___قصة يوسف عليه السلام_____________________________ الحمدلله وكفى والصلاة والسلام على النبي ...

___قصة يوسف عليه السلام_____________________________
الحمدلله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى اما بعد :
القرآن الكريم ليس كتاب قصص وإنما هو كتاب دعوة وتشريع فإذا جاء بالقصة فإنما يأتي بها في إطار الدعوة إلى الإيمان بالله وللإشارة إلى وحدة الدعوة على رغم تعدد الأنبياء واختلاف الأزمنة والأمكنة والأقوام وعلى رغم تطور التكاليف من دعوة إلى أخرى حتى اكتملت بالدعوة الإسلامية التي بلغها نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عيه وسلم ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ﴾ [المائدة: 3] وهكذا ينبغي أن يكون النظر إلى القصة القرآنية مختلفاً عن النظر إلى القصة الأدبية فهي ليست للمتعة ولا للتذوق الأدبي المجرد ولا لفرض منهج نقدي عليها أياً كان هذا المنهج لأن القصة القرآنية فريدة في طابعها وغايتها وتكوينها .

جاءت قصة يوسف في موضع واحد من القران وهي سورة يوسف المعروفة وجاء في بداية هذه السورة الكريمة قوله تعالى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ) جاء في التحرير والتنوير لابن عاشور - رحمه الله - قال:( ... وجعل هذا القصص أحسن القصص لأن بعض القصص لا يخلو عن حُسن ترتاح له النفوس. وقصص القرآن أحسن من قصص غيره من جهة حُسن نظمه وإعجاز أسلوبه وبما يتضمنه من العِبر والحِكم، فكل قصص في القرآن هو أحسن القصص في بابه، وكل قصة في القرآن هي أحسن من كل ما يقصه القاص في غير القرآن. وليس المراد أحسن قصص القرآن حتى تكون قصة يوسف - عليه السلام - أحسن من بقية قصص القرآن كما دل عليه قوله: بما أوحينا إليك هذا القرآن. والباء في " بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ " للسببية متعلقة بـ نَقُصُّ، فإن القصص الوارد في القرآن كان أحسن لأنه وارد من العليم الحكيم، فهو يوحِي ما يعلم أنه أحسن نفعاً للسامعين في أبدع الألفاظ والتراكيب، فيحصل منه غذاء العقل والروح وابتهاج النفس والذوق مما لا تأتي بمثله عقول البشر. أ هـ. ويل: لأن فيها ذِكر الأنبياء والصالحين، والعفة والغواية، وسير الملوك والممالك، والرجال والنساء، وحيل النساء ومكرهن، وفيها ذكر التوحيد والفقه، وتعبير الرؤيا وتفسيرها، فهي سورة غنية بالمشاهد والانفعالات).

• وقيل: إنها سُمِّيَت أحسن القصص لأن مآل من كانوا فيها جميعاً كان إلى السعادة.

• ولقد ذُكر اسم يوسف عليه السلام في القرآن الكريم 27 مرة، منها 25 مرة في "سورة يوسف" ومرة في "سورة الأنعام" وأخرى في "سورة غافر.

وهذه الاية تشير الينا اهمية هذه القصة وخاصتها حيث جاءت في بداية قصة كامله عن حياة نبي من انبياء الله عزوجل .

وكذالك نفهم من وقت نزولها انها تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم فالسورة نزلت في نهاية عام الحزن في السنة التي ماتت فيه خديجة رضي الله عنها زوج الرسول صلى الله عليه وسلم وابو طالب عمه ومن المعروف انهما كانا سندا للرسول صلى الله عليه وسلم فخديجة كانت سنده الداخلي وابو طالب سنده الخارجي وقد وافتهما المنية في عام واحد فاتت سورة يوسف وفيها قصة عجيبة ولهذا كان من حكم الله في ايراد القصص تثبيته لعباده المؤمنين ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ) .

من ميزة قصة يوسف انها تتكلم عن حياة نبي من انبياء الله عزوجل وهذا النبي الكريم له مراحل مختلفة ففي بدايته تعرض للحسد والغيرة من اخوانه فقررو قتله ثم اتفقوا عل ابعاده من ابيه ثم شروه بثمن بخس واصبح عبدا رقيقا بعد ان كان عزيزا حرا ثم تعرض للاغراء والطمع في نفسه فتعفف وحماه الله من الفاحشة ثم دخل السجن ظلما ثم خرج منه واصبح وزيرا فحياته كانت مليئة بالتقلبات وهذه القصة تشمل ايضا صبر يعقوب عليه السلام حين فقد ولديه وكذالك توضحنا سبل الشيطان لتحسين الفاحشة كما سنراه .

قال ابن عطاء: لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها .

عن ابن عباس رضي الله عنه: " أن طائفة من اليهود حين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو هذه السورة أسلموا لموافقتها ما عندهم .

وفي القصص احكام وفوائد دينية وكذالك عبر وموعظة واسوة قال تعالى بعد ذكر صنف من الانبياء وتحدث عنهم في القران (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) وكذالك امرنا الله بالتأسي بطريق الانبياء والصالحين قال تعالى (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) فأحاول سرد القصة مع بعض التعليقات اليسيرة .

كان ليعقوب (ولقبه إسرائيل) اثنا عشر ولداً ذكراً (من بينهم يوسف) وابنة واحدة هي دينا. وهؤلاء الأبناء الاثنا عشر يدعون بني إسرائيل.

رأى يوسف يومًا في منامه، أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر يسجدون له فلما استيقظ، ذهب إلى أبيه يعقوب في هذه الرؤيا ، فعرف أن ابنه سيكون له شأن عظيم، فحذره من أن يخبر إخوته برؤياه، فيفسد الشيطان قلوبهم، ويجعلهم يحسدونه على ما آتاه الله من فضله، فلم يقص رؤيته على أحد. وكان يعقوب يحب يوسف حبًّا كبيرًا، ويعطف عليه ويداعبه، وهذا مما ليس في مقدور البشر فالقلب يميل لاحد ولا تستطيع مقاومته مما جعل إخوته يحسدونه، ويحقدون عليه، فاجتمعوا جميعا ليدبروا له مؤامرة تبعده عن أبيه.
فاقترح أحدهم أن يقتلوا يوسف أو يلقوه في أرض بعيدة، فيخلو لهم أبوهم، وبعد ذلك يتوبون إلى الله،ولكن واحدًا آخر منهم رفض قتل يوسف، واقترح عليهم أن يلقوه في بئر بعيدة، فيعثر عليه بعض السائرين في الطريق، ويأخذونه ويبيعونه. ولقيت هذه الفكرة استحسانًا وقبولاً، واستقر رأيهم على نفيه وإبعاده، وأخذوا يتشاورون في تدبير الحيلة التي يمكن من خلالها أخذ يوسف وتنفيذ ما اتفقوا عليه، ففكروا قليلا، ثم ذهبوا إلى أبيهم وقالوا ( قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ) . فأجابهم يعقوب أنه لا يقدر على فراقه ساعة واحدة، وقال لهم ( قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ).

• نتعلم من هذا أن المخطئ كثيراً ما يلجأ إلى تبرير سوء فعله ليهرب من تأنيب الضمير ولذلك عاب أخوة يوسف على أبيهم حبه ليوسف قائلين ﴿ مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ﴾ ثم رادوا ﴿ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ .

• نتعلم من هذا ﺃﻥ هناك من بين ﺍﻟﻨﺎﺱ من ﻳﻜﺮﻫﻮﻧﻨﺎ ﻟﻤﺰﺍﻳﺎﻧﺎ ﻭﻟﻴﺲ ﻟﻌﻴﻮﺑﻨﺎ غيرة منهم وحسداً .

• نتعلم من هذا ان داء الحسد ومريضه لا يعرف الاخوة ولا الصلة والقرابة بل يسعى الى اعاقة من يريد حسده فقد عميت بصيرته وبصره .

فقالوا: (لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون)[يوسف:14]. وفي الصباح، خرج الأبناء جميعًا ومعهم يوسف إلى الصحراء، ليرعوا أغنامهم، وما إن ابتعدوا به عن أبيهم حتى تهيأت لهم الفرصة لتنفيذ اتفاقهم، فساروا حتى وصلوا إلى البئر، وخلعوا ملابسه ثم ألقوه فيها، وشعر يوسف بالخوف، والفزع، لكن الله كان معه، حيث أوحى إليه ألا تخاف ولا تجزع فإنك ناج مما دبروا لك. وبعد أن نفذ إخوة يوسف مؤامرتهم، جلسوا يفكرون فيما سيقولون لأبيهم عندما يسألهم، فاتفقوا على أن يقولوا لأبيهم إن الذئب قد أكله، واخلعوا يوسف قميصه، وذبحوا شاة، ولطخوا بدمها قميص يوسف. وفي الليل، عادوا إلى أبيهم، ولما دخلوا عليه بكوا بشدة، فنظر يعقوب إليهم ولم يجد فيهم يوسف معهم، لكنهم أخبروه أنهم ذهبوا ليتسابقوا، وتركوا يوسف ليحرس متاعهم، فجاء الذئب وأكله، ثم أخرجوا قميصه ملطخًا بالدماء، ليكون دليلا لهم على صدقهم. فرأى يعقوب القميص سليمًا، حيث نسوا أن يمزقوه، فقال لهم: عجبًا لهذا الذئب كان رحيمًا بيوسف أكله دون أن يقطع ملابسه. ثم قال لهم مبينًا كذبهم (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ).
• نتعلم من هذه الفقرة أنه مهما تذاكى المجرم أو تفنن في إخفاء جريمته فلابد من أن يفوته ما يفضح أمره ويهتك ستره .
أما يوسف فكان لا يزال حبيسًا في البئر ينتظر الفرج والنجاة، وبينما هو كذلك، مرت عليه قافلة متجهة إلى مصر، فأرادوا أن يتزودوا من الماء، فأرسلوا أحدهم إلى البئر ليأتيهم بالماء، فلما ألقى دلوه تعلق به يوسف، فنظر في البئر فوجد غلامًا جميلاً يمسك به، فأخرجه فإذا بإخوة يوسف ينظرون فأتوا إليه وقالوا هذا عبد لنا آبق، فسكت يوسف خوفاً من إخوته فشروه بثمن بخس (لأنهم لم يكن المال هو مايريدون) فأخذوه معهم إلى مصر ليبيعوه. وكان عزيز مصر في هذا اليوم يتجول في السوق، ليشتري غلامًا له؛ لأنه لم يكن له أولاد، فوجد هؤلاء الناس يعرضون يوسف للبيع، فذهب إليهم، واشتراه منهم بعدة دراهم قليلة. ورجع عزيز مصر إلى زوجته، وهو سعيد بالطفل الذي اشتراه، وطلب من زوجته أن تكرم هذا الغلام، وتحسن معاملته، فربما نفعهما أو اتخذاه ولدًا لهما، وهكذا مكن الله ليوسف في الأرض فأصبح محاطًا بعطف العزيز ورعايته.
ومرت السنون، وكبر يوسف، وأصبح شابًا قويًّا، رائع الحسن، وكانت امرأة العزيز تراقب يوسف يومًا بعد يوم، وازداد إعجابها به لحظة بعد أخرى، فبدأت تظهر له هذا الحب بطريق الإشارة والتعريض، لكن يوسف كان يعرض عنها، ويتغافل عن أفعالها، فأخذت المرأة تفكر كيف تغري يوسف بها. وذات يوم، انتهزت فرصة غياب زوجها عن القصر، فتعطرت وتزينت، ولبست أحسن الثياب، وغلقت الأبواب ودعت يوسف حتى أدخلته حجرتها، وطلبت منه أن يفعل معها الفاحشة. لكن يوسف بعفته وطهارته امتنع عما أرادت، ورد عليها ردًّا بليغًا حيث قال ( وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) . ثم أسرع يوسف ناحية الباب يريد الخروج من المكان، لكن امرأة العزيز لم تدع الفرصة تفوتها، فجرت خلفه، لتمنعه من الخروج، وأمسكت بقميصه فتمزق. وفجأة، حضر زوجها العزيز، وتأزم الموقف، وزاد الحرج، لكن امرأة العزيز تخلصت من حرج موقفها أمام زوجها، فاتهمت يوسف بالخيانة ومحاولة الاعتداء عليها، وقالت لزوجها (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) . وأمام هذا الاتهام، كان على يوسف أن يدافع عن نفسه، فقال ( قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) . وشهد شاهد من اهلها وقيل انه صبيا صغيرا وقيل انه رجل حكيم كان يرافق العزيز ( قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ , وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ). فالتفت الزوج إلى امرأته، وقال لها، , فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ )، ثم طلب العزيز من يوسف أن يهمل هذا الموضوع، ولا يتحدث به أمام أحد، ثم طلب من زوجته أن تستغفر من ذنبها وخطيئتها.


• العفة في أعلى درجاتها _______________
قال ابن قيِّم الجوزية - رحمه الله -: "وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف عليه السلام بصبره وعفَّتِه وتَقواه، مع أن الذي ابتُلي به أمر لا يَصبر عليه إلا مَن صبَّره الله عليه، فإن موافَقة الفعل بحسب قوة الداعي، وزوال المانع، وكان الداعي ها هنا في غاية القوة؛ وذلك لوجوه:

• أحدها: ما ركَّب الله سبحانه في طبع الرجل من ميله الى المرأة، كما يَميل العطْشان إلى الماء، والجائع إلى الطعام، حتى إنَّ كثيرًا من الناس يصبر عن الطعام والشراب ولا يصبر عن النساء، وهذا لا يُذمُّ إذا صادف حلالاً، بل يُحمَد، كما في كتاب الزهد للإمام أحمد من حديث يوسف بن عطية الصغار عن ثابت البناني عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((حُبِّبَ إليَّ من دنياكم: الطيب والنساء، أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهنَّ)).

• الثاني: أنَّ يوسف عليه السلام كان شابًّا، وشهوة الشباب وحدَّته أقوى.

• الثالث: أنه كان عزبًا لا زوجةَ له ولا سريَّة تَكسِر شدَّة الشهوة.

• الرابع: أنه كان في بلاد غُربة يتأتَّى للغريب فيها مِن قضاء الوطر ما لا يتأتَّى لغيره في وطنه وأهله ومعارفه.

• الخامس: أنَّ المرأة كانت ذات منصب وجمال؛ بحيث إنَّ كل واحد مِن هذَين الأمرين يدعو إلى موافقتِها.

•ا لسادس: أنها غير آبية، ولا ممتنعة، فإن كثيرًا من الناس يُزيل رغبتَه في المرأة إباؤها وامتناعها؛ لما يجد في نفسه من ذلِّ الخُضوع والسؤال لها، وكثير من الناس يَزيده الإباء والامتِناع زيادة حبٍّ؛ كما قال الشاعر:

• وزادني كلفًا في الحُبِّ أنْ منعتْ


• أحبُّ شيءٍ إلى الإنسانِ ما مُنعَا


• فطِباع الناس مُختلفة في ذلك، فمنهم مَن يتَضاعف حبُّه عند بذْل المرأة ورغبتها، وتضمحلُّ عند إبائها وامتِناعها، وأخبَرَني بعض القضاة أن إرادته وشهوته تضمحلُّ عند امتِناع زوجته أو سريته وإبائها؛ بحيث لا يُعاودها، ومنهم مَن يتَضاعف حبه وإرادته بالمنع، ويشتدُّ شوقه، وتَحصل له من اللذَّة بالظفر نظير ما يَحصل من لذَّة بالظفر بالصيد بعد امتِناعه ونفاره، واللذَّة بإدراك المسألة بعد استِصعابها وشدة الحرص على إدراكها.

• السابع: أنها طلبَت وأرادت وبذلَت الجهد، فكفَتْه مؤنة الطلب وذلَّ الرغبة إليها، بل كانت هي الراغبة الذليلة، وهو العزيز المرغوب إليه.

• الثامن: أنه في دارِها، وتحت سلطانها وقهرِها؛ بحيث يَخشى إن لم يُطاوعها مِن أذاها له، فاجتمَع داعي الرغبة والرهبة.

• التاسع: أنه لا يخشى أن تنمي عليه هي ولا أحد من جهتها، فإنها هي الطالبة والراغبة، وقد غلَّقت الأبواب، وغيَّبت الرقباء.

• العاشر: أنه كان مملوكًا لها في الدار؛ بحيث يدخل ويَخرج ويَحضُر معها ولا يُنكَر عليه، وكان الأمن سابقًا على الطلَب، وهو مِن أقوى الدواعي، كما قيل لامرأة شريفة من أشراف العرب: ما حملَكِ على الزنا؟ قالتْ: قربُ الوساد، وطول السِّواد؛ تعني: قرب وساد الرجل من وسادتي، وطول السِّواد (المُسارَّة) بيننا.

• الحادي عشر: أنها استعانت عليه بأئمَّة المكر والاحتيال، فأرتْه إياهنَّ، وشكَتْ حالَها إليهنَّ؛ لتستعين بهن عليه، فاستعان هو بالله عليهنَّ، فقال: ﴿ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33].

• الثاني عشر: أنها تواعدته بالسجن والصَّغار، وهذا نوع إكراه؛ إذ هو تهديد ممن يغلب على الظن وقوعُ ما هدَّد به، فيَجتمع داعي الشهوة وداعي السلامة من ضِيق السجن والصَّغار.
• الثالث عشر: أن الزوج لم يظهر منه مِن الغيرة والنَّخوة ما يفرِّق به بينهما، ويبعد كلاًّ منهما عن صاحبه، بل كان غاية ما خاطَبَهما به أن قال ليوسف: ﴿ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ﴾، وللمرأة: ﴿ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾، وشدَّة الغيرة للرجل مِن أقوى المَوانع، وهذا لم يظهَر منه غيرة.

• ومع هذه الدَّواعي كلها، فآثَر عليه السلام مرضاة الله وخوفه، وحمَلَه حبُّه لله على أن اختار السجن على الزِّنا، فقال: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [يوسف: 33]، وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه، وأن ربه تعالى إن لم يَعصمْه ويَصرف عنه كيدهنَّ، صَبا إليهنَّ بطبعه وكان من الجاهلين، وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه، وفي هذه القصة مِن العِبَر والفوائد والحِكَم ما يزيد على ألف فائدة".

واتفق الجميع على أن يظل هذا الفعل سرًّا لا يعرفه أحد، ومع ذلك فقد شاع خبر مراودة امرأة العزيز ليوسف، وطلبها للفاحشة، وانتشر في القصر وتحدث نساء المدينة بما فعلته امرأة العزيز مع فتاها، وعلمت امرأة العزيز بما قالته النسوة عنها، فغضبت غضبًا شديدًا، وأرادت أن تظهر لهن عذرها، وأن جمال يوسف وحسن صورته هما اللذان جعلاها تفعل ذلك، فأرسلت إليهن، وهيأت لهن مقاعد مريحة، وأعطت كل واحدة منهن سكينا، ثم قالت ليوسف: اخرج عليهن. فخرج يوسف متمثلاً لأمر سيدته، فلما رآه النسوة انبهرن بجماله وحسنه، وجرحن أيديهن بالسكين قيل من الدهشة فلم يشعرن بالطرح من شدة جماله

( فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ )

. فقالت امرأة العزيز، ( قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ ) . واقتنع النساء بما تفعله امرأة العزيز مع يوسف، فلما رأى ذلك منهن قال، ( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) وكادت تحدث فتنة في المدينة بسبب عشق النساء ليوسف، فرأى القائمون على الأمر أن يسجن يوسف إلى حين، فسجنوه، وظل يوسف في السجن فترة .

• نتعلم من هذه الفقرة أن السجن يحوي بين جدرانه الكثير من المظلومين والمستضعفين الذين يلجأ الظالم إلى تغييبهم لكي لا يذيع صيتهم أو لكي لا يذكرون الظالم بما بدر منه من سوء. وهؤلاء إذا ظلمهم العباد فإن ناصرهم هو رب العباد.

ودخل معه السجن فتيان أحدهما خباز والآخر ساقي، ورأيا من أخلاق يوسف وأدبه وعبادته لربه ما جعلهما يعجبان به، فأقبلا عليه ذات يوم يقصان عليه ما رأيا في نومهما، ( وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) ففسر لهما يوسف رؤياهما، بأن أحدهما سيخرج من السجن، ويرجع إلى عمله كساق للملك، وأما الآخر وهو خباز الملك فسوف يصلب، وتأكل الطير من رأسه. وقبل أن يخرج ساقي الملك من السجن طلب من يوسف أن يذكر أمره عند الملك، ويخبره أن في السجن بريئًا حبس ظلمًا، حتى يعفو عنه، ويخرج من السجن، ولكن الساقي نسى، فظل يوسف في السجن بضع سنين، وبمرور فترة من الزمن تحقق ما فسره لهما يوسف. وفي يوم من الأيام، نام الملك فرأى في منامه سبع بقرات سمان يأكلهن سبع نحيفات، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، فقام من نومه خائفا مفزوعًا مما رآه، فجمع رجاله وعلماء دولته، وقص عليهم ما رآه، وطلب منهم تفسيره، فأعجزهم ذلك، وأرادوا صرف الملك عنه حتى لا ينشغل به، فقالوا ( قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ ) . لكن هذه الرؤيا ظلت تلاحق الملك وتفزعه أثناء نومه، فانشغل الملك بها، وأصر على معرفة تفسيرها، وهنا تذكر الساقي أمر يوسف، وطلب أن يذهب إلى السجن ليقابل يوسف، وهناك طلب منه أن يفسر رؤيا الملك، ففسر يوسف البقرات السمان والسنبلات الخضر بسبع سنين يكثر فيها الخير وينجو الناس فيه من الهلاك. ولم يكتف يوسف بتفسير الحلم، وإنما قدم لهم الحل السليم. وما يجب عليهم فعله تجاه هذه الأزمة، وهو أن يدخروا في سنوات الخير ما ينفعهم في سنوات القحط والحاجة من الحبوب بشرط أن يتركوها في سنابلها، حتى يأتي الله بالفرج. ولما عرف الساقي تفسير الرؤيا، رجع إلى الملك ليخبره بما قاله له يوسف. ففرح الملك فرحًا شديدًا، وراح يسأل عن ذلك الذي فسر رؤياه، فقال الساقي: يوسف. فقال الملك على الفور: ائتوني به. فذهب رسول الملك إلى يوسف وقال له: أجب الملك، فإنه يريد أن يراك، ولكن يوسف رفض أن يذهب إلى الملك قبل أن تظهر براءته، ويعرف الملك ما حدث له من نساء المدينة. فأرسل الملك في طلب امرأة العزيز وباقي النسوة، وسألهن عن الأمر، فقلن معترفات بذنوبهن مقرَّات بخطئهن، ومعلنات عن توبتهن إلى الله: ما رأينا منه سوءًا، وأظهرت امرأة العزيز براءة يوسف أمام الناس جميعًا. عندئذ أصدر الملك قراره بتبرئة يوسف مما اتهم به، وأمر بإخراجه من السجن وتكريمه، وتقريبه إليه. ثم خيره أن يأخذ من المناصب ما شاء فقال، ( قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ). فوافق الملك على أن يتقلد يوسف هذا المنصب لأمانته وعلمه. وتحققت رؤيا الملك.

• نتعلم من هذه الفقرة أن قدر الله غالب لا محالة وأن جنود الله تعالى لا يعلمها إلا هو فلولا " الحلم " الذي رآه عزيز مصر ما خرج يوسف من السجن .

وانتهت سنوات الرخاء، وبدأت سنوات المجاعة، وجاء الناس من كل مكان في مصر والبلاد المجاورة ليأخذوا حاجتهم من خزائن الملك. وفي يوم من الأيام، وأثناء توزيع الحبوب على الناس إذا بيوسف أمام رجال يعرفهم بلغتهم وأشكالهم وأسمائهم، وكانت مفاجأة لم يتوقعوها، إنهم إخوته، أبناء أبيه يعقوب، الذي ألقوه في البئر وهو صغير، لقد جاءوا محتاجين إلى الطعام، ووقفوا أمامه دون أن يعرفوه، فقد تغيرت ملامحه بعدما كبر، فأحسن يوسف إليهم، وأنسوا هم به، وأخبروه أن لهم أخا أصغر من أبيهم لم يحضر معهم، لأن أباه يحبه ولا يطيق فراقه. فلما جهزهم يوسف بحاجات الرحلة، وقضى حاجتهم، وأعطاهم ما يريدون من الطعام، قال لهم،


( وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ ) فأظهروا أن الأمر ليس ميسورا وسوف يمانع، ليستبدلوا بها القمح والعلف في رحالهم بدلا من القمح فيضطروا إلى العودة إليه بأخيهم. وعاد إخوة يوسف إلى أبيهم، وقالوا، ( فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) فرفض يعقوب. وذهب الإخوة إلى بضاعتهم ليخرجوها ففوجئوا ببضاعتهم الأولى التي دفعوها ثمنا، ولم يجدوا قمحا، فأخبروا والدهم أن بضاعتهم قد ردت إليهم، ثم أخذوا يحرجون أباهم بالتلويح له بمصلحة أهلهم في الحصول على الطعام، ويؤكدون له عزمهم على حفظ أخيهم، ويرغبونه بزيادة الكيل لأخيهم، فقد كان يوسف يعطي لكل فرد حمل بعير. فقال لهم أبوهم، ( قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) ، ولم ينس أن يوصيهم في هذا الموقف وينصحهم، ( وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) وسافر الإخوة إلى مصر، ودخلوها من حيث أمرهم أبوهم، ولما وقفوا أمام يوسف، دعا أخاه الصغير، وقربه إليه، واختلى به، وأخبره أنه يوسف أخوه. ثم وزن البضاعة لإخوته، فلما استعدوا للرحيل والعودة إلى بلادهم، إذا بيوسف يريد أن يستبقي أخاه بجانبه، فأمر فتيانه بوضع السقاية (إناء كان يكيل به) في رحل أخيه الصغير، وعندما بدأت القافلة في الرحيل إذا بمناد ينادي ويشير إليهم ( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ). فأقبل الإخوة يتساءلون عن الذي فقد، فأخبره المنادي أنه فقد مكيال الملك، وقد جعل لمن يأتي به مكافأة قدرها حمل بعير. وهنا لم يتحمل إخوة يوسف ذلك الاتهام، فدخلوا في حوار ساخن مع يوسف ومن معه، فهم ليسوا سارقين وأقسموا على ذلك. ( قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ). هنا ينكشف التدبير الذي ألهمه الله يوسف، فقد كان الحكم السائد في شريعة بني إسرائيل أن السارق يكون عبدًا للمسروق منه، ولما كان يوسف يعلم أن هذا هو جزاء السارق في شريعة بني إسرائيل، فقد قبل أن يحتكم إلى شريعتهم دون شريعة المصريين، ووافق إخوته على ذلك لثقتهم في أنفسهم. فأصدر يوسف الأوامر لعماله بتفتيش أوعية إخوته. فلم يجدوا شيئا، ثم فتشوا وعاء أخيه، فوجدوا فيه إناء الكيل. وتذكر إخوة يوسف ما وعدوا به أباهم من عودة أخيهم الصغير إليه، ( قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ). فقال ( قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ) وهكذا مكن الله ليوسف أن يحتفظ بأخيه، أما الإخوة فقد احتاروا وجلسوا يفكرون فيما سيقولونه لأبيهم عندما يعودون، فقرر كبيرهم ألا يبرح مصر، وألا يواجه أباه إلا أن يأذن له أبوه، أو يقضي الله له بحكم، وطلب منهم أن يرجعوا إلى أبيهم، ويخبروه صراحة بأن ابنه سرق، فأخذ بما سرق، وإن شك في ذلك؛ فليسأل القافلة التي كانوا معها أو أهل المدينة التي كانوا فيها. فعادوا إلى أبيهم وحكوا له ما حدث، إلا أن أباهم لم يصدقهم، ( قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ )، ثم تركهم، وأخذ يبكي على يوسف وأخيه، حتى فقد بصره، فاغتاظ أبناءه ( قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِين ) فرد يعقوب عليهم أنه يشكو أمره لله، وليس لأحد من خلقه، وطلب منهم أن يذهبوا ليبحثوا عن يوسف وأخيه، فهو يشعر بقلب المؤمن أن يوسف ما زال حيًّا، والمؤمن لا ييأس من رحمة الله أبدًا. وتوجه الأبناء إلى مصر للمرة الثالثة يبحثون عن أخيهم، ويلتمسون بعض الطعام، وليس معهم إلا بضاعة رديئة.

ولما وصلوا دخلوا على يوسف، يقول الله عز وجل ( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِين , قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ , قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ). فأخبرهم يوسف بحقيقته، وبفضل الله عليه. فاعتذر له إخوته، وأقروا بخطئهم، فعفا يوسف عنهم، وسأل الله لهم المغفرة. ثم سألهم يوسف عن أبيه، فعلم منهم أنه قد فقد بصره بسبب حزنه عليه، ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ , وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ , قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ) وبعد أيام عاد إخوة يوسف إلى أبيهم، وبشروه بحياة يوسف وسلامة أخيه، ثم أخرجوا قميص يوسف، ووضعوه على وجه يعقوب، فارتد إليه بصره. وطلب إخوة يوسف من أبيهم أن يستغفر لهم، فوعدهم يعقوب بأنه سيستغفر لهم الله وقت السحر؛ لأن هذا أدعى إليه استجابة الدعاء. وغادر بنو إسرائيل أرضهم متوجهين إلى مصر، فلما دخلوها، استقبلهم يوسف بترحاب كبير، وأكرم أبويه، فأجلسهما على كرسيه، وهنا لم يتمالك يعقوب وامرأته وبنوه الأحد عشر أنفسهم حتى انحنوا تحية ليوسف وإكبار لوفائه، وتقديرا لعفوه وفضله، وتذكر يوسف رؤياه القديمة التي رآها وهو صغير، فالأحد عشر كوكبًا بعدد إخوته، والشمس والقمر هنا أبواه، ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) ثم توجه يوسف إلى الله يشكره على نعمه، ( رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) .

هذه كانت خلاصة قصة يوسف عليه السلام في القران وقد وردت في السنة النبوية النصوص عن هذا النبي الكريم ومن تلك النصوص :
1- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الكريمُ، ابنُ الكريمِ، ابنِ الكريمِ، ابنِ الكريمِ، يوسفُ بنُ يعقوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ عليهم السَّلامُ " (رواه البخاري).

2- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الكريمَ ابنَ الكريمِ ابنِ الكريمِ ابنِ الكريمِ، يوسفُ بنُ يعقوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ خليلِ الرَّحمنِ وقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: لوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ ما لَبِثَ يوسُفُ، ثمَّ جاءني الداعي لأجَبتُه، إذ جاءه الرسولُ، فقال: ارجعْ إلى ربِّك، فاسأله ما بالُ النِّسْوةِ اللَّاتِي قَطَّعن أيدِيَهُنَّ، إِنَّ ربِّي بكَيْدِهِنَّ عليمٌ، ورَحْمَةُ اللهِ على لوطٍ، إِنْ كانَ لَيَأْوِي إِلى رُكْنٍ شديدٍ، إِذ قال لقومِه: لو أَنَّ لي بكم قُوَّةً، أو آوي إلى رُكْنٍ شديدٍ، وما بعث اللهُ من بعدِه من نَبِيٍّ إِلا في ثَروَةٍ مِنْ قومِه " (رواه أحمد).

3- عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أُعطِيَ يوسفُ شَطرَ الحُسنِ " (صحيح الجامع).

4- عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أُعطِيَ يوسفُ و أمُّه شَطرَ الحُسنِ " (صحيح الجامع.)

5- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " سُئِل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أيُّ الناسِ أكرَمُ؟ قال: (أكرَمُهم عِندَ اللهِ أتقاهم). قالوا: ليس عن هذا نَسأَلُك، قال: (فأَكرَمُ الناسِ يوسُفُ نبيُّ اللهِ، ابنُ نبيِّ اللهِ، ابنِ نبيِّ اللهِ، ابنِ خليلِ اللهِ). قالوا: ليس عن هذا نَسأَلُك، قال: (فعن مَعادِنِ العربِ تَسأَلونَني). قالوا: نعمْ، قال: (فخِيارُكم في الجاهليةِ خِيارُكم في الإسلامِ، إذا فَقُهوا) (رواه البخاري)

6- عن أبي موسى الأشعري عبدالله بن قيس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أَعجِزتُم أن تكونوا مثلَ عجوزِ بني إسرائيلَ؟ فقال أصحابُه: يا رسولَ اللهِ و ما عجوزُ بني إسرائيلَ؟ قال: إنَّ موسى لما سار ببني إسرائيلَ من مصرَ، ضَلُّوا الطريقَ، فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم نحن نُحَدِّثُك: إنَّ يوسفَ لما حضره الموتُ أخذ علينا مَوثِقًا من اللهِ أن لا نخرُجَ من مصرَ حتى ننقِل عظامَه معنا، قال: فمن يعلمْ موضعَ قبرَه؟ قالوا ما ندري أين قبرُ يوسفَ إلا عجوزًا من بني إسرائيلَ، فبعث إليها، فأتَتْه، فقال دُلُّوني على قبرِ يوسفَ، قالت لا و الله لا أفعلُ حتى تُعطِيَني حُكمي، قال: و ماحُكمُكِ؟ قالت أكونُ معك في الجنَّةِ، فكره أن يُعطِيَها ذلك، فأوحى اللهُ إليه أن أَعطِها حكمَها، فانطلقَتْ بهم إلى بُحَيرةٍ، موضعَ مُستَنْقَعِ ماءٍ، فقالت: انضِبوا هذا الماءَ، فأَنضبوا، قالت احفِروا و استخرِجوا عظامَ يوسفَ، فلما أقلُّوها إلى الأرضِ، إذ الطريقُ مثلُ ضوءِ النَّهارِ " (صححه الألباني في السلسلة الصحيحة وقال: إسناده صحيح على شرط مسلم).

7- عن علقمة عَن عبدِ اللَّهِ قالَ: " الفَتَيانِ اللَّذانِ أتَيا يوسُفَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في الرُّؤيا إنَّما كانا تَكاذَبا فلمَّا أوَّلَ رؤياهُما قالا: إنَّا كنَّا نلعَبُ، قالَ يوسُفُ: قُضِيَ الأمرُ الَّذي فيهِ تَستَفتِيانِ " (رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين).
• جاء في تفسير بن كثير: وقال إخوة يوسف لما رأوا الصواع قد أخرج من متاع بنيامين " إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ " يتنصلون إلى العزيز من التشبه به، ويذكرون أن هذا فعل كما فعل أخ له من قبل، يعنون به يوسف عليه السلام. قال قتادة:"كان يوسف عليه السلام قد سرق صنماً لجده أبي أمه فكسره"".

ومما نتعلم من حياة هذا الرسول الكريم :
1- تعلمت من نبي الله يوسف عليه السلام كيف أخطط لكل صغيرة وكبيرة في حياتي فمن يفشل في التخطيط فهو يخطط للفشل والعمل الارتجالي لا يُؤتي ثماره.

• خطط نبي الله يوسف عليه السلام كيف يُظهر براءته مما نسبته إليه امرأة العزيز وكان له ذلك.

• خطط نبي الله يوسف عليه السلام لكي يكون أميناً على اقتصاد مصر لأنه عليه السلام رأى في نفسه القدرة والأهلية وكان له ذلك.

• خطط نبي الله يوسف عليه السلام كيف يستقدم أخاه إلى مصر وكان له ذلك.

• خطط نبي الله يوسف عليه السلام كيف يستبقي أخاه معه في مصر وكان له ذلك.

• خطط نبي الله يوسف عليه السلام كيف يستقدم والديه إليه في مصر وكان له ذلك.

2- تعلمت من نبي الله يوسف عليه السلام التحدث بنعمة الله تعالى مع الثقات ومع من يُقدِّرون ذلك ويعينونني على شكر النعمة.

3- _علمت من نبي الله يوسف عليه السلام أن أستشير في خصوصياتي من هم أهل الثقة
والحكمة.

4- تعلمت من نبي الله يوسف عليه السلام أن أوقر أهل الثقة والحكمة وأن أنفذ نصيحتهم اختصاراً للوقت والجهد واستفادة من خبرتهم وتجاربهم في الحياة .

5- تعلمت من نبي الله يوسف عليه السلام العفة والأمانة وصيانة الأعراض.

6- تعلمت من نبي الله يوسف عليه السلام الاستعانة بالله تعالى في كل أموري وطلب العون على عقبات الحياة ومشكلاتها فالإنسان ضعيف بنفسه قوي بربه.

7- تعلمت من نبي الله يوسف عليه السلام الصبر على المعصية.

8- تعلمت من نبي الله يوسف عليه السلام الصبر على الطاعة.

9- تعلمت من نبي الله يوسف عليه السلام الصبر على قدر الله تعالى وابتلائه.

10- تعلمت من نبي الله يوسف عليه السلام الأخذ بالأسباب حتى وإن بدى لي انقطاع الأسباب.

11- تعلمت من نبي الله يوسف عليه السلام أن أدافع عن نفسي وأقدم حُجتي مهما كان بطش من هم حولي.

12- تعلمت من نبي الله يوسف عليه السلام أن الطاهر العفيف ربما يدفع ثمن طُهره وعفافه سجناً وألماً وغُصة، لأنه رفض الوقوع في أوحال الخيانة ولم يقبل الدنية في دينه ولا في نفسه.

13- تعلمت من نبي الله يوسف عليه السلام أن أرض الله تعالى مهما ضاقت فكل شبر فيها يصلح لكي يكون محراب عبادة وميدان دعوة.

14- تعلمت من نبي الله يوسف عليه السلام ألا أساوم على شرفي ولا على سُمعتي وألا أقبل الهبة التي تنتقص منهما.

15- تعلمت من نبي الله يوسف عليه السلام ألا أنتظر الفرج إلا من الله تعالى وألا أرجع الفضل إلا لله تعالى أولاً وأخيراً.

16- تعلمت من نبي الله يوسف عليه السلام أنه مهما طال ليل الظلم فلابد من طلوع النهار ومهما أحكم الباطل تدبيره فإن تدبير الله تعالى لا يُغلب وأنه سبحانه يتولى الصالحين.
17- تعلمت من نبي الله يوسف عليه السلام أن أعاتب من أساء إليَّ وأجلي له حقيقة موقفي وأفند حُجته.

18- تعلمت من نبي الله يوسف عليه السلام أن المؤمن لا يُصطفى لا يُمَكَّن له حتى يُبتلى وأن ابتلائه يكون على قدر دينه.

19- تعلمت من نبي الله يوسف عليه السلام أن الحق هو ما شهد به الأعداء حيث شهد له عزيز مصر وشهد له رفقاء السجن وشهدت له النسوة وشهدت له امرأة العزيز.

20- تعلمت من نبي الله يوسف عليه السلام أن أعرض خبراتي وإمكانياتي وأبادر بالمساعدة وأن أكون إيجابياً وأن يتساوى عندي تلبية طلبي مع رفضه لأن ما أطلبه هو من باب التكليف لا التشريف فإن قُبِلَ أطلب العون عليه من الله تعالى وإن رُفِضَ أحمد الله الذي عافاني من مشقته.

وفي الختام نسأل الله عزوجل ان يغفر لنا ويحشرنا مع النبيين والصديقيين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا وآخر دعوانا ان الحمدلله رب العالمين .
محاضرة القاها : الشيخ شرماركي محمد عيسى (بخاري) حفظه الله ورعاه
مسجد الصحابة _برعو _ارض الصومال (1440 _ 2019 ) .