*ساعة قبل الوفاة* قبل شهر كنت في مطار الدوحة حيث وصلتني دعوة من مركز عربي للدراسات والبحوث ...
*ساعة قبل الوفاة*
قبل شهر كنت في مطار الدوحة حيث وصلتني دعوة من مركز عربي للدراسات والبحوث اقترب مني شاب يبدو أنه مستعجل ومرتبك وضع حقائبه بجانبي وطلب مني الانتباه لها ليعود بعد دقائق وقطرات الوضوء تتساقط من وجهه سأل هل صلينا المغرب قلتُ نعم..فافترش قطعة قماش أخرجها من حقيبته وقام يصلي...
بعد الصلاة كان الوقت قد أزف لموعد الإقلاع..
كنتُ أسمعه يتمتم: يارب قلب أمي..
لم أشأ أن أقطع عليه ما يفكر فيه..
من حسن الحظ كان مقعده بجوار مقعدي تبيّن لي من خلال كلامه أنه دكتور جراح في نيوزلندا ويزور أمه كل خمسة أشهر رغم بعد المسافات..
في الطائرة بطبيعة طول السفر وحال أكثر المسافرين سألني عن تخصصي وبلدي واسمي...الخ..
ثم قال كيف هي أمك؟
ألا زالت على قيد الحياة؟
متى آخر مرة سمعتها؟
هذا الطبيب الشاب لا بد أن يسمع أمه كل يوم..
كان الأول في ألمانيا على جامعته في تخصصه ورغم كل انشغالاته وأبحاثه لا ينسى أمه..وحتى أنه يرسل لها بما تريد وفوق ما تريد من مقر إقامته..
أخبرني أنه زارها منذ ثلاثة أشهر لكن لأنها مرضت فجأة بأزمة قلبية حجز تذكرة وهرع لإنقاذها...
نظر في الساعة إنها تقرب من العاشرة ليلا ..قال يا الله لقد تأخرت على أمي ..
قال لي:
في مطار كولاند دخلتُ مكتبا للسفريات فأخبروني أن لا مكان في الطائرة المتجهة إلى حيث أريد..
يا إلهي..
ماذا أنتظر؟
لا بد أن أبقى خمس ساعات في انتظار الرحلة القادمة..
أخذت رقم مكتب السفريات وأعدت الاتصال بهم لكنهم رفضوا...
خرجت إلى خارج أرضية المطار أقلب كفا بكف ..يارب قلب أمي..
لقد حققت أعلى نسبة نجاح في تخصصي بدعوات أمي..
لقد حصلت على وضيفة مرموقة بدعوات أمي..
لقد توفقت في حياتي الزوجية بمسلمة غربية في نفس تخصصي ورزقت منها بولدين بدعوات أمي..
كان يحدثني ونحن على بعد خمسة وثلاثين ألف قدم بين السماء والأرض عن قلب أمه الذي ما فتر يحتضنه بدعواته وابتهالاته..
يعيد تسجيلاتها ليسمع آخر كلماتها وكأن كلماتها قوة له في مواجهة الحياة لكنه كان ينهار وهو يرسم خريطة الساعة الأخيرة..
يقول حاولت مرارا في أن تعيش أمي معي لكنها آثرت أن تكون بجانب أخواتها وأهلها ورفيقات طفولتها وجيرتها..
تنهد ثم قال :
لقد شعرت منذ أسبوع أنها مريضة ولم تشأ أن تبوح لي بمرضها خوفا من قلقي..
وفي اتصالها بالأمس أخبرتني أنها تريد أن تراني قبل الوداع...
يالِله..ما أقسى كلمة الوداع على قلوب المحبين..
أخفيت دمعة نزلت من عيني وقلت له لا بأس عليك ستصل وترى أمك وعسى الله أن يمن عليها بالشفاء..
لكنْ في نفس الوقت تكسرت مجاديفي وأنا أتخيل مشاهد العقوق التي صدمتني ولا زالت تلاحقني رغم مضي ثلاث سنوات على مغادرتي صنعاء..
تخيلت تلك المرأة التي طرقت باب بيتنا وعندما فتحت لها الباب بادرتني بورقة وقالت هذا رقم ولدي إنه يمتلك عمارة وتخير لزوجاته وأولاده أرقى الشقق وأنزلني شقة لا تسكنها الحيوانات..
وتلك المرأة التي اتصلت بي قائلة إن ولدي صيدليا ولي سنة كاملة أعاني من أوجاعي لم يلتفت إلي أو يحضّر لي أدويتي..
وتلك المرأة التي اشتكت من ولدها الذي لا يرد على اتصالها ولأنه القانوني والمحامي الشهير لا يوجد لديه وقت لسماعها وحل مشاكلها..
كنت أقول لكل واحدة وماذا عساني أن أفعل يا أماه..هل لأني أرتقى منبرا ويقصد مسجدي أهل صنعاء وأصبحت معروفا أقدر في حل كل مشاكل العقوق...
عشرات الأمهات لو كتبت عن كل واحدة مضى زماني في الكتابة عن العقوق..
قطع تفكيري بقوله:
خمس ساعات لا أستطيع الانتظار في مطار كولاند..
الجو المتقلب في كولاند جعل جسمي يتجمد..
كنت أهيم على وجهي من مرفق إلى مرفق ويدي على قلبي..
قلت لأمي لماذا لم تخبريني قبل أسبوع...سأتأخر في هذا الوقت الحرج..
قالت: *لا بأس يكفيني منك ساعة قبل الرحيل..*
أنا بحاجتك لا تتأخر يا سندي..
جاءني اتصال مفاجئ رفعت التلفون وإذا بها موظفة مكتب السفريات تقول لي حظك جميل لقد اعتذر أحد المغادرين عن السفر وبقي مقعده شاغرا..
أسرع لا تتأخر..
أسرعتُ ويدي على قلبي ..ولساني يتمتم: قلب أمي...
قلتُ لعله أيضا دعاء والدتك ..
إنها في شوق للقياك..
أخبَرني عن ذكرياته معها وكيف أحسنَت تربيته بعد وفاة والده وكيف باعت بعض ما تملك ليسافر....
آه..
ما أجمل قلب الأم..
حنانها..
حبها..
خوفها..
فرحها..
كلها مشاعر لا توصف في كل محطة لولدها وصانع أحلامها..
هبطت الطائرة واختلط الركاب فلم أره بعدها..
أرسل لي بعدها: *إنها ساعة واحدة ..فقط..* ولو تأخرت خمس ساعات في مطار كولاند فاتني عمري..
وصلتُ إلى أمي ..
سلمتُ عليها
كانت تودع دنيانا..
قبّلتُها..
ناغتني بكلماتها العذبة..
الحمد لله أنك لم تتأخر يا ولدي..
*كنتُ أريدك لهذه الساعة..*
تمالكتُ نفسي وتشجّعت لأدخل عليها كلمات السرور والأمل والرجاء ..لكنها قالت..:
*لا أمل في الحياة بعد هذه الساعة..*
ضغَطَت على كفي بكفها ثم ابتسمت ابتسامة جميلة ما رأيت أجمل من تلك الابتسامة ثم تمتمت بدعاء قصير ولم تفتح عينها بعد ذلك..
حزنتُ لمصابه لكني عجبتُ من بره بها وعجبتُ من توقيتها لسفره..
إنه قلب الأم..💔 قلب الأم الذي إذا انكسر لا ينكسر إلا عليك...
بِرّ بها فما تدري متى تحينُ الساعة الأخيرة..
*عامر الخميسي*
قبل شهر كنت في مطار الدوحة حيث وصلتني دعوة من مركز عربي للدراسات والبحوث اقترب مني شاب يبدو أنه مستعجل ومرتبك وضع حقائبه بجانبي وطلب مني الانتباه لها ليعود بعد دقائق وقطرات الوضوء تتساقط من وجهه سأل هل صلينا المغرب قلتُ نعم..فافترش قطعة قماش أخرجها من حقيبته وقام يصلي...
بعد الصلاة كان الوقت قد أزف لموعد الإقلاع..
كنتُ أسمعه يتمتم: يارب قلب أمي..
لم أشأ أن أقطع عليه ما يفكر فيه..
من حسن الحظ كان مقعده بجوار مقعدي تبيّن لي من خلال كلامه أنه دكتور جراح في نيوزلندا ويزور أمه كل خمسة أشهر رغم بعد المسافات..
في الطائرة بطبيعة طول السفر وحال أكثر المسافرين سألني عن تخصصي وبلدي واسمي...الخ..
ثم قال كيف هي أمك؟
ألا زالت على قيد الحياة؟
متى آخر مرة سمعتها؟
هذا الطبيب الشاب لا بد أن يسمع أمه كل يوم..
كان الأول في ألمانيا على جامعته في تخصصه ورغم كل انشغالاته وأبحاثه لا ينسى أمه..وحتى أنه يرسل لها بما تريد وفوق ما تريد من مقر إقامته..
أخبرني أنه زارها منذ ثلاثة أشهر لكن لأنها مرضت فجأة بأزمة قلبية حجز تذكرة وهرع لإنقاذها...
نظر في الساعة إنها تقرب من العاشرة ليلا ..قال يا الله لقد تأخرت على أمي ..
قال لي:
في مطار كولاند دخلتُ مكتبا للسفريات فأخبروني أن لا مكان في الطائرة المتجهة إلى حيث أريد..
يا إلهي..
ماذا أنتظر؟
لا بد أن أبقى خمس ساعات في انتظار الرحلة القادمة..
أخذت رقم مكتب السفريات وأعدت الاتصال بهم لكنهم رفضوا...
خرجت إلى خارج أرضية المطار أقلب كفا بكف ..يارب قلب أمي..
لقد حققت أعلى نسبة نجاح في تخصصي بدعوات أمي..
لقد حصلت على وضيفة مرموقة بدعوات أمي..
لقد توفقت في حياتي الزوجية بمسلمة غربية في نفس تخصصي ورزقت منها بولدين بدعوات أمي..
كان يحدثني ونحن على بعد خمسة وثلاثين ألف قدم بين السماء والأرض عن قلب أمه الذي ما فتر يحتضنه بدعواته وابتهالاته..
يعيد تسجيلاتها ليسمع آخر كلماتها وكأن كلماتها قوة له في مواجهة الحياة لكنه كان ينهار وهو يرسم خريطة الساعة الأخيرة..
يقول حاولت مرارا في أن تعيش أمي معي لكنها آثرت أن تكون بجانب أخواتها وأهلها ورفيقات طفولتها وجيرتها..
تنهد ثم قال :
لقد شعرت منذ أسبوع أنها مريضة ولم تشأ أن تبوح لي بمرضها خوفا من قلقي..
وفي اتصالها بالأمس أخبرتني أنها تريد أن تراني قبل الوداع...
يالِله..ما أقسى كلمة الوداع على قلوب المحبين..
أخفيت دمعة نزلت من عيني وقلت له لا بأس عليك ستصل وترى أمك وعسى الله أن يمن عليها بالشفاء..
لكنْ في نفس الوقت تكسرت مجاديفي وأنا أتخيل مشاهد العقوق التي صدمتني ولا زالت تلاحقني رغم مضي ثلاث سنوات على مغادرتي صنعاء..
تخيلت تلك المرأة التي طرقت باب بيتنا وعندما فتحت لها الباب بادرتني بورقة وقالت هذا رقم ولدي إنه يمتلك عمارة وتخير لزوجاته وأولاده أرقى الشقق وأنزلني شقة لا تسكنها الحيوانات..
وتلك المرأة التي اتصلت بي قائلة إن ولدي صيدليا ولي سنة كاملة أعاني من أوجاعي لم يلتفت إلي أو يحضّر لي أدويتي..
وتلك المرأة التي اشتكت من ولدها الذي لا يرد على اتصالها ولأنه القانوني والمحامي الشهير لا يوجد لديه وقت لسماعها وحل مشاكلها..
كنت أقول لكل واحدة وماذا عساني أن أفعل يا أماه..هل لأني أرتقى منبرا ويقصد مسجدي أهل صنعاء وأصبحت معروفا أقدر في حل كل مشاكل العقوق...
عشرات الأمهات لو كتبت عن كل واحدة مضى زماني في الكتابة عن العقوق..
قطع تفكيري بقوله:
خمس ساعات لا أستطيع الانتظار في مطار كولاند..
الجو المتقلب في كولاند جعل جسمي يتجمد..
كنت أهيم على وجهي من مرفق إلى مرفق ويدي على قلبي..
قلت لأمي لماذا لم تخبريني قبل أسبوع...سأتأخر في هذا الوقت الحرج..
قالت: *لا بأس يكفيني منك ساعة قبل الرحيل..*
أنا بحاجتك لا تتأخر يا سندي..
جاءني اتصال مفاجئ رفعت التلفون وإذا بها موظفة مكتب السفريات تقول لي حظك جميل لقد اعتذر أحد المغادرين عن السفر وبقي مقعده شاغرا..
أسرع لا تتأخر..
أسرعتُ ويدي على قلبي ..ولساني يتمتم: قلب أمي...
قلتُ لعله أيضا دعاء والدتك ..
إنها في شوق للقياك..
أخبَرني عن ذكرياته معها وكيف أحسنَت تربيته بعد وفاة والده وكيف باعت بعض ما تملك ليسافر....
آه..
ما أجمل قلب الأم..
حنانها..
حبها..
خوفها..
فرحها..
كلها مشاعر لا توصف في كل محطة لولدها وصانع أحلامها..
هبطت الطائرة واختلط الركاب فلم أره بعدها..
أرسل لي بعدها: *إنها ساعة واحدة ..فقط..* ولو تأخرت خمس ساعات في مطار كولاند فاتني عمري..
وصلتُ إلى أمي ..
سلمتُ عليها
كانت تودع دنيانا..
قبّلتُها..
ناغتني بكلماتها العذبة..
الحمد لله أنك لم تتأخر يا ولدي..
*كنتُ أريدك لهذه الساعة..*
تمالكتُ نفسي وتشجّعت لأدخل عليها كلمات السرور والأمل والرجاء ..لكنها قالت..:
*لا أمل في الحياة بعد هذه الساعة..*
ضغَطَت على كفي بكفها ثم ابتسمت ابتسامة جميلة ما رأيت أجمل من تلك الابتسامة ثم تمتمت بدعاء قصير ولم تفتح عينها بعد ذلك..
حزنتُ لمصابه لكني عجبتُ من بره بها وعجبتُ من توقيتها لسفره..
إنه قلب الأم..💔 قلب الأم الذي إذا انكسر لا ينكسر إلا عليك...
بِرّ بها فما تدري متى تحينُ الساعة الأخيرة..
*عامر الخميسي*