مقال: جاه الأكارم (7) -الحياء- الحمد لله رب العالمين، هادي المؤمنين لما فيه صلاحهم في الدنيا ...
مقال: جاه الأكارم (7) -الحياء-
الحمد لله رب العالمين، هادي المؤمنين لما فيه صلاحهم في الدنيا والدين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وبعد.
لكل شيء رأس، ورأس الأخلاق ما كان خير كله وهو الحياء، فمن رُزِقَهُ مَلَك زمام بقية الأخلاق الطيبة، ومن عجز عنه تعسّرت عليه الفضائل وزلت قدمه في مستنقع الأخلاق الذميمة، وهو من مكارم الأخلاق التي تضفي على عيش عباد الله فيما بينهم وُدّا ومحبة، فتُحجز القلوب من الأحقاد والضغائن، والحياء خصلة من خصال الإيمان، وخلق في الإسلام محمود، فمن تحلى به حسُن له إسلامه، وسمت بالعلياء أخلاقه، وهجر المعاصي والمنكرات استحياء من رب الأرض والسموات، وأقبل على طاعة الإله محبة وتعظيما.
والحياء يكسو صاحبه وقارًا واحترامًا، فيصرف عنه أذى السفهاء، ويكف عنه عتاب العقلاء، وهو صفة من صفات الأنبياء، ومن سار على نهجهم من عباد الله الأتقياء، وهو في أخلاق الرجال جميل، وفي أطباع النساء لازم تمتاز به الصالحات البتول، واكتسابه يغطي كل معيب، وضياعه يظهر كل قبيح.
وقيل في معنى الحياء أنه "الحشمة، ضد الوقاحة،... وهو الانقباض والانزواء" [لسان العرب]، وقيل أيضا أنه: "انقباض النَّفس مِن شيءٍ وتركه حذرًا عن اللَّوم فيه" [التعريفات للجرجاني]، وقال ابن حجر: "الحَياء خُلُق يبعث صاحبه على اجتناب القبيح، ويمنع مِن التقصير في حقِّ ذي الحقِّ" [فتح الباري]
ولقد جاء في كتاب الله تعالى امتداح الحياء فقال تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] فقد فسره بعض العلماء بأنه الحياء.
حياء النبي صلى الله عليه وسلم
وقد عُرف نبينا صلى الله عليه وسلم بالحياء حتى قيل عنه أنه "أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه" [متفق عليه] فحياؤه أشد من حياء الفتاة البكر، وإن كره الشيء لا يتكلّم وإنما يُعرف ويُفهم من تغيّر وجهه صلى الله عليه وسلم.
ومن صور حيائه عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ} [الأحزاب: 53] قال ابن كثير: "قيل: المراد أنَّ دخولكم منزله بغير إذنه، كان يشُقُّ عليه ويتأذَّى به، لكن كان يكره أن ينهاهم عن ذلك مِن شدَّة حَيَائه عليه السَّلام، حتى أنزل الله عليه النَّهي عن ذلك" [التفسير]
وإن الحياء قديم في بني البشر منذ أبيهم آدم عليه السلام، والحياء مأمور به وتركه منهي عنه، فعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ ممَّا أدرك النَّاس مِن كلام النُّبوَّة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) [رواه البخاري] قال الخطَّابي: "قال الشَّيخ: معنى قوله (النُّبوَّة الأولى) أنَّ الحَيَاء لم يزل أمره ثابتًا، واستعماله واجبًا منذ زمان النُّبوَّة الأولى، وأنه ما مِن نبيٍّ إلَّا وقد نَدَب إلى الحَيَاء وبُعِث عليه، وأنَّه لم ينسخ فيما نسخ مِن شرائعهم، ولم يُبَدَّل فيما بُدِّل منها" [معالم السنن للخطَّابي]
• خصلة من خصل الإيمان
والحياء خصلة من خصال الإيمان فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون -وفي رواية وسبعون- شعبة، والحياء شعبة من الإيمان) [متفق عليه]، قال الخطَّابي: معنى قوله: (الحَيَاء شعبة مِن الإيمان) "أنَّ الحَيَاء يقطع صاحبه عن المعاصي ويحجزه عنها، فصار بذلك مِن الإيمان" [معالم السنن]
وقال ابن القيِّم: "خُلق الحَيَاء مِن أفضل الأخلاق وأجلِّها وأعظمها قدرًا وأكثرها نفعًا" [مفتاح دار السَّعادة]
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (الحَيَاء لا يأتي إلَّا بخير) [متفق عليه]، قال ابن رجب: "(الحياء لا يأتي إلَّا بخير): فإنَّه يكفُّ عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق، ويحثُّ على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها، فهو مِن خصال الإيمان بهذا الاعتبار" [جامع العلوم والحكم]
ولما حاز الحياء مكانة عالية وصف كله بالخيرية، فعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الحياء خير كله)، أو قال: (الحياء كله خير). [مسلم]
وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: من استحيا اختفى، ومن اختفى اتقى، ومن اتقى وُقي.
وقد نرى البعض يذم غيره لشدة حيائه، وهذا مجانب للصواب، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، مرَّ على رجل، وهو يعاتب أخاه في الحياء، يقول: إنَّك لتستحِيي حتى كأنَّه يقول: قد أضرَّ بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعه، فإنَّ الحياء مِن الإيمان) [رواه البخاري]
قال ابن بطَّال: "معناه أنَّ الحَيَاء مِن أسباب الإيمان وأخلاق أهله؛ وذلك أنَّه لما كان الحَيَاء يمنع مِن الفواحش، ويحمل على الصَّبر والخير، كما يمنع الإيمان صاحبه مِن الفجور، ويقيِّده عن المعاصي، ويحمله على الطَّاعة، صار كالإيمان لمساواته له في ذلك، وإن كان الحَيَاء غريزة، والإيمان فعل المؤمن، فاشتبها مِن هذه الجهة" [شرح البخاري]
ومن أبواب الحياء في المجلس حياء الصغير عند الكبير وحياء الجاهل عند العالم والولد عند والديه فإنه من حسن الأدب، قال ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ولا تحت ورقها فوقع في نفسي أنها النخلة فكرهت أن أتكلم وثم أبو بكر وعمر فلما لم يتكلما قال النبي صلى الله عليه وسلم هي النخلة فلما خرجت مع أبي قلت يا أبتاه وقع في نفسي أنها النخلة قال ما منعك أن تقولها لو كنت قلتها كان أحب إلي من كذا وكذا قال ما منعني إلا أني لم أرك، ولا أبا بكر تكلمتما فكرهت. [متفق عليه]
• استحيوا من الله حق الحياء!
وأعظم الحياء أن يستحي العبد من ربه فذاك المقام الأسمى والدرجة الأعلى ومن عرف ربه حقيقة استحيى منه، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استحيوا مِن الله حقَّ الحياء). قال: قلنا: يا رسول الله إنَّا لنستحيي، والحمد للَّه. قال: (ليس ذاك، ولكنَّ الاستحياء مِن الله حقَّ الحياء: أن تحفظ الرَّأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، وتتذكَّر الموت والبِلَى، ومَن أراد الآخرة، ترك زينة الدُّنيا، فمَن فعل ذلك، فقد استحيا مِن الله حقَّ الحياء) [رواه التِّرمذي]، قال ابن رجب: "يدخل فيه حفظ السَّمع والبصر واللِّسان مِن المحرَّمات، وحفظ البطن وما حوى، يتضمَّن حفظ القلب عن الإصرار على ما حرَّم الله، ويتضمَّن أيضًا حفظ البطن مِن إدخال الحرام إليه مِن المآكل والمشارب، ومِن أعظم ما يجب حفظه مِن نواهي الله عزَّ وجلَّ اللِّسان والفرج" [جامع العلوم والحكم]، "ويروى عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم وصّاه لما بعثه إلى اليمن فقال: (استحي من الله كما تستحي من رجل ذي هيبة من أهلك)، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن كشف العورة خاليا، فقال: الله أحق أن يستحيا منه" [جامع العلوم والحكم]. ولمَ لا يستحي العبد من ربه وربُه هو الحيي سبحانه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حَيِيٌ سِتِّير يحب الحياءَ والستر) [الآداب للبيهقي]
في حق النساء أولى!
وإن أُمر الرجال بالحياء فهو في حق النساء أولى بلا شك، فمما جاء في حياء النساء، قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25] قال مجاهد: "يعْني: واضعةً ثوبها على وجهها ليست بخرَّاجةٍ ولا وَلَّاجةٍ" [تفسير مجاهد]، وروى ابن جرير عن عمر رضي الله عنه، قال: "واضعة يدها على وجهها مستترة"، وهذا الأصل في النساء أن يكنّ رمزا في الحياء، وإنّ شرع الله ليحث النساء على الحياء ويؤاخذهن به؛ لما في ذلك من صيانة للمجتمع المسلم من الفواحش والفجور.
نعوذ بالله من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى الآل والصحب أجمعين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 310
الخميس 21 ربيع الأول 1443 هـ
الحمد لله رب العالمين، هادي المؤمنين لما فيه صلاحهم في الدنيا والدين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وبعد.
لكل شيء رأس، ورأس الأخلاق ما كان خير كله وهو الحياء، فمن رُزِقَهُ مَلَك زمام بقية الأخلاق الطيبة، ومن عجز عنه تعسّرت عليه الفضائل وزلت قدمه في مستنقع الأخلاق الذميمة، وهو من مكارم الأخلاق التي تضفي على عيش عباد الله فيما بينهم وُدّا ومحبة، فتُحجز القلوب من الأحقاد والضغائن، والحياء خصلة من خصال الإيمان، وخلق في الإسلام محمود، فمن تحلى به حسُن له إسلامه، وسمت بالعلياء أخلاقه، وهجر المعاصي والمنكرات استحياء من رب الأرض والسموات، وأقبل على طاعة الإله محبة وتعظيما.
والحياء يكسو صاحبه وقارًا واحترامًا، فيصرف عنه أذى السفهاء، ويكف عنه عتاب العقلاء، وهو صفة من صفات الأنبياء، ومن سار على نهجهم من عباد الله الأتقياء، وهو في أخلاق الرجال جميل، وفي أطباع النساء لازم تمتاز به الصالحات البتول، واكتسابه يغطي كل معيب، وضياعه يظهر كل قبيح.
وقيل في معنى الحياء أنه "الحشمة، ضد الوقاحة،... وهو الانقباض والانزواء" [لسان العرب]، وقيل أيضا أنه: "انقباض النَّفس مِن شيءٍ وتركه حذرًا عن اللَّوم فيه" [التعريفات للجرجاني]، وقال ابن حجر: "الحَياء خُلُق يبعث صاحبه على اجتناب القبيح، ويمنع مِن التقصير في حقِّ ذي الحقِّ" [فتح الباري]
ولقد جاء في كتاب الله تعالى امتداح الحياء فقال تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] فقد فسره بعض العلماء بأنه الحياء.
حياء النبي صلى الله عليه وسلم
وقد عُرف نبينا صلى الله عليه وسلم بالحياء حتى قيل عنه أنه "أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه" [متفق عليه] فحياؤه أشد من حياء الفتاة البكر، وإن كره الشيء لا يتكلّم وإنما يُعرف ويُفهم من تغيّر وجهه صلى الله عليه وسلم.
ومن صور حيائه عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ} [الأحزاب: 53] قال ابن كثير: "قيل: المراد أنَّ دخولكم منزله بغير إذنه، كان يشُقُّ عليه ويتأذَّى به، لكن كان يكره أن ينهاهم عن ذلك مِن شدَّة حَيَائه عليه السَّلام، حتى أنزل الله عليه النَّهي عن ذلك" [التفسير]
وإن الحياء قديم في بني البشر منذ أبيهم آدم عليه السلام، والحياء مأمور به وتركه منهي عنه، فعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ ممَّا أدرك النَّاس مِن كلام النُّبوَّة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) [رواه البخاري] قال الخطَّابي: "قال الشَّيخ: معنى قوله (النُّبوَّة الأولى) أنَّ الحَيَاء لم يزل أمره ثابتًا، واستعماله واجبًا منذ زمان النُّبوَّة الأولى، وأنه ما مِن نبيٍّ إلَّا وقد نَدَب إلى الحَيَاء وبُعِث عليه، وأنَّه لم ينسخ فيما نسخ مِن شرائعهم، ولم يُبَدَّل فيما بُدِّل منها" [معالم السنن للخطَّابي]
• خصلة من خصل الإيمان
والحياء خصلة من خصال الإيمان فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون -وفي رواية وسبعون- شعبة، والحياء شعبة من الإيمان) [متفق عليه]، قال الخطَّابي: معنى قوله: (الحَيَاء شعبة مِن الإيمان) "أنَّ الحَيَاء يقطع صاحبه عن المعاصي ويحجزه عنها، فصار بذلك مِن الإيمان" [معالم السنن]
وقال ابن القيِّم: "خُلق الحَيَاء مِن أفضل الأخلاق وأجلِّها وأعظمها قدرًا وأكثرها نفعًا" [مفتاح دار السَّعادة]
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (الحَيَاء لا يأتي إلَّا بخير) [متفق عليه]، قال ابن رجب: "(الحياء لا يأتي إلَّا بخير): فإنَّه يكفُّ عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق، ويحثُّ على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها، فهو مِن خصال الإيمان بهذا الاعتبار" [جامع العلوم والحكم]
ولما حاز الحياء مكانة عالية وصف كله بالخيرية، فعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الحياء خير كله)، أو قال: (الحياء كله خير). [مسلم]
وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: من استحيا اختفى، ومن اختفى اتقى، ومن اتقى وُقي.
وقد نرى البعض يذم غيره لشدة حيائه، وهذا مجانب للصواب، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، مرَّ على رجل، وهو يعاتب أخاه في الحياء، يقول: إنَّك لتستحِيي حتى كأنَّه يقول: قد أضرَّ بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعه، فإنَّ الحياء مِن الإيمان) [رواه البخاري]
قال ابن بطَّال: "معناه أنَّ الحَيَاء مِن أسباب الإيمان وأخلاق أهله؛ وذلك أنَّه لما كان الحَيَاء يمنع مِن الفواحش، ويحمل على الصَّبر والخير، كما يمنع الإيمان صاحبه مِن الفجور، ويقيِّده عن المعاصي، ويحمله على الطَّاعة، صار كالإيمان لمساواته له في ذلك، وإن كان الحَيَاء غريزة، والإيمان فعل المؤمن، فاشتبها مِن هذه الجهة" [شرح البخاري]
ومن أبواب الحياء في المجلس حياء الصغير عند الكبير وحياء الجاهل عند العالم والولد عند والديه فإنه من حسن الأدب، قال ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ولا تحت ورقها فوقع في نفسي أنها النخلة فكرهت أن أتكلم وثم أبو بكر وعمر فلما لم يتكلما قال النبي صلى الله عليه وسلم هي النخلة فلما خرجت مع أبي قلت يا أبتاه وقع في نفسي أنها النخلة قال ما منعك أن تقولها لو كنت قلتها كان أحب إلي من كذا وكذا قال ما منعني إلا أني لم أرك، ولا أبا بكر تكلمتما فكرهت. [متفق عليه]
• استحيوا من الله حق الحياء!
وأعظم الحياء أن يستحي العبد من ربه فذاك المقام الأسمى والدرجة الأعلى ومن عرف ربه حقيقة استحيى منه، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استحيوا مِن الله حقَّ الحياء). قال: قلنا: يا رسول الله إنَّا لنستحيي، والحمد للَّه. قال: (ليس ذاك، ولكنَّ الاستحياء مِن الله حقَّ الحياء: أن تحفظ الرَّأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، وتتذكَّر الموت والبِلَى، ومَن أراد الآخرة، ترك زينة الدُّنيا، فمَن فعل ذلك، فقد استحيا مِن الله حقَّ الحياء) [رواه التِّرمذي]، قال ابن رجب: "يدخل فيه حفظ السَّمع والبصر واللِّسان مِن المحرَّمات، وحفظ البطن وما حوى، يتضمَّن حفظ القلب عن الإصرار على ما حرَّم الله، ويتضمَّن أيضًا حفظ البطن مِن إدخال الحرام إليه مِن المآكل والمشارب، ومِن أعظم ما يجب حفظه مِن نواهي الله عزَّ وجلَّ اللِّسان والفرج" [جامع العلوم والحكم]، "ويروى عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم وصّاه لما بعثه إلى اليمن فقال: (استحي من الله كما تستحي من رجل ذي هيبة من أهلك)، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن كشف العورة خاليا، فقال: الله أحق أن يستحيا منه" [جامع العلوم والحكم]. ولمَ لا يستحي العبد من ربه وربُه هو الحيي سبحانه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حَيِيٌ سِتِّير يحب الحياءَ والستر) [الآداب للبيهقي]
في حق النساء أولى!
وإن أُمر الرجال بالحياء فهو في حق النساء أولى بلا شك، فمما جاء في حياء النساء، قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25] قال مجاهد: "يعْني: واضعةً ثوبها على وجهها ليست بخرَّاجةٍ ولا وَلَّاجةٍ" [تفسير مجاهد]، وروى ابن جرير عن عمر رضي الله عنه، قال: "واضعة يدها على وجهها مستترة"، وهذا الأصل في النساء أن يكنّ رمزا في الحياء، وإنّ شرع الله ليحث النساء على الحياء ويؤاخذهن به؛ لما في ذلك من صيانة للمجتمع المسلم من الفواحش والفجور.
نعوذ بالله من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى الآل والصحب أجمعين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 310
الخميس 21 ربيع الأول 1443 هـ
