إليك نابغة الخطباء.. " تنزيه الأنظار بذكريات عصام العطار" كانت خطبة ملهبة للمشاعر يوم أن ...

إليك نابغة الخطباء..

" تنزيه الأنظار بذكريات عصام العطار"


كانت خطبة ملهبة للمشاعر يوم أن وقفتَ أمام الحشود وأنت لم تجازو العشرين فسماك حينها الطنطاوي "نابغة الخطباء " لقد كان لقبا مفصلا عليك ودخلت بتلك الخطبة الجماهيرية بوابة التاريخ..
كل موقف في حياتك يستحق أن يسطر بمداد من ذهب لتعيه الأجيال ويبقى كما هو ساطعا أمد الدهر..
حقا أنت أمة لوحدك..
صنعت في طريق الظلام مصباحا للسالكين سيبقى يضيء ما أشرقت شمس وتلألأ قمر..

في عام 1955م عقد مؤتمر في دمشق ضم كل شيوخ سورية الكبار وكل السياسيين السوريين الإسلاميين وكل الجمعيات الثقافية الإسلامية والهيئات والملتقيات وكان من أضخم المؤتمرات التي عرفتها دمشق، وفي هذا المؤتمر اختير عصام العطار بالإجماع أمينا عاما لهيئة المؤتمر الإسلامي وتسامع به الناس ولمع ذكره في الأقطار وأصبح من هو عصام العطار..

كان العطار خطيبا لمسجد جامعة دمشق، المسجد الذي يؤمه الآلاف يتشوقون كل جمعة لنابغة الخطباء الذي كان يدوي بخطبه أرجاء العالم الإسلامي وما كان حينها خطيب في دمشق يهز أعواد المنابر كما يفعل العطار فهو من نوادر الزمن حتى أن الطنطاوي زوّجه ابنته بنان بعد إلقائه إحدى الخطب إعجابا ببلاغته وقوة كلماته وحسن أسلوبه وبراعة بيانه..

كان العطار يحرك مدينة دمشق كلها بخطبه فإذا احتاج أهل دمشق لشيء أخبروه وكان يحف به الآلاف من العلماء وطلبة العلم ورجال الدولة والكبار ويتواضع بين يديه رجال العلم والفكر وحسبك أن يحف به مصطفى السباعي ومصطفى الزرقاء والطنطاوي والمبارك وأغلب علماء دمشق..وعرضت عليه بعد ذلك المناصب والوزارات فرفضها ليبقى في سلك واحد وهو سلك الدعوة إلى الله واحتل لقب خطيب دمشق الأوحد لعقود..


لقد كنتَ عصاميا كوالدك العالم الفقيه الجهبذ الذي كان رئيساً لمحكمة الجنايات في يوم من الأيام، وكان من مناصري خليفة المسلمين السلطان عبد الحميد، وكان محبا للفروسية عاشقا لها كما عشتَ أنت عاشقا لصهوات المنابر، وقد شابهتَه في كثير من محطات حياتك "ومن شابه أباه فما ظلم " لقد ثرتَ ضد الظلم كما ثار هو وحاولوا اغتيالك مرات كثيرة كما حُكِم عليه هو بالإعدام، وهاجرت من البطش والتنكيل إلى ديار الغرب كما هاجر هو إلى الاستانة، وعاش سنوات بين القبائل العربية في جبل الدروز كما عشتَ أنتَ في مدينة آخن..

لحظات صعبة وذكريات مؤلمة عندما نُفي والدك أخيراً إلى استانبول أثناء الحرب العالمية الأولى، لقد كان يحفظ سيرة ابن هشام عن ظهر قلب كما تحفظ انت ألفية ابن مالك والزبد، وكان قوي الذاكرة وحلو الحديث، وشاعراً وكذلك كنت أنت.
وأمه_ جدتك_ كانت سيدة صالحة على قدر كبير من الفهم والتدين، توفيت وهي تقول :
ونفس عصام سوّدت عصاما
وعلّمته الكرّ و الإقداما

ذكريات تستحق القراءة والتأمل أيها العصامي المجيد وقد وقفتُ مرارا وأنا أسبر أغوار حياتك المليئة بالعبر فاحترت ماذا أكتب وبماذا سيأتي ابن الثلاثين إذا تحدث عن حياة وعطاء وبذل دام تسعين سنة ..

لا زلتَ تحمل الشوق الذي برّح بقلبك وحفر ندوبا من الألم..
الشوق للشام جنة الدنيا وبستان الدهر وزهرة التاريخ..
لازلت تشتاق لدمشق الجمال التي كانت تحكم العالم، وتسوس الأرض، ولازال يصب في قلبك ماء الحياة من"بَرَدى" وتشم الهواء العليل من سفح " قاسيون" وتقطف من زهر" الغوطة" لا زلت وفيا لأطلال الديار ومعاهد الأتراب..
ألستَ أنت القائل:
يـا شـامُ يـا شامُ يا أرضَ المحبّينا هـانَ الـوفاءُ وما هانَ الوفا فـينا
نحـيا على الـبعد أشـواقاً مـؤرقـة
لا الوصلُ يدنو ولا الأيام تسلـينا
إنّا حملناك في الأضـلاع عـاطـفـة
وصُـورةً مِـنْ فتون الحسن تسبينا

كنتَ ولا زلت تتألم من الواقع المزري الذي أنهك بلاد الشام وصيّرها جرحا نازفا، لقد كانت كلماتك مؤلمة وأنت تتأوه:
يا شـامُ جـرحُكِ في قـلبي أكابـده
دمـاً سخيـاً وآلامـاً أفـانيـنـا
فلله ما فعل الشوق بقلبك وما رسم الحنين بفؤادك وما صنعت الذكريات بخاطرك الملهوف ومشاعرك المرهفة؟

أصيب العطار بالشلل في منفاه في بروكسل فكتبت إليه زوجته في رسالة طويلة :".. لا تحزن يا عصام، إنك إن عَجَزتَ عن السَّير سِرتَ بأقدامنا، وإن عَجَزتَ عن الكتابة كتبتَ بأيدينا"..
وكانت نعم الزوجة والخل الوفي ولحقته إلى ألمانيا..

ذات مساء قبل إحدى عشرة سنة كانت مذكرات علي الطنطاوي بين يدي أطالعها وأحتسي فناجين القهوة فتسمّرت عيني وبردت القهوة بين يدي وتعكر مزاجي والتاع خاطري وبقيت مدهوشا فلم يقطع عليّ دهشتي إلا أذان الصبح..
كان أديب الفقهاء يحكي قصة تُبكي الصخور المتحجرة قبل القلوب المرهفة ويستنطق الجماد الصلب قبل المتحرك الرطب..
يا لله ..

لقد كان يقص نبأ مقتله بمقتل ابنته بنان، ويحكي خبر مصرعه بمصرعها!
كان يذكرها والدّمع يملأ عينه, والخفقان يعصف بقلبه, كان يذكرها أول مرة و ما غابت عن ذهنه لحظة،
أخبر أنه كان يجد مأتمها في كل مأتم وخبر وقاتها في كل خبر وفاة..
كتبَ عنها في الذكريات وقد مرَّ على استشهادها أربع سنوات ونصف، وكان لا يصدِّق بعقله الباطن أنها ماتت!

كان يغفل أحيانا فيظن إنْ رنَّ جرس الهاتف، أنها ستُخبره على عادتها بأنها بخير؛ ليطمئن عليها، تكلِّمُه مستعجلة، تُرصِّفُ ألفاظها رصْفاً، كأنها تحس أن الرَّدَى لن يُبْطئ عنها !
لقد كان دائما يتذكر عندما اقتحم عليها المجرم البيت! ثم أطلق عليها خمس رصاصات ! تلقَّتْها في صدرها وفي وجهها !كأن فيها بقية من أعراق أجدادها الذين كانوا يقولون :
ولَسْنا على الأَعقابِ تَدْمَى كُلُومُنا ** ولكن على أَعقابنا يَقْطُرُ الدَّمُ
ثم داس بقدميه النجِستين عليها وهي تتخبط في دمائها ليتوثَّق من موتها !

لقد كلَّمها قبل الحادث بساعة واحد !
سألها :أين عصام ؟
قالت :« خَبَّرُوه – يعني السلطات الألمانية - بأن المجرمين يريدون اغتياله، وأبعدوه عن البيت ، قال: وكيف تبقين وحدكِ ؟ قالت : بابا لا تشغل بالك بي، أنا بخير
ثِقْ والله يا بابا أنني بخير ، إن الباب لا يُفْتَح إلا إنْ فتحتُه أنا ، ولا أفتح إلا إنْ عرفتُ من الطارق وسمعتُ صوته ، إنْ هنا تجهيزات كهربائية تضمن لي السلامة ، والمسلِّم هو الله .
ما خطر على بالها أن هذا الوحش سيُهدِّد جارتها بمسدسه حتى تكلمها هي ، فتطمئن ، فتفتح لها الباب.

ومرّت الساعة ... فقرع جرس الهاتف ... وسمِع الطنطاوي من يقول : كَلِّمْ وزارة الخارجية..

فكلَّمه رجل أحس أنه يتلعثم ويتردَّد ، كأنه كُلِّف بما تعجز عن الإدْلاء به بُلَغاء الرجال ، بأن يخبره.. كيف يخبره؟
ثم قال : ما عندك أحدٌ أكلِّمه ؟ وكان عنده أخوه . فكلّمه ، وسمع ما يقول ورآه قد ارتاع مما سمع ، وحار ماذا يقول لوالدها المسن العجوز الذي عركته الأيام برحاها ؟
وأحس أن المكالمة من ألمانيا ، فسأل : هل أصيب عصام بشيء؟ قال أخوه : لا ، ولكن .... قال : ولكن ماذا ؟؟ قال : بَنَان ، قال : مالها ؟؟ قال أخوه ، وبسط يديه بسط اليائس الذي لم يبق في يده شيء!....
وفهم الطنطاوي وأحس كأنَّ سكيناً قد غُرِس في قلبه ،ولكنه تجلَّد ، والنار تضطرم في صدره : حدِّثْني بالتفصيل بكل ما سمعتَ. فحدَّثَه ...
وشعر كأن المصيبة عَقَلَتْ لسانه, وهدَّتْ أركانه، و أضاعت عليّه سبيل الفكر!
لقد أغلق بابه وجعل يعتذر للزائرين فترة من الزمن ثم فتح بابه ولكن لم يستطع أن يتحدث في الموضوع أبدا..
كان يتكلم في كل موضوع إلا الموضوع الذي يأتي الناس من أجله!
لقد كان يتصور حياتها كلها مرحلة مرحلة, و يوما يوما، تمر أمامه
متعاقبة كأنها شريط يمر أمام عينيه.


أما عصام ففي ذلك اليوم الدامي رفع الهاتف ليطمئن على زوجته فرد عليه رجل البوليس، فأغلق السماعة ثم ضرب الأرقام بعناية مرة أخرى فرد عليه الرجل ذاته وسمع كلام رجل مضطرب فشعر بأمر خطير في البيت فطلب منه أن يكلم زوجته، فقال له رجل البوليس والحشرجة تقطع عباراته: كن شجاعا كما يجدر بقائد كبير مثلك يا أستاذ عطار فأنت بحاجة إلى أقصى درجات إيمانك وشجاعتك لتتحمل هذا النبأ !!
إنك لن تستطيع أن تكلم زوجتك الآن ولا بعد الآن ..لقد قتلها أعداء الإنسانية .."

ولك أن تتخيل موقفه حينها..
موقف الغريب المشرد المريض الذي يُلاحق فتقتل زوجته ولو أراد أن يعيش مترفا لكن له ذلك كيف لا وهو الذي استقبله الملوك وخاطبه الرؤساء وخطب ودّه القادة لكنه أبى إلا أن يعيش للإسلام ولأجل رفع راية الإسلام بعيدا عن الجاه والمناصب والأوسمة..

توطدت بين أديب الفقهاء ونابغة الخطباء حبال وصل إلى الأبد: جراحٌ بجراح، ودموعٌ بدموع،وذكريات بذكريات، ودعواتٌ بدعوات.
ولم تندمل قطّ جراح علي الطنطاوي لفقد بنان، ولم تندمل جراح نابغة الخطباء ولم يرقأ دمعه، وبقي علي الطنطاوي يتأوه لتلك التذكريات حتى لحق بربه وقد كان حزنه يتجدد حتى في الأعياد وقد كتب في أحد الأعياد:

« أنا أكتب هذه الحلقة يوم العيد. ما على ألسنة الناس إلا التهنئات فيها الأمل الحلو، وما في قلبي إلا ذكرياتٌ فيها الألم الـمُرّ.. فأنَّىَ لي الآن، وهذا يومُ عيد، أنْ أقوم بهذا الذي كنتُ أراه واجباً عليّ ؟
....

كيف أصل إلى القبر الثاوي في مدينة (آخن) في ألمانيا، في مقبرة لا أعرف اسمها ولا مكانها ؟
ما كان يخطر في بالي يوماً أن يكون في قائمة مَنْ أزور أجداثَهم: بِنْتي!!
ويا ليتني استطعتُ أن أفديَها بنفسي، وأن أكون أنا المقتولَ دونها؟
وهل في الدّنيا أبٌ لا يفتدي بنفسه بِنْتَه ؟ إذن لـمُتُّ مرّة واحدة ثم لم أذُق بعدها الموت أبداً !
بينما أنا أموت الآن كل يوم مرّة أو مرّتين، أموت كلّما خطرَتْ ذكراها على قلبي! »


يا لجراح الأب المكلوم الذي هدته الأوجاع وحاصرته الأسقام وأمضته نوبات الفقد وقد كان في أيّامه الأخيرة، وهو في غرفة العناية المركّزة يذهب بمخيلته بعيدا بين الحضور والغياب، كان يُحِسّ بكل ألم مَن يحفُّون بسريره من بناته وأصهاره وخُلَّصِ إخوانه، ويجول بعينيه الضعيفتين بينهم وكأنه يفتقد بينهم شخصًا حبيبا لا يراه ..
وكان ذاك الأديب المصقع الذي أنصتت له الدنيا ردحا من الزمن يُرمز إلى عواده رمزًا واضحاً إلى بنان، ولا يُسعِفُه اللسان، وارتفعت يدُه لتعانق حفيده «أيمن» ابن بِنْتَه الشهيدة وقد كان بجانب رأسه- وقد حضر إليه من ألمانيا زائرا مواسيا..

ثمّ سقطت اليد الواهنة الضعيفة النحيفة على السرير، وافْترَّتْ شفتاه عن ابتسامة ممزوجة بالحزن والسرور وكانت لحظة وداع أليمة عبر عنها العطار تعبيرا بليغا وهو يبث حزنه بين السطور يكاد ينهد لها الجبل الراسي والصخر القاسي..

عاش العطار شريدا غريبا عن دياره ووطنه وأهله وعشيرته يقول مخاطبا زوجته يرثيها:

عِشْنا شريدَيْن عن أهلٍ وعن وطنٍ ملاحماً من صراع النور والقِيَمِ
الكيد يرصدنا في كل مُنْعطَفٍ والموت يرقبنا في كل مُقْتحمِ

ما أصعب أن تعيش مرتقبا الموت منتظرا الرصد، حولك العيون والجواسيس تنتظر اليوم أو غدا هجومهم عليك..
لقد عاش عصام العطار يعاني من التضييق والحصار وقد عرف غياهب السجون والمعتقلات وحر القيود والسلاسل ولم يثنه ذلك طرفة عين عن مواصلة الطريق..
وتنقّل بين دول عربية باحثا عن ملجأ بعد أن ضاقت به سوريا فكانت ألمانيا هي مستقره وفيها أصيب بالشلل فاحتالت زوجته للحاق به ولم تدر المسكينة أن الموت يترصدها هناك ولكن صنعت بصمة قبل رحيلها بتأسيسها المركز الإسلامي النسائي في " آخن" ومؤلفاتها التي بقيت خالدة بعدها..


أذكرُ والدي عندما كنت صغيرا ما جاوزت حينها السابعة وهو يردد في المجالس عبارات لخطيب الدنيا المصقع عبدالحميد كشك في تلك السنة التي توفي فيها كشك وقد كان والدي يُعرّف الناس به ويتحدث عن سيرته في المجالس ومما كان ينقله عن كشك" يا حافظ الأسد يا حاكم سوريا يا حافظ الأسد..
لا أنت حافظ..ولا أبوك أسد ..
امرأة مسلمة تقتلها المخابرات...."
وقد كان كشك يصدع من منبره بقصة اغتيال بنان الطنطاوي تلك القصة الأليمة التي هزت ضمير الإنسانية حينها..
فكان يروق لوالدي أن يذكر تلك القصة مرددا ما يقوله كشك ومقلدا له في نبرته..
كنتُ حينها صغيرا لكن أعي ما يقول الناس وأحفظ ما يرددون وتمر الأيام وأدخل الجامعة ويشاء ربي أن أتصفح "الذكريات" وإذا بتلك المقتولة هي ابنة علي الطنطاوي_ الذي عشقتُ كتبه من الصغر وكان كتابه "تعريف عام بدين الإسلام" هو أبرز كتب مكتبة والدي_ وزوجة الداعية عصام العطار نابغة الخطباء وسليل أرباب العلم وخزانة الأدب وسحبان المنابر وسيف الحق المصلت، الرجل الذي عاش عظيما في مبادئه، وزوجا وفيا، وأبا حانيا زكيا، ومجاهدا صنديدا..وجسورا مناضلا عنيدا ..

قتلوها ليقتلوا زوجها معنويا فيموت ببطء ..وقد قال حينها مَلِكٌ عربيٌّ لمسؤولٍ كبيرٍ جدًا في سوريا: نحنُ نفهم أن تقتلوا عصام العطار، أما أن تقتلوا زوجته...! قال المسؤول الكبير في ذلك الحين:

نحن لم نقتل عصام العطار كما أردنا، ولكننا أصَبْناهُ في مقتل.. لقد قَطَعْنا بقتل زوجته بنان يده ورجله، ولن يستطيع بعدها أن يتحرك كما يتحرك، وأن يعمل كما يعمل".

لكن هيهات لنابغة الخطباء أن يتوقف فقد كان منارة أدب وعلم في بلاد الغرب تشع في الطريق ما كان لها أن تخمد أو تنطفئ..


فارقتَ الشام وقلبك يتقطع أسفا على فراقها وما كنت تتخيل يوما ما أنك ستحن إلى مراتع صباك..ومغاني طفولتك..

سقى الله أرض الغوطتين وأهلها
فلي بجنوب الغوطتين شجونُ
وماذقت طعم الماء إلا استخفّني
إلى بَرَدى والنيربين حنينُ

إيه لتلك الذكريات الغضة لقد حن حمام الأيك شوقا لمسامرتك وبكاك "بَرَدى" لفقدك فهذه دموعه تسفح سفحا، وذبل زهر الغوطتين وياسمينها حزنا على بعدك..
لقد حركت المشاعر وألهبت العواطف وأنت تردد في مسمع الدهر:

هَلْ حَنَّتِ الوُرْقُ شَوْقاً عِنْدَ غَيْبَتِنا...كَما حَنَنَّا وَهَلْ هَاجَتْ شَجِيِّينا

وَهَلْ بَكَى «بَرَدَى» أَمْ جَفَّ مَدْمَعُهُ...لِمَا بَكَى مِنْ تَبارِيحِ المَشُوقِينا

وَهَلْ رَأَتْ في دُروبِ الخُلْدِ «غُوطَتُنَا»...وفي خَمائِلِهِ في الأَهْلِ سَالِينا


أين منكَ دمشق التي تغنيت بجمالها الفاتن، وهمت في ياسمينها الفواح، وشربت من مياهها العذبة، واستنشقت نسيمها العليل، وعشت في أحيائها الوادعة وترددت على مساجدها العامرة، وخلّدتَ ذكراك في جامعتها العتيقة..؟
بوجهِ دمشقَ يكتملُ الجمالُ
ويسمو في مراتبهِ الجمالُ

دمشق التي كانت يوما ما تاج العواصم وياسمين الشام وزهرة فاتنة مياسة تحوي من الدنيا كل فن ..
دمشق التي ما شيء في الجنة إلا وفي دمشق مثله ..
يكفيك اليوم أن تردد أيها النابغة ما قاله نزار:
فرشتُ فوق ثراكِ الطاهر الهدبا
فيا دمشق لماذا نبدأ العتبا؟
حبيبتي أنتِ فاستلقي كأغنيةٍ
على ذراعي ولا تستوضحي السببا
يا شامُ إن جراحي لا ضفاف لها
فمسّحي عن جبيني الحزن و التعبا

كم قطّعت الغربة قلبك فقلت في ذلك الأشعار وكتبت في ذلك الدواوين وكم كان يطرب الدكتور سلمان العودة وهو يسمعنا من قصائدك فقد حفظ سلمان أول ما حفظ من قصائدك وهو فتى بعد العاشرة بقليل وتعلق بكتاباتك وقصائدك وخطبك حتى لكأنك شاركت في صياغة شخصيته وقد داهمه شاب بخبر مفاجئ وهو فندق جراند بأسطنبول قائلا له: هل تدري من يسكن في الغرفة المجاورة لك ؟
إنه عصام العطار..
وقد كان جدار واحد بينكما فقام يركض للقائك ..
وقد شابَهَت بعضُ فصول حياته فصولا من حياتك فلقي الكثير من مآسي السجون والاغتراب وفقد الزوجة والولد والحبيب..

لقد كان لقاء العودة بك لقاء مفاجئا لكنه احتفل بك وخرج يعلن أنه سهر معك ليلة كاملة أسمعته فيها قصائد الشرقيين والغربيين من المتنبي إلى غوته..وأنه أنس بك بعد بحث عنك دام عقودا من الزمن ولكأنه يشعر بأنس اللقاء إلى الآن وما أشبه الليلة بالبارحة!!

من يستطيع من القراء أن يحبس دمعه وهو يردد معك:

جُرْحٌ مِنَ البُعْدِ يَا أُمَّاهُ قَرَّحَهُ ... مَرُّ السِّنِينَ وَلَمْ يَلْقَ المُدَاوِينا

جُرْحٌ حَمَلْنَا كِلانَا في جَوَانِحِنَا...يَكادُ في عَصَفَاتِ الشَّوْقِ يُرْدِينا

يا أُمِّ سَوْفَ يَعُودُ الشَّمْلُ مُجْتَمِعاً...لا خَيَّبَ اللهُ في اللُّقْيَا أَمَانِينَا

فَإِنْ قَضَى اللهُ أَلاَّ نَلتَقِي فَغَداً ... في ظِلِّ رَحْمَتِهِ يَحْلُو تَلاقِينا

سلام الله عليك يا نابغة الخطباء ما احتشدت المحافل وتحركت الجحافل، وما صدحت الحناجر بكلمة الحق على المنابر..

عامر الخميسي
١٣/ ٢/ ٢٠٢٠م