#خواطر_رمضانية_4) صقر قريش ...... ودرس في بناء ...
#خواطر_رمضانية_4)
صقر قريش ...... ودرس في بناء الدولة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المكان هو مكة المكرمة، الزمان موسم حج 147 هـ، يدلف الخادم إلى مجلس الخليفة أبي جعفر المنصور، في حالة لم يُشاهَد على مثلها من قبل من الاضطراب، واصفرار الوجه، وكأنه فُجِعَ بألف مصيبة في نفس اللحظة. يحاول الرجل إخبار سيده بما حدث؛ فيتلعثم؛ فيشتاط أبو جعفر غضبًا. هنا لا يجد الرجل ردًا أبلغ من أن يفتح الصندوق الذي بحوزته، ويضعه في نطاق رؤية الخليفة العباسي، والذي أصابه وابل من مزيج من الذهول والامتعاض مما رأى، وحُقَّ له ذلك وأكثر.
كان الصندوق العجيب يحتوي رأسًا بشريُا بدت عليه علامات التحلل، وكان أشد ما أفزع أبا جعفر أنه رغم ذلك استطاع أن يعرف صاحب هذه الرأس جيدًا: فقد كان هو نفسه – أبو جعفر – السبب في ذلك المصير الذي انتهى إليه صاحب هذه الرأس. العلاء بن مغيث القحطاني، الذي أرسله المنصور إلى أقصى غرب العالم الإسلامي، وراء البحر، ومنحه راية العباسيين ، وكتاب الخليفة العباسي يمنحه ولاية الأندلس، يكاد ينفرد بسلطانها، وتوزيع ثرواتها، مقابل إخضاعها ولو اسمًا لسلطة العباسيين.
كان هذا المشهد السابق – طبقًا لأشهر رواية تاريخية – هو السبب في ظهور اللقب الشهير «صقر قريش»، والذي وُصِفَ به رجل استثنائي. وأقوى من اللقب أنه انتزعه في شهادة تاريخية من ألد خصومه الذي ذُبِحَ أهل بيته بسلطانه، وأن ذلك كان في سياق انتصار ساحق أمعن فيه في الأخذ بثأره .
______________________________________________________________________________
#صقر_قريش_وبناء_الدولة.
بعد سقوط دولة أجداده وفراره من الموت المحتم عليه وإختبائه عند خواله البربر دخل إلى الأندلس ففرضَ نفسه رجل دولة منذ اليوم الأول لدخوله عاصمة الأندلس ، فكبح رجاله خاصة اليمنية الموتورين ، عن أية أعمال انتقامية تجاه ممتلكات المنهزمين وحُرَمِهِم ؛ مما أعلى أسهمه كثيرًا لدى عامة أهل قرطبة، وجعل منه أميرًا للجميع ، لكن كان لهذا الموقف ثمنه من ولاء هؤلاء الموتورين الذين حرمهم من لحظة انتقامية عاتية ، لكن لم يكن ما سبق هو خاتمة رحلته أبدًا ، بل كان أول فصولها فحان وقت بناء دولة في الأندلس المشهورة بالثورات والفتن ولم تكن هذه أبدًا بالمهمة السهلة. كانت الجزيرة تموج بالكثير من الثارات، والزعامات المحلية، والصدامات العرقية والقبلية بين العرب والبربر وسكان الجزيرة، وفوق كل ما سبق، واستغلالًا لانكفاء المسلمين جنوبًا في حروبهم الأهلية، تتمدد شمالًا الدويلات الإسبانية المسيحية، والتي كانت تتربص بالفاتحين الدوائر، وتتصيَّد الفرص للانقضاض جنوبًا، وتحلم بيوم تلقيهم فيه في البحر من حيث أتوا مع طارق قبل نصف قرن .
ومن المعروف عند المتأخرين لم يتورع عبد الرحمن عن استخدام كل ما ينبغي استخدامه لتوحيد الأندلس تحت طاعته، فقمع الثوراث والفتن المتلاحقة بالسيف وبالتدبير، وكان يحاول في البداية عدم الإسراف في السطوة على مخالفيه، لكن تغيرت ردة فعله تدريجيًا مع تفاقم الثورات والاضطرابات، والتي قدَّرها جُلُّ المؤرخين بأكثر من 25 ثورةً وتمردًا خلال سنوات حكمه للأندلس، والتي ستصل إلى 34 عامًا (138هـ – 172هـ).
وتنوَّعت دوافعها ، بين المطامع السياسية المعتادة لزعامات محلية منافسة لحكم عبد الرحمن المركزي، وثورات ذات دوافع قبلية عربية كثورات المضرية، ثم اليمنية ، وثورات للبربر…إلخ، لكن عمومًا لم تكن تلك الثورات ذات مطالب شعبية عامة؛ فقد كان عامة سكان الأندلس، حتى غير المسلمين منهم، راضين عن حكم عبد الرحمن؛ لأنهم وجدوا فيه الأمل الوحيد في توحيد الجزيرة، وبث الاستقرار طويل الأمد في ربوعها، وعزَّز من سيادة هذا الرأي ما أظهره عبد الرحمن ورجاله من جهد في إدارة الدولة، والتوسع في العمران، والحفاظ على علاقة متزنة مع كافة الأحزاب الأندلسية .
ولكن الصدمة أن بني العباس أرسلوا إلى الاندلس .
في بداية الأمر لم يكن يعلم الكثيرون أن الاتفاق بين الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، والعلاء بن مغيث، كان ينص على شبه استقلال العلاء بحكم الأندلس وخراجها، مقابل الدعوة الاسمية لبني العباس فيها! أي أن الأمر كان أقرب إلى عملية انتقامية ضد أحد فلول أعدائهم الأمويين .
استمرَّ الحصار في قرمونة أسابيع. مع مرور الوقت، كان موقع العلاء بن مغيث يهتز؛ فهو وجنوده عاجزون عن اقتحام القلعة الحصينة، وفي المقابل يخشون من رفع الحصار والتوغل في الأندلس، حتى لا ينقض عليهم عبد الرحمن من الخلف. أعلم العيونُ عبد الرحمنَ بشيوع التململ والاضطراب في معسكر العلاء؛ فبادر بقرار جريء لاستغلال اللحظة الراهنة، فخطب في جنوده خطبة حماسية، وأعلن أنه سيخرج لحرب قوات الحصار بنفسه، ورفع سيفه وألقى الغمد في النار دلالة على عدم التراجع، وطلب ألا يخرج معه أحد مجبرًا. فانضم إليه حوالي 700 من أشد جنوده إخلاصًا وولاءً، وفعلوا مثل أميرهم، وخرجوا من أبواب القلعة يقصدون عساكر العلاء.
نزل الهجوم كالصاعقة على العلاء وجنوده، رغم الفارق العددي الكبير لصالحهم؛ إذ توقعوا أن يظل عبد الرحمن متحصنًا في قلعته، متجنبًا المواجهة المباشرة. انهار جيش العلاء، وسقط قائده والكثير من معاونيه صرعى، وأمر عبد الرحمن بقتل من وقع من جنود العلاء في الأسر.
أمر عبد الرحمن بحشو رأس العلاء بالملح لحفظها وإرسالها في صندوق إلى الشرق، إلى أبي جعفر المنصور، وبالفعل تمكَّن بعض ثقاته من إلقائها قرب خيمة أبي جعفر في مكة المكرمة أثناء الحج. ما إن رأى أبو جعفر الرأس حتى صاح في مزيج من الغضب والفزع: «ما في هذا الشيطان مطمح، فالحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر!».
استمرّ عبد الرحمن في إدارة الدولة بنفس الحزم، وواصل قمع الثورات والتمردات بلا هوادة ؛ حتى وصل به هذا إلى قتل بعض أهل بيته ممن حاولوا التمرد على حكمه , كذلك استحدث عبد الرحمن سياسة جديدة ليجعل لدولته جنودها المخلصين المتحررين من الولاءات العرقية والقبلية والمناطقية ، فأكثر من جلب العبيد الصغار من أسواق الرقيق في كافة أرجاء أوروبا ؛ ليتم تأسيسهم منذ نعومة أظفارهم على الإسلام ، والولاء للدولة وأميرها ، فنشأ مع مرور الوقت طبقة الصقالبة التي كانت تشكل العمود الفقري للحكومة الأموية في الأندلس ، فمنها الحرس الخاص للأمير ، ومنها الدائرة المقربة من الخدم والحشم التي تدير القصور الأميرية ، وتسهر على شئونها.
توفؤ عبد الرحمن عام 172هـ، مُخلِّفًا دولة مركزية قوية بالأندلس، تخضع رغبًا ورهبًا ليد قرطبة الحازمة، وخلفه على العرش ابنه هشام بن عبد الرحمن، والذي سار على منوال أبيه في خطا البناء والعمران ، ومواجهة الثورات والتمردات ، واستمر نسل عبد الرحمن الداخل في حكم الأندلس قرنين ونصف من الزمان غلب عليها قوة الدولة ، والتوسع في العمران ، وتحجيم مد الدويلات المسيحية الشمالية بالحملات العسكرية المتتابعة .
يقول المؤرخون إنّ خطوات عبدالرحمن إبن معاوية إبن هشام إبن عبدالملك المعروف بالداخل الملقب بصقر قريش كانت خطواتا ذات تركيز عالي وطموحه في تأسيس الدولة كان عاليا ولم يدخر جهدا يبذله أحد إلا وحاول عليه ولم تمر عليه فرصة إلا وأستفاد منها على أحسن وجه فأصبح موحد الجزيرة الإسلامية البعيدة عن الأراضي الإسلامية الأخرى النائية عنها قدّم مصلحة الدولة على كلّ شىء حتى كلّف ذالك بعض دماء أبناء أخيه الذين حاولو التمرد على سلطته ومن أهم ما نلاخظ على عملية تاسيس دولته ما يلي :
• الإستفادة من تفرق أصحاب البلد وتعصب بعضهم على بعض ودوام الثورات والحروب العصبية بينهم فانحازه إلى موالي بني أمية وإلى بعض القبائل اليمنية المتمركزة في الجزيرة الخضراء للوصول إلى سدة الحكم وإلى تأسيس دولة شاملة عادلة ذات شرعية ونفوذ واسع فالعقلاء دائما يقرأون الأحداث والواقع ويجعلونها تمشي لصالحهم ويستفيدون الفرص مع توخيهم الحذر من التحديات والصعوبات .
• ولما مكنه الله من أعدائه وأصبح أميرا لتلك البلاد وصاحبا لها لم يرجع إلى العصبية الهوجاء ولم يشتغل تصفية الحسابات القديمة بل دعل لنفسه جيشا لا ينتمي إلا إلى دولته ولا يعرفون سندا إلا هو فشرع يجمع الغلمان والرقيق من كل مكان ويجعلونهم من الجيش ويربينهم على ولاء الدين والوطن وأن الدين فوق كل شىء .
وهكذا بنى عبدالرحمن الداخل ( صقر قريش ) دولة قامت بعده بقرون وأصبحت من الدول المهتمة تاريخيا .
ومن أهم أعماله بعد ان إنتهى من أمر الثورات وأستتب له الامر قام لتطوير البلاد قكان من أهم أعماله :
أولاً: إنشاء جيش قوي وفي بنائه لجيشه الجديد عمل على ما يلي:
• اعتمد في تكوين جيشه على العناصر التالية :
أ - اعتمد في الأساس على عنصر المولَّدين، وهم الذين نَشَئُوا نتيجة انصهار وانخراط الفاتحين بالسكان الأصليين من أهل الأندلس.
ب - اعتمد كذلك على كل الفصائل والقبائل الموجودة في بلاد الأندلس، فضمَّ إليه كل الفصائل المُضَرِيَّة؛ سواء كانت من بني أمية أو من غير بني أمية، إلاَّ أنه بعد ثورة اليمانية لمقتل أبي الصباح اليحصبي صار لا يطمئن إلى العرب، فأكثر مِنَ اتخاذ المماليك من غير العرب لا سيما البربر، حتى صار له منهم أربعون ألفًا، وبهم استقرَّ ملكه .
ج - كذلك اعتمد على عنصر الصقالبة , وهم أطفالٌ نصارى كان قد اشتراهم عبد الرحمن الداخل من أوربا، ثم قام بتربيتهم وتنشئتهم تنشئةً إسلامية عسكرية صحيحة.
وبرغم قدوم عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس وحيدًا، فقد وصل تعداد الجيش الإسلامي في عهده إلى مائة ألف فارسٍ غير الرجَّالة، مشكَّلاً من كل هذه العناصر السابقة، والتي ظلَّت عمادَ الجيش الإسلامي في الأندلس لدى أتباع وخلفاء وأمراء بني أمية من بعده.
2- إنشاء المصانع ودور الأسلحة
أنشأ عبد الرحمن الداخل -صقر قريش- دُورًا للأسلحة؛ فأنشأ مصانع السيوف ومصانع المنجنيق، وكان من أشهر هذه المصانع مصانع طُلَيْطلَة ومصانع برديل.
3- إنشاء أسطول بحري قوي
• أنشأ -أيضًا- أسطولاً بحريًّا قويًّا، بالإضافة إلى إنشاء أكثر من ميناء؛ كان منها ميناء طُرْطُوشة وألمَرِيَّة وإِشْبِيلِيَة وبَرْشُلُونَة وغيرها من المواني.
4- تقسيم ميزانية الدولة
كان عبد الرحمن الداخل يُقَسِّم ميزانية الدولة السنوية إلى ثلاثة أقسام : قسم يُنفقه بكامله على الجيش، والقسم الثاني لأمور الدولة العامَّة من مؤنٍ ومعمارٍ ومرتباتٍ ومشاريعَ وغير ذلك، والقسم الأخير كان يدَّخره لنوائب الزمان غير المتوقَّعة.
5- الاهتمام بالعلمَ والجانبَ الدينيَّ
أعطى عبد الرحمن الداخل العلم والجانب الديني المكانة اللائقة بهما؛ فعمل على الآتي:
• - نَشْر العلم وتوقير العلماء.
• - اهتمَّ بالقضاء والحسبة.
• - اهتمَّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
• - كان من أعظم أعماله في الناحية الدينية بناء مسجد قُرْطُبَة الكبير، والذي أنفق على بنائه ثمانين ألفًا من الدنانير الذهبية، وقد تنافس الخلفاء من بعده على زيادة حجمه؛ حتى تعاقب على اكتماله في شكله الأخير ثمانية من خلفاء بني أميَّة .
• وكان من العلماء في أيامه معاوية بن صالح بن حدير بن سعيد الحضرمي، وكان من جِلَّة أهل العلم ومن كبار المحدِّثين، وقد أخذ عنه جملة من الأئمة؛ منهم: سفيان الثوري، وابن عيينة، والليث بن سعد، ويُذْكَر أن مالك بن أنس قد روى عنه حديثًا، وكان عبد الرحمن الداخل قد ولاَّه القضاء.
• وكان من علماء الأندلس في عهده -أيضًا- سعيد بن أبي هند، والذي لَقَّبه الإمام مالك بن أنس / بالحكيم؛ لِمَا عُرِفَ عنه من رجاحة عقله، وقد توفي أيام الداخل .
6- العناية الكبيرة بالجانب الحضاري المادي ويبرز ذلك في الجوانب التالية :
• - اهتمامه الكبير بالإنشاء والتعمير، وتشييد الحصون والقلاع والقناطر، وربطه أول الأندلس بآخرها.
• - إنشاؤه الرُّصَافة، وهي من أكبر الحدائق في الإسلام، وقد أنشأها على غِرار الرصافة التي كانت بالشام، والتي أسَّسها جدُّه هشام بن عبد الملك -رحمه الله، وقد أتى لها عبد الرحمن بالنباتات العجيبة من كل بلاد العالم، فإذا نجحت زراعتها في الرصافة فإنها تنتشر في الأندلس كلها
7- حماية حدود دولته من أطماع الأعداء :
• بالإضافة إلى إعداده جيشًا قويًّا -كما أوضحنا سابقًا- وتأمينًا لحدود دولته الجديدة قام عبد الرحمن الداخل بخوض مرحلتين مهمتين:
• المرحلة الأولى: كان عبد الرحمن الداخل يعلم أن الخطر الحقيقي إنما يكمن في دولتي ليون في الشمال الغربي، وفرنسا في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، فقام بتنظيم الثغور في الشمال، ووضع جيوشًا ثابتةً على هذه الثغور المقابلة لهذه البلاد النصرانية، وهي :
• - الثغر الأعلى؛ وهو ثغر سَرَقُسْطَة في الشمال الشرقي في مواجهة فرنسا.
• - الثغر الأوسط؛ ويبدأ من مدينة سالم ويمتدُّ حتى طُليْطلَة.
• - الثغر الأدنى؛ وهو في الشمال الغربي في مواجهة مملكة ليون النصرانية.
المرحلة الثانية : كان عبد الرحمن الداخل –رحمه الله- قد تعلَّم من آبائه وأجداده عادة عظيمة، وهي عادة الجهاد المستمرِّ وبصورة منتظمة كل عام، فقد اشتُهِرَت الصوائفُ في عهده؛ حيث كان المسلمون يخرجون للجهاد في الصيف وبصورة منتظمة؛ وذلك حين يذوب الجليد، وكان يتناوب عليهم فيها كبار قوَّاد الجيش، بهدف الإرباك الدائم للعدوِّ، وهو ما يُسمُّونه الآن في العلوم العسكرية بالهجوم الإجهاضي المسبق .
وهكذا أصبح عبدالرحمن الداخل أسطورة في بناء الدول وتأسيسها .
كتبه الشيخ شرماركي محمد عيسى ( بــــــخـــــــــــــــاري )
هـــــــــــــــــــــــرجيـــــــــــــــسيــــــــــــا ــــــ 1440 هـــــــــــــــــــــ.
#خواطر_رمضانية.
صقر قريش ...... ودرس في بناء الدولة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المكان هو مكة المكرمة، الزمان موسم حج 147 هـ، يدلف الخادم إلى مجلس الخليفة أبي جعفر المنصور، في حالة لم يُشاهَد على مثلها من قبل من الاضطراب، واصفرار الوجه، وكأنه فُجِعَ بألف مصيبة في نفس اللحظة. يحاول الرجل إخبار سيده بما حدث؛ فيتلعثم؛ فيشتاط أبو جعفر غضبًا. هنا لا يجد الرجل ردًا أبلغ من أن يفتح الصندوق الذي بحوزته، ويضعه في نطاق رؤية الخليفة العباسي، والذي أصابه وابل من مزيج من الذهول والامتعاض مما رأى، وحُقَّ له ذلك وأكثر.
كان الصندوق العجيب يحتوي رأسًا بشريُا بدت عليه علامات التحلل، وكان أشد ما أفزع أبا جعفر أنه رغم ذلك استطاع أن يعرف صاحب هذه الرأس جيدًا: فقد كان هو نفسه – أبو جعفر – السبب في ذلك المصير الذي انتهى إليه صاحب هذه الرأس. العلاء بن مغيث القحطاني، الذي أرسله المنصور إلى أقصى غرب العالم الإسلامي، وراء البحر، ومنحه راية العباسيين ، وكتاب الخليفة العباسي يمنحه ولاية الأندلس، يكاد ينفرد بسلطانها، وتوزيع ثرواتها، مقابل إخضاعها ولو اسمًا لسلطة العباسيين.
كان هذا المشهد السابق – طبقًا لأشهر رواية تاريخية – هو السبب في ظهور اللقب الشهير «صقر قريش»، والذي وُصِفَ به رجل استثنائي. وأقوى من اللقب أنه انتزعه في شهادة تاريخية من ألد خصومه الذي ذُبِحَ أهل بيته بسلطانه، وأن ذلك كان في سياق انتصار ساحق أمعن فيه في الأخذ بثأره .
______________________________________________________________________________
#صقر_قريش_وبناء_الدولة.
بعد سقوط دولة أجداده وفراره من الموت المحتم عليه وإختبائه عند خواله البربر دخل إلى الأندلس ففرضَ نفسه رجل دولة منذ اليوم الأول لدخوله عاصمة الأندلس ، فكبح رجاله خاصة اليمنية الموتورين ، عن أية أعمال انتقامية تجاه ممتلكات المنهزمين وحُرَمِهِم ؛ مما أعلى أسهمه كثيرًا لدى عامة أهل قرطبة، وجعل منه أميرًا للجميع ، لكن كان لهذا الموقف ثمنه من ولاء هؤلاء الموتورين الذين حرمهم من لحظة انتقامية عاتية ، لكن لم يكن ما سبق هو خاتمة رحلته أبدًا ، بل كان أول فصولها فحان وقت بناء دولة في الأندلس المشهورة بالثورات والفتن ولم تكن هذه أبدًا بالمهمة السهلة. كانت الجزيرة تموج بالكثير من الثارات، والزعامات المحلية، والصدامات العرقية والقبلية بين العرب والبربر وسكان الجزيرة، وفوق كل ما سبق، واستغلالًا لانكفاء المسلمين جنوبًا في حروبهم الأهلية، تتمدد شمالًا الدويلات الإسبانية المسيحية، والتي كانت تتربص بالفاتحين الدوائر، وتتصيَّد الفرص للانقضاض جنوبًا، وتحلم بيوم تلقيهم فيه في البحر من حيث أتوا مع طارق قبل نصف قرن .
ومن المعروف عند المتأخرين لم يتورع عبد الرحمن عن استخدام كل ما ينبغي استخدامه لتوحيد الأندلس تحت طاعته، فقمع الثوراث والفتن المتلاحقة بالسيف وبالتدبير، وكان يحاول في البداية عدم الإسراف في السطوة على مخالفيه، لكن تغيرت ردة فعله تدريجيًا مع تفاقم الثورات والاضطرابات، والتي قدَّرها جُلُّ المؤرخين بأكثر من 25 ثورةً وتمردًا خلال سنوات حكمه للأندلس، والتي ستصل إلى 34 عامًا (138هـ – 172هـ).
وتنوَّعت دوافعها ، بين المطامع السياسية المعتادة لزعامات محلية منافسة لحكم عبد الرحمن المركزي، وثورات ذات دوافع قبلية عربية كثورات المضرية، ثم اليمنية ، وثورات للبربر…إلخ، لكن عمومًا لم تكن تلك الثورات ذات مطالب شعبية عامة؛ فقد كان عامة سكان الأندلس، حتى غير المسلمين منهم، راضين عن حكم عبد الرحمن؛ لأنهم وجدوا فيه الأمل الوحيد في توحيد الجزيرة، وبث الاستقرار طويل الأمد في ربوعها، وعزَّز من سيادة هذا الرأي ما أظهره عبد الرحمن ورجاله من جهد في إدارة الدولة، والتوسع في العمران، والحفاظ على علاقة متزنة مع كافة الأحزاب الأندلسية .
ولكن الصدمة أن بني العباس أرسلوا إلى الاندلس .
في بداية الأمر لم يكن يعلم الكثيرون أن الاتفاق بين الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، والعلاء بن مغيث، كان ينص على شبه استقلال العلاء بحكم الأندلس وخراجها، مقابل الدعوة الاسمية لبني العباس فيها! أي أن الأمر كان أقرب إلى عملية انتقامية ضد أحد فلول أعدائهم الأمويين .
استمرَّ الحصار في قرمونة أسابيع. مع مرور الوقت، كان موقع العلاء بن مغيث يهتز؛ فهو وجنوده عاجزون عن اقتحام القلعة الحصينة، وفي المقابل يخشون من رفع الحصار والتوغل في الأندلس، حتى لا ينقض عليهم عبد الرحمن من الخلف. أعلم العيونُ عبد الرحمنَ بشيوع التململ والاضطراب في معسكر العلاء؛ فبادر بقرار جريء لاستغلال اللحظة الراهنة، فخطب في جنوده خطبة حماسية، وأعلن أنه سيخرج لحرب قوات الحصار بنفسه، ورفع سيفه وألقى الغمد في النار دلالة على عدم التراجع، وطلب ألا يخرج معه أحد مجبرًا. فانضم إليه حوالي 700 من أشد جنوده إخلاصًا وولاءً، وفعلوا مثل أميرهم، وخرجوا من أبواب القلعة يقصدون عساكر العلاء.
نزل الهجوم كالصاعقة على العلاء وجنوده، رغم الفارق العددي الكبير لصالحهم؛ إذ توقعوا أن يظل عبد الرحمن متحصنًا في قلعته، متجنبًا المواجهة المباشرة. انهار جيش العلاء، وسقط قائده والكثير من معاونيه صرعى، وأمر عبد الرحمن بقتل من وقع من جنود العلاء في الأسر.
أمر عبد الرحمن بحشو رأس العلاء بالملح لحفظها وإرسالها في صندوق إلى الشرق، إلى أبي جعفر المنصور، وبالفعل تمكَّن بعض ثقاته من إلقائها قرب خيمة أبي جعفر في مكة المكرمة أثناء الحج. ما إن رأى أبو جعفر الرأس حتى صاح في مزيج من الغضب والفزع: «ما في هذا الشيطان مطمح، فالحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر!».
استمرّ عبد الرحمن في إدارة الدولة بنفس الحزم، وواصل قمع الثورات والتمردات بلا هوادة ؛ حتى وصل به هذا إلى قتل بعض أهل بيته ممن حاولوا التمرد على حكمه , كذلك استحدث عبد الرحمن سياسة جديدة ليجعل لدولته جنودها المخلصين المتحررين من الولاءات العرقية والقبلية والمناطقية ، فأكثر من جلب العبيد الصغار من أسواق الرقيق في كافة أرجاء أوروبا ؛ ليتم تأسيسهم منذ نعومة أظفارهم على الإسلام ، والولاء للدولة وأميرها ، فنشأ مع مرور الوقت طبقة الصقالبة التي كانت تشكل العمود الفقري للحكومة الأموية في الأندلس ، فمنها الحرس الخاص للأمير ، ومنها الدائرة المقربة من الخدم والحشم التي تدير القصور الأميرية ، وتسهر على شئونها.
توفؤ عبد الرحمن عام 172هـ، مُخلِّفًا دولة مركزية قوية بالأندلس، تخضع رغبًا ورهبًا ليد قرطبة الحازمة، وخلفه على العرش ابنه هشام بن عبد الرحمن، والذي سار على منوال أبيه في خطا البناء والعمران ، ومواجهة الثورات والتمردات ، واستمر نسل عبد الرحمن الداخل في حكم الأندلس قرنين ونصف من الزمان غلب عليها قوة الدولة ، والتوسع في العمران ، وتحجيم مد الدويلات المسيحية الشمالية بالحملات العسكرية المتتابعة .
يقول المؤرخون إنّ خطوات عبدالرحمن إبن معاوية إبن هشام إبن عبدالملك المعروف بالداخل الملقب بصقر قريش كانت خطواتا ذات تركيز عالي وطموحه في تأسيس الدولة كان عاليا ولم يدخر جهدا يبذله أحد إلا وحاول عليه ولم تمر عليه فرصة إلا وأستفاد منها على أحسن وجه فأصبح موحد الجزيرة الإسلامية البعيدة عن الأراضي الإسلامية الأخرى النائية عنها قدّم مصلحة الدولة على كلّ شىء حتى كلّف ذالك بعض دماء أبناء أخيه الذين حاولو التمرد على سلطته ومن أهم ما نلاخظ على عملية تاسيس دولته ما يلي :
• الإستفادة من تفرق أصحاب البلد وتعصب بعضهم على بعض ودوام الثورات والحروب العصبية بينهم فانحازه إلى موالي بني أمية وإلى بعض القبائل اليمنية المتمركزة في الجزيرة الخضراء للوصول إلى سدة الحكم وإلى تأسيس دولة شاملة عادلة ذات شرعية ونفوذ واسع فالعقلاء دائما يقرأون الأحداث والواقع ويجعلونها تمشي لصالحهم ويستفيدون الفرص مع توخيهم الحذر من التحديات والصعوبات .
• ولما مكنه الله من أعدائه وأصبح أميرا لتلك البلاد وصاحبا لها لم يرجع إلى العصبية الهوجاء ولم يشتغل تصفية الحسابات القديمة بل دعل لنفسه جيشا لا ينتمي إلا إلى دولته ولا يعرفون سندا إلا هو فشرع يجمع الغلمان والرقيق من كل مكان ويجعلونهم من الجيش ويربينهم على ولاء الدين والوطن وأن الدين فوق كل شىء .
وهكذا بنى عبدالرحمن الداخل ( صقر قريش ) دولة قامت بعده بقرون وأصبحت من الدول المهتمة تاريخيا .
ومن أهم أعماله بعد ان إنتهى من أمر الثورات وأستتب له الامر قام لتطوير البلاد قكان من أهم أعماله :
أولاً: إنشاء جيش قوي وفي بنائه لجيشه الجديد عمل على ما يلي:
• اعتمد في تكوين جيشه على العناصر التالية :
أ - اعتمد في الأساس على عنصر المولَّدين، وهم الذين نَشَئُوا نتيجة انصهار وانخراط الفاتحين بالسكان الأصليين من أهل الأندلس.
ب - اعتمد كذلك على كل الفصائل والقبائل الموجودة في بلاد الأندلس، فضمَّ إليه كل الفصائل المُضَرِيَّة؛ سواء كانت من بني أمية أو من غير بني أمية، إلاَّ أنه بعد ثورة اليمانية لمقتل أبي الصباح اليحصبي صار لا يطمئن إلى العرب، فأكثر مِنَ اتخاذ المماليك من غير العرب لا سيما البربر، حتى صار له منهم أربعون ألفًا، وبهم استقرَّ ملكه .
ج - كذلك اعتمد على عنصر الصقالبة , وهم أطفالٌ نصارى كان قد اشتراهم عبد الرحمن الداخل من أوربا، ثم قام بتربيتهم وتنشئتهم تنشئةً إسلامية عسكرية صحيحة.
وبرغم قدوم عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس وحيدًا، فقد وصل تعداد الجيش الإسلامي في عهده إلى مائة ألف فارسٍ غير الرجَّالة، مشكَّلاً من كل هذه العناصر السابقة، والتي ظلَّت عمادَ الجيش الإسلامي في الأندلس لدى أتباع وخلفاء وأمراء بني أمية من بعده.
2- إنشاء المصانع ودور الأسلحة
أنشأ عبد الرحمن الداخل -صقر قريش- دُورًا للأسلحة؛ فأنشأ مصانع السيوف ومصانع المنجنيق، وكان من أشهر هذه المصانع مصانع طُلَيْطلَة ومصانع برديل.
3- إنشاء أسطول بحري قوي
• أنشأ -أيضًا- أسطولاً بحريًّا قويًّا، بالإضافة إلى إنشاء أكثر من ميناء؛ كان منها ميناء طُرْطُوشة وألمَرِيَّة وإِشْبِيلِيَة وبَرْشُلُونَة وغيرها من المواني.
4- تقسيم ميزانية الدولة
كان عبد الرحمن الداخل يُقَسِّم ميزانية الدولة السنوية إلى ثلاثة أقسام : قسم يُنفقه بكامله على الجيش، والقسم الثاني لأمور الدولة العامَّة من مؤنٍ ومعمارٍ ومرتباتٍ ومشاريعَ وغير ذلك، والقسم الأخير كان يدَّخره لنوائب الزمان غير المتوقَّعة.
5- الاهتمام بالعلمَ والجانبَ الدينيَّ
أعطى عبد الرحمن الداخل العلم والجانب الديني المكانة اللائقة بهما؛ فعمل على الآتي:
• - نَشْر العلم وتوقير العلماء.
• - اهتمَّ بالقضاء والحسبة.
• - اهتمَّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
• - كان من أعظم أعماله في الناحية الدينية بناء مسجد قُرْطُبَة الكبير، والذي أنفق على بنائه ثمانين ألفًا من الدنانير الذهبية، وقد تنافس الخلفاء من بعده على زيادة حجمه؛ حتى تعاقب على اكتماله في شكله الأخير ثمانية من خلفاء بني أميَّة .
• وكان من العلماء في أيامه معاوية بن صالح بن حدير بن سعيد الحضرمي، وكان من جِلَّة أهل العلم ومن كبار المحدِّثين، وقد أخذ عنه جملة من الأئمة؛ منهم: سفيان الثوري، وابن عيينة، والليث بن سعد، ويُذْكَر أن مالك بن أنس قد روى عنه حديثًا، وكان عبد الرحمن الداخل قد ولاَّه القضاء.
• وكان من علماء الأندلس في عهده -أيضًا- سعيد بن أبي هند، والذي لَقَّبه الإمام مالك بن أنس / بالحكيم؛ لِمَا عُرِفَ عنه من رجاحة عقله، وقد توفي أيام الداخل .
6- العناية الكبيرة بالجانب الحضاري المادي ويبرز ذلك في الجوانب التالية :
• - اهتمامه الكبير بالإنشاء والتعمير، وتشييد الحصون والقلاع والقناطر، وربطه أول الأندلس بآخرها.
• - إنشاؤه الرُّصَافة، وهي من أكبر الحدائق في الإسلام، وقد أنشأها على غِرار الرصافة التي كانت بالشام، والتي أسَّسها جدُّه هشام بن عبد الملك -رحمه الله، وقد أتى لها عبد الرحمن بالنباتات العجيبة من كل بلاد العالم، فإذا نجحت زراعتها في الرصافة فإنها تنتشر في الأندلس كلها
7- حماية حدود دولته من أطماع الأعداء :
• بالإضافة إلى إعداده جيشًا قويًّا -كما أوضحنا سابقًا- وتأمينًا لحدود دولته الجديدة قام عبد الرحمن الداخل بخوض مرحلتين مهمتين:
• المرحلة الأولى: كان عبد الرحمن الداخل يعلم أن الخطر الحقيقي إنما يكمن في دولتي ليون في الشمال الغربي، وفرنسا في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، فقام بتنظيم الثغور في الشمال، ووضع جيوشًا ثابتةً على هذه الثغور المقابلة لهذه البلاد النصرانية، وهي :
• - الثغر الأعلى؛ وهو ثغر سَرَقُسْطَة في الشمال الشرقي في مواجهة فرنسا.
• - الثغر الأوسط؛ ويبدأ من مدينة سالم ويمتدُّ حتى طُليْطلَة.
• - الثغر الأدنى؛ وهو في الشمال الغربي في مواجهة مملكة ليون النصرانية.
المرحلة الثانية : كان عبد الرحمن الداخل –رحمه الله- قد تعلَّم من آبائه وأجداده عادة عظيمة، وهي عادة الجهاد المستمرِّ وبصورة منتظمة كل عام، فقد اشتُهِرَت الصوائفُ في عهده؛ حيث كان المسلمون يخرجون للجهاد في الصيف وبصورة منتظمة؛ وذلك حين يذوب الجليد، وكان يتناوب عليهم فيها كبار قوَّاد الجيش، بهدف الإرباك الدائم للعدوِّ، وهو ما يُسمُّونه الآن في العلوم العسكرية بالهجوم الإجهاضي المسبق .
وهكذا أصبح عبدالرحمن الداخل أسطورة في بناء الدول وتأسيسها .
كتبه الشيخ شرماركي محمد عيسى ( بــــــخـــــــــــــــاري )
هـــــــــــــــــــــــرجيـــــــــــــــسيــــــــــــا ــــــ 1440 هـــــــــــــــــــــ.
#خواطر_رمضانية.