(( فَيْضُ الْمَنَّانِ بشَرْحِ دُرَّةِ البَيَانِ في أُصُولِ الِإيمَانِ )) الدرس الثاني. مبَادِئ ...

(( فَيْضُ الْمَنَّانِ بشَرْحِ دُرَّةِ البَيَانِ في أُصُولِ الِإيمَانِ )) الدرس الثاني.
مبَادِئ عِلْمُ الْإِيمَانِ وَمُقَدِّمَاتِه
• أوَّلُ الْوَاجِبَاتِ، وَأَعْظَمُ الْمُهِمَّاتِ: تَوْحِيدُ رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَوَات.
ـــــــــــــــــــــــــــ
الشرح :
قول: ( مبادىء ) جمع مبدأ، ومَبْدأ الشّيء: قواعده الأساسيّة التي يقوم عليها، وأوّله ومادّتُه التي يتكوّنُ منها، مثل النواة مبدأ النخل، والحروف مبدأ الكلام ، فقوله ( مَبادِئ علم الإيمان ) أي قواعده الأساسيّة التي يقوم عليها ويخرج منها.
قوله: ( علم الإيمان ) العلم ضد الجهل، قال في التعريفات: هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، وقيل: العلم هو إدراك الشيء على ما هو به، وقيل: العلم: صفة راسخة تدرك بها الكليات والجزئيات . والإيمان سيأتي تعريفه، ودليل أن الإيمان علم قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾( 1). وحديث جندب بن عبد الله، قال: كنا مع النبي ﷺ ونحن فتيان حزاورة، «فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا»( 2).
قوله: ( ومقدماته ) عطف على مبادىء، والهاء عائدة على علم الإيمان، والمعنى مبادىء ومقدمات علم الإيمان، والمقدمة من كل شيء أوله .
وقد جرى على ذلك أكثر من صنف من العلماء أن يذكر في مطلع مصنفه مبادىء الفن
الذي يصنف فيه ويضع له المقدمات التي تعرف به .
قوله: (أوَّلُ الْوَاجِبَاتِ، وَأَعْظَمُ الْمُهِمَّاتِ: تَوْحِيدُ رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَوَات). لا شك أن أول الواجبات وأعظمها عند أهل السنة هو توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة دون سواه.
وقد بدأ المصنف بما بدأ به الله تعالى حيث قال:﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾( 3) ففي هذه أمر من الله لسائر خلقه المكلَّفين بالاستكانة، والخضوع له بالطاعة، وإفراده تعالى بالربوبية والعبادة دون الأوثان والأصنام والآلهة. لأنه جلّ ذكره هو خالقهم وخالقُ مَنْ قبلهم من آبائهم وأجدادهم، وخالقُ أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم.
وكذا كانت الدعوة إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة أول ما دعى إليه الرسل أقوامهم، بل إن توحيد الله وإفراده بالعبودية هو مقصود دعوة النبيين والمرسلين ، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾( 4) ، وقال تعالى : ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾( 5).
وعلى هذا كانت دعوتهم عليهم الصلاة والسلام، قال نوح لقومه: ﴿يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾( 6).
وقال هود: ﴿يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾(7 ).
وقال صالح: ﴿قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾( 8).
وقال إبراهيم:﴿اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾( 9).
وقال شعيب: ﴿يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾( 10).
وقال عيسى: ﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ﴾( 11).
وقال محمد ﷺ: « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله »(12).
وهذا هو أول واجب يجب على المكلف أن يشهد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله ، لما صح أن النبي ﷺ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، ... الحديث». وفي رواية: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ». وفي رواية : «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى»(13).
ومن هذه الروايات نعلم أن المراد بالعبادة: هو التوحيد، والمراد بالتوحيد: الإقرار بالشهادتين، والإشارة بقوله «ذلك» إلى التوحيد: وقوله «فإذا عرفوا الله» أي عرفوا توحيد الله، والمراد بالمعرفة: الإقرار والطواعية.
وأئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقب بلوغه، بل يؤمر بالطهارة والصلاة إذا بلغ أو ميز عند من يرى ذلك, ولم يوجب أحد منهم على وليه أن يخاطبه حينئذ بتجديد الشهادتين، وإن كان الإقرار بالشهادتين واجبا باتفاق المسلمين، ووجوبه يسبق وجوب الصلاة، لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك.
وهذا خلافاً لأرباب الكلام من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية ، فقد قال بعضهم: أول واجب على المكلف النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم.
وقالت طائفة: أول واجب القصد إلى النظر الصحيح - القصد عندهم: هو تفريغ القلب عن الشواغل-.
وقالت طائفة أخرى: أول واجب الشك.
وقالت طائفة رابعة: أول واجب المعرفة بالله – والمراد بالمعرفة عندهم: معرفة وجود الله وتفرده بخلق العالم-.، ومجرد المعرفة بالصانع لا يصير به الرجل مؤمناً، بل ولا يصير مؤمناً بأن يعلم أن الله رب كل شيء حتى يشهد أن لا إله إلا الله، ولا يصير مؤمناً بذلك حتى يشهد أن محمداً رسول الله.
وقد أنكر ذلك عليهم السلف، قال أبى المظفر السمعانى: لم يرو أنه ﷺ دعاهم – أي الكفار - إلى النظر والاستدلال وإنما يكون حكم الكافر في الشرع أن يدعى إلى الإسلام فإن أبى وسأل النظرة والإمهال لا يجاب إلى ذلك ولكنه إما أن يسلم أو يعطي الجزية أو يقتل ، ولا يجوز على طريقهم – أي أهل الكلام - الإقدام على هذا الكافر بالقتل والسبي إلا بعد أن يمهل لأن النظر والاستدلال لا يكون إلا بمهلة خصوصاً إذا طلب الكافر ذلك وربما لا يتفق النظر والاستدلال في مدة يسيرة فيحتاج إلى إمهال الكفار مدة طويلة تأتي على سنين ليتمكنوا
من النظر على التمام والكمال وهو خلاف إجماع المسلمين. اهـ(14)
وينبغي على قولهم إذا مات في مدة النظر والمهلة قبل قبول الإسلام أنه مات مطيعاً لله مقيماً على أمره لابد من إدخاله الجنة كما يدخل المسلمون.
ولا شك عندنا أن النظر قد ورد به الأمر في الآيات القرآنية ، فأما إيجابه على كل أحد فلا نسلم به بل ولا نسلم بأنه أول الواجبات، مع التفريق بين النظر الصحيح - فهو المأمور به -، وبين النظر المفضي إلى الباطل - فلا تدل عليه الآيات.
فالذي يلاحظ من القرآن هو أن النظر يجب على من لم يحصل له الإيمان إلا به، فمثال ذلك قول الله تعالى ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾( 15)، فهذه الآية والتي قبلها جاءت بعد قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾( 16). ومثل هذه الآية قوله تعالى ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾( 17).
فعلى هذا لو فرض أن الإنسان احتاج إلى النظر فحينئذ يجب عليه النظر، مثل لو كان إيمانه فيه شيء من الضعف ويحتاج إلى تقوية فحينئذ لابد أن ينظر في آيات الله.
ثم اعلم هداني الله وإياك : أن هذا المسألة – أعني أول الواجبات – مبنية على مسألة أخرى وقع فيها أيضاً الخلاف بين السلف والمتكلمين، وهى مسألة معرفة الله تعالى .
حيث وقع الخلاف في حصول المعرفة بالله تعالى، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر، وهذا قول كثير من المعتزلة والأشاعرة وأتباعهم من أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم.
القول الثاني: أن المعرفة يبتديها الله اختراعا في قلوب العباد من غير سبب يتقدم، ومن غير نظر ولا بحث، وهذا قول كثير من الصوفية والشيعة، ومعنى هذا القول أن المعرفة بالله تقع ضرورة فقط.
القول الثالث: أن المعرفة بالله يمكن أن تقع ضرورة، ويمكن أن تقع بالنظر، وهذا قول جماهير المسلمين.(18)
ثم إنه قد بُنيت على هذه المسألة – أعني أول الواجبات – مسألة أخرى، هي حكم إيمان المقلد – والمراد بالمقلد: هو المؤمن بغير دليل إجمالي ولا تفصيلي - .
فأهل الكلام لما جعلوا النظر أول الواجبات وأصل العلم اختلفوا في حكم من آمن ولم ينظر ويستدل، على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه يصح إيمانه ويكون كافرا.
الثاني: أن إيمانه صحيح ولكنه آثم على تركه النظر والاستدلال.
الثالث: أن يكون مقلدا لا علم له بدينه لكنه ينفعه هذا التقليد ويصير به مؤمنا غير عاص.
وقد خطأ مذهبهم السلف والأئمة ، قال الإمام النووي رحمه الله: والجماهير من السلف والخلف على أن الإنسان إذا اعتقد دين الإسلام اعتقاداً جازماً لا تردد فيه كفاه ذلك وهو مؤمن من الموحدين ولا يجب عليه تعلم أدلة المتكلمين ومعرفة الله تعالى بها خلافاً لمن أوجب ذلك وجعله شرطاً في كونه من أهل القبلة وزعم أنه لا يكون له حكم المسلمين إلا به، وهذا المذهب هو قول كثير من المعتزلة وبعض أصحابنا المتكلمين وهو خطأ ظاهر فإن المراد التصديق الجازم وقد حصل ولأن النبي ﷺ اكتفى بالتصديق بما جاء به ﷺ ولم يشترط المعرفة بالدليل فقد تظاهرت بهذا أحاديث في الصحيحين يحصل بمجموعها التواتر بأصلها والعلم القطعي.أهـ(19)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)سورة محمد : الآية ( 19).
( 2) أخرجه ابن ماجه برقم ( 61)، وصححه الألباني .
( 3) سورة البقرة : الآية ( 21 ).
( 4) سورة الأنبياء : الآية ( 25 ).
(5 ) سورة النحل : الآية ( 36 ).
( 6) سورة المؤمنون : الآية ( 23 ).
( 7) سورة الأعراف : الآية ( 65 ).
( 8) سورة الأعراف : الآية ( 73 ).
( 9) سورة العنكبوت: الآية ( 16).
( 10) سورة العنكبوت: الآية ( 36).
( 11) سورة المائدة: الآية ( 72).
(12) متفق عليه: رواه البخاري برقم ( 6924)، ومسلم برقم ( 20 ) من حديث أبي هريرة رضى الله عنه، والشطر الأول من الحديث تواتر نقله عن النبي ﷺ، فهو مروي عن معاذ بن جبل، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأوس بن أوس الثقفي، والنعمان بن بشير، وطارق بن أشيم، وغيرهم .
(13 ) متفق عليه: رواه البخاري برقم ( 1395)، ومسلم برقم ( 19 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
( 14) الانتصار لأصحاب الحديث ص 62، بتصرف يسير.
( 15) سورة الأعراف : الآية ( 185 ).
( 16) سورة الأعراف : الآية ( 182 ).
( 17) سورة الروم : الآية ( 8 ).
( 18) انظر: درء تعارض العقل والنقل، لشيخ الإسلام/ابن تيمية ( 7/ 352 ) وما بعدها بتصرف.
( 19) شرح النووي على مسلم ( 1/ 210 – 211 ).