سلطان العلماء بين مهمة الفقيه وأداء رسالة الإصلاح العز بن عبدالسلام رحمه الله 577هـ -660 هـ نرى ...

سلطان العلماء بين مهمة الفقيه وأداء رسالة الإصلاح
العز بن عبدالسلام رحمه الله 577هـ -660 هـ
نرى هنا سيرة عالم وفقيه لم يشغله العلم والفقه عن إصلاح المجتمع ولم يعش تلك الحياة المثالية الفارغة من الواقعية التي يعيشها فقيه اليوم في واقع مرير وأيام عصيبة بل تصدى للظلم وواجه الحكام والسلاطين ودعا للجهاد ضد الأعداء والطاغين , مواقفه تعجب كل طالب للحرية والعدالة وسيرته مصباح لكل مصلح في زمن فتنة .
حياته ونشأته في سطور :
ولد الإمام العزّ بن عبد السلام في دمشق عام 577هـ – 1181م، وعاش فيها وكان من أسرة فقيرة شديد الفقر لم تعرف لها أي منصب أو علم فكان أبوه يعمل في الأعمال الشاقة وحين شب الطفل ساعد أباه في تلك الاعمال ولما مات أبوه لم يجد من يؤويه فكان ينظف أحد جوامع دمشق وينام على زاوية منه ولذالك لم يجد العز في صغره فرصة لطلب العلم لكنه كان يشاهد الحلقات في المسجد فلم يكن بعيدا من أهل العلم وكان يحب التعليم حتى أمر الإمام إبن عساكر بتعليمه الكتابة والقراءة وحفظ القران فأقبل الكتب بشغف وأجتهد حتى اطمأن الإمام إبن عسكر لمستواه وضمه لحلقات العلم فأصبح من التلاميذ وتتلمذ الإمام إبن عساكر على يد كبار أهل الشام منهم الحسين أحمد بن الموازيني، والخشوعي، وسمع عبد اللطيف بن إسماعيل الصوفي، والقاسم بن عساكر، وابن طبرزد، وحنبل المكبر، وابن الحرستاني، وغيرهم. وخرَّج له الدمياطي أربعين حديثًا عوالي وتفقه على الإمام فخر الدين ابن عساكر .
قالو عنه :
*إبن عبدالسلام أفقه من الغزالي* إبن حاجب .
*بلغ رتبة الإجتهاد وإنتهت إليه رئاسة المذهب مع الزهد والورع , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , والصلابة في الدين وقصد الطلبة من الآفاق وتخرج به أئمة * الإمام الذهبي .
*العز إبن عبدالسلام أحد سلاطين العلماء * إبن دقيق العيد .
عصر الإمام العز إبن عبدالسلام :
الإنسان إبن بيئته وعصره فهو يتأثر بعصره وعلاقته بواقعه تُكوِنُ شخصيته الذاتية ويتخد من تلك الواقع مواقف إيجابية أو سلبية بالرفض أو التأييد بالموافقة أو المعارضة وإن لم يلقي للسياسة بالا_وهذا من أضعف الإيمان_ فلابد أن يتأثر بجوانب أخرى .
كان عصره رحمه الله يجمع التناقضات من صلاح وفساد ووحدة وتفرق وتمزق وتماسك وجبن وتضحية وعزة وذل وغنى وفقر واستشهاد واستخذال وتكالب على السلطة وتقاتل عليها .
كان عصره من الناحية السياسية أشد العصور إضطرابا وقلقا وتفاوتا وتناقضا كانت الخلافة مجرد إسم وكان الناس بين العز والذل والإستقلال والإحتلال والوحدة والإنفصال .
ففي عصر الإمام هاجم الصليبيون على مشرق العالم العربي حتى سقط البيت المقدس على أيديهم سبة 492 هـ وعاثوا فيها القتل والفساد ودمروها وأهلكوا من فيها وأزالو الخلافة نهائيا في تلك المناطق وفرضوا الفكري الصليبي في تلك البلاد المباركة فهب الثائر المسلم عماد الدين زنكي وتصدى للصليبيين ووحد المسلمين وإتجه إلى حلب ووافته المنية قبل تحقيق أهدافه رحمه الله سنة 541 هـ وخلف وراءه إبنه نور الدين زنكي الشهيد وسعى لتوحيد البلاد حتى توفي سنة 561 هـ وكان من أعماله أن بعث لخليفة الفاطمي (العاضد) في مصر جيشا كبيرا بقيادة أسد الدين وصلاح الدين إبن أخي نور الدين فتراجع الفرنج فلما مات الخليفة الفاطمي( العاضد ) سنة 567 هـ أنهى صلاح الدين دولة الفاطميين في مصر وتوجه للإصلاح السياسي والعلمي والإجتماعي والعسكري وسعى لتوحيد مصر والشام وقامت الدولة الأيوبية واتجه لتطهير القدس من درن الصليبيين وتحرير مسرى رسول الله وثالث الحرمين الشريفين فكان الفتح سنة 583هـ ومات صلاح الدين 589هـ رحمه الله واختلف من بعده حكام الإمارات والمدن من أبنائه فأصبح العزيز في مصر والأفضل على دمشق وسيف الإسلام أخو صلاح الدين في اليمن والملك العادل أخو صلاح الدين بالبلاد الشرقية وأستقل كل منهم على الآخر هكذا كان حال مصر والشام والدولة الأيوبية داخليا من الإنقسام والتفرق وخارجيا مواجهة الصليبيين ثم التتار وكان الشرق لم يقل عن ذلك خطرا حيث كان فيه الدولة الخوارزمية والتتار اتجهوا لإحتلال ولم يبدو هناك إستراتيجية مواجهة صارمة فكانت النتيجة بالطبع نشر الفساد والقتل والنحر في البلاد الإسلامي ووقعت الخيانات في الداخل حتى سقطت عاصمة الخلافة بغداد وقتل آخر خلفاء بني العباس سنة 656هـ وتابع التتار الزحف نحو العمق في العالم الإسلامي واحتلو دمشق وحلب ومعظم بلاد الشام ولما توجهوا لمصر سارع إليهم قطز وهزمهم بجيش مصر والشام أوقف زحفهم وأنقد البشرية من وبائهم .
وفي المغرب كانت دولة الموحدين ضعيفة ولم تكن الأندلس أكثر منها حظاً فكان المسلمون فيها متفرقين ومتناحرين بسبب السلطة والرئاسة وتفرقوا إلى قبائل وأعراق وتوجه الإسبان إلى إحتلال الأندلس وأستولو على أكثر المدن والقلاع ولم يبق للمسلمين إلا غرناطة وضواحيها .
نلاحظ أن عصر الإمام عز إبن عبدالسلام رحمه الله كان مضطربا قلقا كان سيئا جدا _ ولابد أن يتصور في ذهنك حين القراءة ما يجري في واقعنا المعاصر إن لم يكن ذاك العصر أفضل منه _ فكان من أبشع صور التاريخ العالم الإسلامي وأكثر العصور إنحطاطا فالصليبيون من الغرب والتتار من الشرق والخلاف والإنقسام من الداخل وحكام البلاد الإسلامية في تقاتل وتناحر لأهداف وضيعة وأطماع شخصية ومؤمرات صبيانية بين الإخوة والأهل ولكن في المقابل ظهر في هذا العصر أبهى صور التاريخ فقد وقعت فيه أقدس المعارك وظهر فيها الإنتصارات فأنتصر المسلمون على الصليبيين في حطين وهزم التتار في عين جالوت وتغير مجرى التتار فأسلمو وأستوطن بعضهم بلاد الشام حين ذهب الآخرون إلى حمل رسالة الإسلام وظهر في هذا العصر أسماء قادة مضيئة أمثال الزنكي وصلاح الدين وبيبرس وسيف الدين قطز فكانت لهم الأيدي البيضاء على مدى الدهر فإذا أحزنك حال الأمة اليوم فانظر إلى تلك القرون الثلاثة في عصر الإمام عز إبن عبدلسلام رحمه الله لترى أن الشدائد والنكبات والتناحر والإنقسام لم تستمر بل بزغ نور الحق من هنا وهناك وهكذا يظل الصراع الدامي بين الحق والباطل والكفر والإسلام فلتتيقن أن للباطل جولة وللحق جولات .
العلماء والسياسة في عصر الإمام عز إبن عبدالسلام :
شارك بعض العلماء في المجال السياسي في مطلع العصر الأموي والعباسي وشارك بعضهم في الثورات التي قامت لكن خمد هذا الامر عند إستقرار العهد العباسي فصار العلماء إما موالين لتلك الحكومات أو مجانبين لأمور السياسة والحكم إلا إذا داهم الخطر على الإسلام والمسلمين فحينها كانوا يصدعون للحق ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر يحثون على الإنخراط في صفوف المجاهدين وهذا ما حدث عند قدوم التتار وهجوم الصليبيين فكان دور العلماء محرك الجماهير ومرهب الحكام والأمراء وهذا ما تكرر في التاريخ وعلى سبيل المثال عز إبن عبدالسلام والنووي وإبن تيمية .

من مواقف الإمام العز بن عبد السلام :
استعان الملك إسماعيل بن العادل بالصليبيين ضد أخيه نجم الدين سلطان مصر، وأعطاهم مقابل ذلك صيدا [حسب رواية السبكي] وقلعة صفد وغيرها [حسب رواية المقريزي]، ثم سمح للصليبيين بدخول دمشق بقصد شراء السلاح وسائر آلات الحرب.
وقف سلطان العلماء العز بن عبد السلام بوجه هذه الخيانة , وأفتى بتحريم بيع السلاح، ثم صعد منبر الجامع الأموي حيث كان خطيبه الرسمي وأعلن فتواه المشهورة بتحريم بيع السلاح للصليبيين ثم قطع من الخطبة الدعاء للسلطان إسماعيل، وهذا يعني نزع البيعة له ثم راح يدعو الدعاء التالي والناس يضجون بالتأمين على دعائه: "اللهم أبرم لهذه الأمة إبرام رشد يُعزُ فيه أولياءك، وتذل فيه أعداءك، ويعمل فيه بطاعتك، وينهى فيه عن معصيتك".
كان السلطان الصالح إسماعيل خارج دمشق، وعندما جاءه الخبر أمر بعزل الشيخ ابن عبد السلام من خطبة الجمعة ومن سائر وظائفه، واعتقاله مع صاحبه الشيخ ابن الحاجب المالكي لاشتراكه معه في هذا الإنكار، ثم لما قدم دمشق أمر بالإفراج عنهما، وفرض الإقامة الجبرية على العز بن عبد السلام.
إذا شئنا الحديث عن وظائف العز بن عبد السلام التي عزل عنها بلغة هذا العصر، فهي : وزارة المعارف، ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ووزارة الإعلام، أو معظم أقسام هذه الوزارات، وهذا مما لا يطمع به أي عالم من علماء السلاطين اليوم ، ومع ذلك فهو لم يتردد في التخلي عنها إرضاء لله سبحانه وتعالى. يقول تلميذه القرافي أن بعض أرباب الدولة كتب إليه يحضه على الاجتماع بملك وقتهم، والتردد إليه ليكون ذلك مقيماً لجاهه وكابتاً لعدوه، فقال: "قرأت العلم لأكون سفيراً بين الله وبين خلقه وأتردد إلى أبواب هؤلاء؟!".
ولما كان التطبيق العملي يبين معادن الرجال، ويكشف ما تكنه الصدور، فإن رد العز بن السلام على بعض خواص السلطان الذين جاؤه يعرضون عليه الاعتذار مقابل العودة إلى وظائفه المغرية خير دليل على أنه يتبع القول العمل.
قالوا له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه أن تنكسر للسلطان وتقبل يده لا غير.
قال: والله ما أرضاه أن يقبل يدي فضلاً عن أن أقبل يده. يا قوم أنتم في واد وأنا في واد، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به.
قالوا: يا شيخ قد رسم لنا أن توافق على ما يطلب منك، وإلا اعتقلناك.
قال: افعلوا ما بدا لكم، ثم أخذوه معتقلاً في خيمة مجاورة لخيمة السلطان.
وقعت الحرب بين الأخوين، وأسفرت عن انتصار السلطان نجم الدين أيوب على السلطان إسماعيل وحلفائه الصليبيين. ونجا الشيخ ابن عبد السلام من الأسر، ثم دخل مصر معززاً مكرماً، وتولى منصب قاضي القضاة فيها... ولكن: هل أخلد الشيخ إلى الراحة، وشغله منصبه الرفيع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟، وعنده مسوغات كثيرة لو شاء اتخاذ مثل هذا القرار.
يقول السبكي: لم يثبت عند الشيخ أن أمراء الدولة الأتراك أحرار، ولهذا فإن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، وقال الشيخ بإبلاغهم ذلك.
استشاط نائب السلطنة غضباً، وركب بنفسه في جماعته، وجاء إلى بيت الشيخ، ثم طرق بابه وسيفه مسلول بيده، فخرج ولد الشيخ، وهاله ما رأى، فعاد إلى أبيه وشرح له الحال، فما اكترث الشيخ لذلك ولا تغير، وقال: يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله، ثم خرج، فسقط السيف من يد نائب السلطنة عندما وقع بصر الشيخ عليه، وأرعدت مفاصله، فبكى النائب، وسأل الشيخ أن يدعو له، ثم قال: يا سيدي خير، أي شي تعمل؟. قال: أنادي عليكم وأبيعكم، قال: ففيمَ تصرف ثمننا؟. قال: في مصالح المسلمين، قال: من يقبضه؟. قال: أنا , وأخيراً فقد تم للشيخ ما أراد حيث نادى على الأمراء واحداً واحداً، وغالى في ثمنهم، وقبضه وصرفه في وجوه الخير، رحم الله سلطان العلماء، وجزاه عن الإسلام والمسلمين كل خير.

وفاته رحمه الله :
استمر العز بعلمه وهيبته وحب الناس له، إلى أن وافته المنية عام 660 هـ – 1262م، وهو يبلغ من العمر ثلاثًا وثمانين عامًا، ومما يُروى أنه عندما بلغ السلطان بيبرس وفاته قال: «لم يستقر ملكي إلا الساعة، لأنه لو أمر الناس فيَّ ما أراد لبادروا إلى امتثال أمره»، أي أنه لو قال للناس اخرجوا عليّ لانتزع الملك مني لبادورا لأمره فرحم الله الإمام وأسكنه في فسيح جناته .

برأيك أيها القارئ الكريم كم من أمثال العز نحتاجه اليوم حتى تستعيد الأمة مجدها ؟ .