تأملات (1) أنا والقرآن الكريم هل ضاق صدرك يومًا بما فيه؟ فأحسست حينئذٍ بهمٍ وغمٍ لا حدَّ لهما، ...

تأملات (1)
أنا والقرآن الكريم
هل ضاق صدرك يومًا بما فيه؟ فأحسست حينئذٍ بهمٍ وغمٍ لا حدَّ لهما، وشَعُرت وكأن الأرض لا تسعك، والسماء من فوقك قد انطبقت عليك أو أوشكت .... هل شَعُرت ساعتها أن وقتك لا بركة فيه؟ فقد يستغرق منك العمل البسيط الكثير من الجهد والوفير من الوقت. هل جال بخاطرك ما سرُّ تغير زوجتي تجاهي؟ وما السبب فيما تجد في نفسك من قسوة في القلب، وجمود في الدمع، وجفاف في العاطفة، وبرود في المشاعر؟ هل بحثت يومًا عن سر تغير سلوكات أبنائك إلى ما لم تكن تألفه من ذي قبل؟ فالابن اللطيف المهذب ليس كما ألفته، وهو هو غيره عن ذي قبل، وابنتك وردة البيت وزهرته قد لاحظتها وهي ترفع صوتها فوق صوت أمها، ولم تكن ترى ذلك في بنيك ولا بناتك ....
لم أسألك فيما سبق لأتتبع العورات، عفا الله عني وعنك، لا ولا لأفتش عن النقص والزلات، لا ولا لأعري الذات أمام الذات، لا ولست ممن يسوق الكلمات بغير عبر أو عظات، ولكنني يا أخي أردت أن آخذك معي في جولة في أعماق الذات بل في أعماق الأعماق.
وإني إذ أذكر هذا وغيره .... فلأنني قد وجدته في نفسي مرات ومرات .... وجدت ضيقًا في الصدر أحيانًا، وهمًا في النفس أحيانًا، وقلة بركة في الوقت وسوء خلق لدى الأبناء في أحايين أخرى .... لكنني وجدت الفرج كله، والراحة جميعها، والسعادة بكل صورها مع آيات من القرآن الكريم أرددها مرة تلو الأخرى، كيف لا وأنا أسمع ربي يقول -جل شأنه -:"الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" الرعد: 28 وقد ذكر ابن كثير في تفسيره قوله: "حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ يقول: سكنت إلى ذكر الله واستأنست به ".
فكم من السكينة التي يتركها القرآن في القلوب، وكم من الطمأنينة التي تلقي بظلالها على النفوس القلقة والأرواح النافرة، وكم من الانشراح والهدوء والراحة التي تجدها وأنت في معية الله ومع كلماته المباركة، تنزل النور على القلب الممتلئ بدنس السيئات ورجز الخطايا، ويبشر بالخير كله، وبالنجاة من هم الدنيا وعذاب الآخرة، واسمع إن شئت قول الله تعالى: " إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا " الإسراء:9 قال الطبري مفسرًا هذه الآية: " وقوله: "وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِين" يقول: ويبشر أيضا مع هدايته من اهتدى به للسبيل الأقصد الذين يؤمنون بالله ورسوله، ويعملون في دنياهم بما أمرهم الله به، وينتهون عما نهاهم عنه بأن لَهُمْ أجْرًا من الله على إيمانهم وعملهم الصالحات، كَبِيرًا: يعني ثوابا عظيما، وجزاء جزيلا وذلك هو الجنة التي أعدّها الله تعالى لمن رضي عمله".
لست فقط أتحدث هنا عما يحدثه القرآن في القلب من راحة واطمئنان، وفي النفس من سعادة وسرور، وإن كان هذا من أعظم ما تحدثه آيات القرآن وكلماته، بل أتحدث عن الثورة التي يحدثها القرآن الكريم في الإنسان ... ثورة تستهدف التغيير الشامل ... تغيير في الأفكار ... فهو يربط الإنسان بفكرة واحدة ... فكرة وجوده على هذه الأرض إعمارًا لها، واستخلافًا فيها، يعبد الله كم أمر، ويطيعه كما ذكر.
ثورة تستهدف القيم الفاسدة والأخلاق الوضيعة، فتبددها بل وتؤسس لقيم نبيلة وأخلاق سامية لا تكون إلا لأهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، روى ابن ماجة عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ:( هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ) وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجة"..
ثورة تستهدف تغييرًا شاملًا في القناعات ... ففكرة الصلاح والإصلاح متأصلة في القرآن، فالمسلم يملك الإرادة الحقة، والقدرة التامة على إصلاح ذاته، وإصلاح مجتمعه، بناء نفسه وبناء الأمة بأسرها، ولكن ليس قبل أن يقف متبتلاً متهجدًا بها آناء الليل وأطراف النهار، قال تعالى: " أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
إنه القرآن الكريم كتاب الله المكنون الذي خاطب به الله نبيه فقال: " كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ" (2) إنه القرآن الكريم هدى لكل ضال، وشفاء من كل مرض، وراحة من كل هم، إنه القرآن الكريم، الرحمة لكل مؤمن، قال الله تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين" يونس: 57
أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه.