رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (54)- نشأة المستشرق (2)

محمود محمد شاكر

  • التصنيفات: اللغة العربية - الشعر والأدب -

كيف يجوز في عقل عاقل أن تكون بعض سنوات قلائل كافية لطالب غريب عن اللغة، وهذه حاله، أن يصبح محيطًا بأسرار اللغة وأساليبها الظاهر والباطنة، وبعجائب تصاريفها التي تجمعت وتداخلت على مر القرون البعيدة في آدابها، وأن يصبح بين عشية وضحاها مؤهلًا للنزول في ميدان المنهج وما قبل المنهج، كيف؟ من أن هذا الشرط صعب عسير على الكثرة الكاثرة من أبناء هذه للغة أنفسهم! كيف يجوز لعقل عاقل؟ هذا، مع أنه أيضًا تعلمها تلقيًا من أعجمي مثله، ولم يخالط أهلها مخالطة طويلة متمادية تتيح له التلقي عنهم تلقيًا يبصره ببعض هذه الأسرار! غاية ما يمكن أن يحوزه المستشرق في 20 أو 30 سنة، وهو مقيم بين أهل لسانه، أن يكون عارفًا معرفة ما بهذه اللغة، وأحسن أحواله عندئذ أن يكون في منزلة طالب عربي في الـ14 من عمره! أي هو في طبقة العوام الذين لا يعتد بأقوالهم أحد في ميدان المنهج و ما قبل المنهج. هذا على أن اللغة نفسها هي وعاء الثقافة، فهما متداخلان، فمحال أن يكون محيطًا بأسرارها، دون أن يكون محيطًا بثقافتها إحاطة تؤهله للتمكن من اللغة، فمن أين يكون المستشرق مؤهلًا لنزول هذا الميدان؟!