وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء ...

وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
من محاسن الشريعة الإسلامية، أن جعل الله عز وجل المسلم أخو المسلم، وأقر الله عز وجل ذلك في كتابه فقال [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] (الحجرات 10).
والأخوة الشرعية: هي علاقة قوية بين المسلمين، يربطها الحب في الله. لا فرق فيها بين كبير وصغير، ولا غني وفقير، ولا أبيضٍ ولا أسود.
ولأجل ترسيخ هذه الأخوة، أمر الشرع بكل ما يقوي صلة المسلم بأخيه، ونهى عن كل ما يقطع الصلة بينهما.
وما ذلك إلا لتجتمع الأمة ولا تتفرق، وتقوى شوكتها على أعدائها، ويسود الحب والتألف بينهم، فتكون خيرَ أمة أخرجت للناس.
فنهى الشرع عما يخدش الأخوة، ويوجب العداوة والبغضاء بين المسلمين، ويفرق الأمة.
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قال: قال رَسُولُ اللَّهِ ﷺ [لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ] (البخاري 6065).
فكل ذلك مما يقطع الأخوة بين المسلمين، لذلك فهو حرام.
وأمر الشرع بكل ما يقوي هذه الصلة والأخوة بين المسلمين فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قال [المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ] (البخاري 2442).‭‬
وعلق كمال إيمان المسلم على حبه الخير لأخيه المسلم كما يحبه لنفسه، فقال ﷺ [لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ] (البخاري 13).
فمن قطع هذه الصلة بعد كل هذه الأوامر والنواهي الشرعية فقد استحق لنفسه العقاب من الله تعالى.
إن من أسوءِ ما يقطع هذه الصلة بين المسلمين، ويفرق الأمة، ويوجب العقاب عند الله تعالى، هو الهجر والقطيعة
فهجر المسلم لأخيه المسلم حرام، وهو مما شدد فيه الشرع ونهى عنه، ورتب عليه أشد العقاب، لأن الهجر يفكك الأمة وينازعها، ويؤل بها إلى الهلاك.
والهجر: هو مفارقة الرجل غيره، فلا يجالسه، ولا يكلمه، ولا يسلم عليه، ويعرض عنه في الطريق.
فمن كان حاله كذلك مع إخوانه، فهو هاجر عند الله.
قال رسول الله ﷺ [لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ] (مسلم 2560).
فهجر المسلم بعد ثلاثة أيام حرام، لأنه ﷺ قال لا يحل، وقيد الهجر بثلاثة أيام، كما في رواية أبي داود (4911).
فمن علم هذا وأصر على هجره لأخيه المسلم أكثر من ثلاثة أيام، فليعلم أن له عند الله عقاب شديد في الدنيا والأخرة.
أولاً، ما يناله في الدنيا: أن عمله الذي يعمله، من عبادات وطاعات، لا يُرْفَعُ إلى الله، وذنوبه لا تُغْفَرُ من الله.
قال ﷺ [تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا] (مسلم 2565).
وقال ﷺ فيما صح عنه في فضل ليلة النصف من شعبان [يَطَّلِعُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ] (صحيح ابن حبان 5665).
ثانياً، ما يناله في الأخرة: أنه إن مات على إصراره على هجره لأخيه المسلم دخل النار.
قال رسول الله ﷺ [لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّار] (أبو داود 4914).
فليتق الله كلُ هاجرٍ لأخيه المسلم، وليصلح ما بينه وبين إخوانه، طاعة لله الذي قال في كتابه [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] (الأنفال 1).
قد يقول قائل: هناك من الأخوة من إذا صالحتهم أضروني وآذوني، لذا فأنا أقاطعم.
نقول له: الهجر حرام لا محالة، ولا تشكيك في ذلك، لما سبق ذكره من الأدلة في تحريمه.
لكن لو كان الحال كذلك من وقوع الضرر والأذية من بعض الأخوة في القرب منهم، فلك أن تتجنبهم ولا تقاطعهم حتى لا تكون هاجراً. ويكفيك أن تلقي السلام عليهم فقط.
يقول العلماء: يزول الهجر بإلقاء السلام.
فإن رد السلام عليك فهو خير لك وله، وإن لم يرد السلام، فقد برأت إلى الله من هجره، وهو الذي يبوء بالإثم.
فعن أم المؤمنين عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ [لَا يَكُونُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ مُسْلِمًا فَوْقَ ثَلَاثَةٍ، فَإِذَا لَقِيَهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ كُلُّ ذَلِكَ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ بِإِثْمِهِ] (أبو داود 4913).
ومما يجب التنبيه عليه: أنه يجوز الهجر والقطيعة أكثر من ثلاثة أيام، لمن كان مجاهراً بمعصية من المعاصي أو بكبيرة من الكبائر.
كما هجر النبي ﷺ وأصحابه كعبَ بنَ مالك ومن كان معه لما تخلفوا عن غزوة تبوك بغير عذر، والجهاد واجب، فتركوا الواجب، فأمره الله بهجرهم خمسين يوماً لا يكلموهم ولا يسلموا عليهم ولا يصلُّوا معهم، حتى أن رسول الله ﷺ أمر أزواج هؤلاء الثلاثة بمفارقتهم.
وهذا الهجر إذا كان يغلب على الظن أنه يصلح هذا المهجور، إما إن كان لا يصلحه بل يزيده سوءاً، فلا يحل هجره ولا مقاطعته، بل تجب مناصحته.
أبو عبد الرحمن سيـد فـؤاد الليثي