ذكورية الفقهاء لطالما تحدث كُتّاب الحداثة و مروجوها عن السلطة الذكورية للفقهاء ، و قـتـلوا كتب ...

ذكورية الفقهاء

لطالما تحدث كُتّاب الحداثة و مروجوها عن السلطة الذكورية للفقهاء ، و قـتـلوا كتب التراث بحثاً و استخراجاً للأمثلة التي تؤيد طرحهم بدءًا من خلق المرأة ، و انتهاءًا بتوليها للولايات و السلطات ، و كأن الفقهاء يستنبطون الأحكام الشرعية من أهوائهم و آرائهم الشخصية دون انضباط بنصوص الشرع و أدلته .
و إذا ما حاولنا تحليل انتشار مثل هذه الدعوى تواجهنا مستويين متباينين منهجيًّا : فالفقيه يستبط الحكم منطلقًا من موضوعية النص ، فالنص الشرعي بنظر الفقيه يجب أن يُعمل على ما هو عليه دون أن يشوبه هوى ، أو مصلحة ، أو تحيُّز ؛ فالحقيقة قائمة في النص بذاتها بغض النظر عن النفس المدركة ( نفس الفقيه ) .
بينما ينتقده الحداثي بناءً على ذاتية القارئ و رد كل شيء إلى الفكر وحده حيث النسبية ، و الاعتبارية المتَجاوَزَة ؛ فيتوصل الحداثي إلى أن الفقيه هو العلة القائمة وراء هذه الثقافة الذكورية .
فهي إذن فجوة و انفصال بين ذاتيتين الأولى في النص و الثانية في الفقيه ، وعليه فمن اجل هذا التباين لا يمكن اعتماد احدى هاتين المنهجيتين للحكم على الأخرى ، فمن الإنصاف عند الحكم على الفقهاء و منتجاتهم المعرفية ينبغي استخدام أسسهم المنهجية لبيان تناقضهم مع ذاتهم ، أما و كونهم منسجمين مع أنفسهم فلا يمكن الحكم عليهم بمعايير دخيلة على منهجهم الابستمي المعتمد لديهم .
و قد أبرزت هذه التفاوتات في المناهج نسقاً ثقافيًا يشيع فيه أن المرأة مضطهدة و منتقصة ثقافيًا و دينيًّا ، حتى مع انتشار الكتابات الفقهية المتأخرة التي عملت على إعادة صياغة الفقهيات المتعلقة بالمرأة إلا أن ذلك بقي عبثًا على أساس أن الفقهيات الأساسية و المتقدمة هي التي تصوغ ثقافة الأمة و التي تعد محل ثقة أبنائها ، و قد عزز من هذا الطرح انتشار الكتابات عن تحرير المرأة بدءًا من قاسم أمين و التي تهدف لجعل المرأة متساوية مع الرجل في الحقوق و الواجبات ، إلى أن سادت الكتابة النسوية و أصبحنا نرى نماذج للمرأة : فامرأة الفقهاء المقهورة و المقموعة تختلف عن امرأة الحداثة كما ترى ريتا فرج في عرضها لأبرز ما كتبته النسويات عن المرأة في كتابها " امرأة الفقهاء و امرأة الحداثة " ، المشكلة في الكتابات النسوية ليست مع الفقهاء فحسب بل و مع الثقافة و المجتمع و اللغة و مع الأديان كافة مما حذا بأحد أطياف النسوية للسعي لإنشاء ديانة خاصة تدعى " الوثنية النسوية " التي تجعل من الأنثى إلهًا ،و أدب نسائي خاص و منظور لغوي نسوي يهدف لجندرة اللغة .
و عودًا على بدء فقد ساهمت مثل هذه الدعوى [ ذكورية الفقهاء ] بإيجاد مناهج تفسيرية اعتبرت المخلصة من هذا الرهاب الفكري كما يحلو لهم أن يشيعوه ، حيث عدت أقوال الفقهاء مجرد أقوال بشرية مشحونة بالاعتبارات الظرفية الزمانية و المكانية التي عفا عنها الزمان و التي جعلت من النصوص التأسيسية نصوصا مثقلة بطبقات تفسيرية حجبت روح التشريع ، و ليس هذا فحسب بل تتجاوز هذه المناهج أقوال الفقهاء إلى النصوص التأسيسية فأحد هذه المناهج : التاريخانية التي تعتبر الآيات القرآنية و حتى الأحاديث النبوية قد أتت في ظروف مكانية و زمانية تختلف عن زماننا ؛ و عليه فهي غير صالحة لأن يعمل بها في هذا الزمان ، و كذلك الهرمنيوطيقا كمبدأ تأويلي و التي تعمل على حفريات في طبقات الفهم لتوصلنا إلى معرفة الظروف المواتية لكل تفسير عرض للنص من جهة ، و من جهة أخرى تعتني بفهم الفهم و بالمعنى الذاتي الذي يراه القارئ ، و بغض النظر عن مؤهلاته ، و التي تكرس من حالة الشد و الجذب بين من عليه تقرير المعنى هل المؤسسات العلمية (المتمثلة بالفقهاء )أم الأفراد ؟ ؛ لندخل في وهم الفردانية .
بناء على ما سبق ظهرت و تكاثرت الكتابات الترويجية للنسوية و الحداثة عن ذكورية الفقهاء و أخذت عدة نماذج قد يطول الحديث عنها بالظهور و الترعرع وما يلفتنا هو أن مثل هناك نماذج من إنصاف الفقهاء للمرأة لم تنشرها كتابات الحداثة التي تنوي مجاوزة التراث ، و لا كتب النسوية العابرة للأديان .