الحياء الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله ...

الحياء

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:

فإِنّ من الصفات الحميدة والأخلاق الجميلة التي دعا إليها الشارع: صفة الحياء.

قال تعالى عن موسى عليه السلام عندما سقى للمرأتين: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25] الآية.

روى الإمام أحمد في كتابه الزهد، والبيهقي في شعب الإيمان من حديث سعيد بن زيد - رضي الله عنه -: أن رجلاً قال: يا رسول الله: أوصني، قال: «أُوصِيكَ أَن تَستَحِي مِنَ اللهِ كَمَا تَستَحِي رَجُلاً مِن صَالِحِي قَومِكَ» (¬1).

وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي مسعود البدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» (¬2). وهذا الحديث فيه دليل على أن الحياء مانع للإِنسان من ارتكاب ما يضره في دينه، أو يخل بأدبه ومروءته، فإِذا فقدت منه هذه الخصلة لم يبال بما صنع.

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» (¬3).

وكانت العرب في الجاهلية تتحلى بصفة الحياء، فهذا أبو سفيان قبل إسلامه عندما وقف أمام هرقل ملك الروم ليسأله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبر عن نفسه قائلاً: لولا الحياء من أن يأثروا عليَّ كذبًا لكذبت عليه.

قال ابن القيم رحمه الله: وخلق الحياء من أفضل الأخلاق وأجلها وأعظمها قدرًا، وأكثرها نفعًا، وهو خاصة الإِنسانية؛ فمن لا حياء فيه ليس معه من الإِنسانية إلا اللحم والدم وصورتهما الظاهرة، كما أنه ليس معه من الخير شيء، ولولا هذا الخلق - أي الحياء- لم يكرم ضيف، ولم يوف بالوعد، ولم تؤد أمانه، ولم تقض لأَحدٍ حاجة؛ ولا تحرى الرجل الجميل ففعله والقبيح فتجنبه، ولا ستر له عورة، ولا امتنع عن فاحشة؛ ... فإن الباعث على هذه الأفعال إما ديني، وهو رجاء عاقبتها الحميدة، وإما دنيوي وهو ... حياء فاعلها من الخلق؛ فقد تبيّن أنه لولا الحياء إما من الخالق أو من الخلائق لم يفعلها صاحبها ... إلى آخر ما قال» (¬4).

وقال عمر - رضي الله عنه -: مَن قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ، وَمَن قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلبُهُ (¬5).

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: مَرَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ» (¬6).

قال الشاعر:

إِذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي ... وَلَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ

فَلاَ وَاللهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيرٌ ... وَلاَ الدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ الحَيَاءُ

يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيرٍ ... وَيَبْقَى الْعُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ

قال ابن القيم رحمه الله: ومن عقوبات المعاصي ذهاب الحياء الذي هو مادة حياة القلب، وهو أصل كل خير، وذهابه ذهاب الخير أجمعه، فقد جاء في الحديث الصحيح: «الْحَيَاءُ لاَ يَاتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ» (¬7) والمقصود أن الذنوب تضعف الحياء من العبد حتى ربما انسلخ منه بالكلية، حتى إنه ربما لا يتأثر بعلم الناس بسوء حاله ولا باطلاعهم؛ بل كثير منهم يخبر عن حاله وقبح ما يفعل، والحامل له على ذلك انسلاخه من الحياء، وإذا وصل العبد إلى هذه الحال لم يبق في صلاحه مطمع، ومن استحيا من الله عند معصيته استحى الله من عقوبته يوم يلقاه، ومن لم يستح من معصيته لم يستح الله من عقوبته. اهـ (¬8).

روى ابن حبان في صحيحه من حديث أسامة بن شريك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا كَرِهَ اللهُ مِنْكَ شَيْئًا فَلاَ تَفعَلْهُ إِذَا خَلَوْتَ» (¬9).

قال القحطاني رحمه الله:

وَإِذَا خَلَوْتَ بِرِيبَةٍ فِي ظُلْمَةٍ ... وَالنَّفْسُ دَاعِيَةٌ إِلَى الطُّغْيَان

فَاسْتَحِي مِن نَظَرِ الإِلَهِ وَقُل لَهَا ... إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الظَّلاَمَ يَرَانِي

ومثاله: ما يقوم به بعض الذين يسافرون إلى الخارج لقضاء الشهوات والملذات، ثم يخبر أحدهم بجريمته التي فعل من شرب خمر أو فاحشة؛ أو غير ذلك من المعاصي، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ» (¬10).

وهؤلاء لهم نصيب من قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النور:19].

وهنا أمر ينبغي التنبه له، وهو أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس من الحياء، قال تعالى: {وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ} [الأحزاب: 53].

قال الإِمام النووي: قد يشكل على بعض الناس من حيث إن صاحب الحياء قد يستحي أن يواجه بالحق من يُجله، فيترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وقد يحمله الحياء على الإِخلال ببعض الحقوق، والجواب عن هذا ما أجاب به جماعة من الأئمة منهم: أبو عمرو بن الصلاح، أن هذا المانع ليس من الحياء؛ بل هو عجز وخور ومهانة، فالحياء الحقيقي خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق. اهـ (¬11).

وقد حثّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على إنكار المنكر وأمر بتغييره، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» (¬12).

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

¬_________

(¬1) الزهد للإمام أحمد (ص46)، والشعب للبيهقي (6/ 145 - 146) برقم (7738)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 376) برقم (741).

(¬2) صحيح البخاري برقم (6120).

(¬3) صحيح البخاري برقم (9)، وصحيح مسلم برقم (35).

(¬4) مختصر من كتاب مفتاح دار السعادة لابن القيم (ص277) نقلاً عن كتاب نضرة النعيم (5/ 1802).

(¬5) مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا (ص82 - 83) برقم (93).

(¬6) صحيح البخاري برقم (24)، وصحيح مسلم برقم (36).

(¬7) صحيح البخاري برقم (6117)، وصحيح مسلم برقم (37).

(¬8) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (61 - 62).

(¬9) صحيح ابن حبان (3 - 4)، وحسنه لغيره الألباني في صحيح موارد الظمآن برقم (2116).

(¬10) صحيح البخاري برقم (6069)، وصحيح مسلم برقم (2990).

(¬11) شرح صحيح مسلم (1/ 5 - 6).

(¬12) صحيح مسلم برقم (49).