد المسلم من نفسه بمجاهدتها وإيقافها عند حدها، وإدراكه أنّ ذنبه مهما صغُر خرق للسفينة برمتها، وكذلك فإن محاصرة الذنوب مهمة تقودها الجماعة المسلمة داخل صفوفها عبر ميدان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لكل مسلم، وهذا ما يميّز المجتمع المسلم الذي تعلوه الفضيلة وتقوده الشريعة، عن غيره من المجتمعات الجاهلية التي تغشاها الرذائل والموبقات من فوقها ومن أسفل منها.

نسوق هذا الكلام في صدر الصحيفة لا زواياها، تذكيرا لإخواننا المجاهدين الذين تشتد حاجتهم إلى محاصرة الذنوب والانتصار عليها بصفتهم دعاة إلى الحق بالسنان والبيان، يجاهدون لإعلاء الملة واستعادة مجد الأمة، ولا يمكن النجاح في هذه المهمة المقدسة حتى يكون المجاهد قدوة فيها، وهذه مهمة تبدأ من الداخل إلى الخارج، والمؤمن يتهم نفسه خلافا للمنافق، فليبدأ كل مجاهد بنفسه ويحاصر ذنوبه ويقهرها وينتصر عليها، ليكون مؤهلا لقهر جيوش الكفر الذين يتربصون بنا ويتأهبون لحربنا، ولينصرن الله من ينصره.


• المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 524
السنة السابعة عشرة - الخميس 13 جمادى الآخرة 1447 هـ