(14) سيد قطب مجدد فقه السلف

أبو محمد بن عبد الله

سيد جدَّد العمَل بقاعدة فقه الواقع، والتي غفل عنها كثيرٌ من المتفقهة؛ حين يستجلبون فتاوى ظروف وملابسات معينة، وينزلونها تنزيلا حرفيًّا جامدًا ظاهريًّا على غير مِثْلِ واقعها الذي نزلت فيه أو قيلت فيه، بل آيات وأحاديث ينزلونها حرفيًّا على غير واقعها، من غير نظر ولا اعتبار إلى الواقع الذي نزلت فيه

  • التصنيفات: مذاهب فكرية معاصرة - السياسة الشرعية - أحداث عالمية وقضايا سياسية -

 سبق أن نقلنا كلام الشيخ صالح حفظه الله في أن سيد قطب هو أول من أطلق القول بفقه الواقع، قال: لأن هذه المسألة حادثة، وأول من أطلقها حسب علمي أول من أطلقها في هذا العصر هو سيد قطب في تفسيره في كتابه في ظلال القرآن!

أقول: ثبت أن سيدًا ليس أول من أطلقها، فأول من عمل بها هم الصحابة رضي الله عنهم وإن لم يظهر اسمها واصطلاحها؛ ككل اصطلاحات العلم التي لم تكن جارية، ثم حدثت بعدهم؛ علم العقائد، أصول الفقه، مصطلح الحديث، علم الحديث، البلاغة، والنحو والعروض، وغير ذلك، وكان جيل الصحابة رضي اللهم عنهم هو المقياس في تبديع الحادث بعدهم، فكل هذه الاصطلاحات -إذن- بدعة محدثة، وبعضها لا يمس الفقه فحسب، بل يمس العقيدة، وهو تقسيم التوحيد إلى ألوهية وربوبية وأسماء وصفات، وإذا امتنع التبديع في هذه فهو أولى ألَّا يكون في مسألة فقه الواقع.

ثم رأينا أن ابن القيم رحمه الله، ذكر الاصطلاح نفسه، فسبق سيدًا وغيره إلى ذلك، مصطلحًا ومفهومًا، ومن رأى ذلك خطأً أو بدعة فليتشجع ويرد على ابن القيم نفسه ويُبدِّعه لأن التأصيل الشرعي لا يحابي!

سيد قطب المجدد

وأقول: إن كان سيد قطب هو من قال به في القرن الحديث دون غيره، أو مع قلة غيره، فإنه إذن مجدد لفهم السلف ولعلم السلف ولفقه السلف ولمنهج السلف، وقد نال - في هذا- شرفَ التجديد الذي بشَّر به النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» (الألباني؛ صحيح الجامع، برقم:[1874])، إن سيد قطب رحمه الله مجدد لفقه السلف لا مجرد مردد لكلامهم غير المتعبد بتلاوته، وحروفه، لأننا حين نقول نتبع منهج السلف ليس هو شيء بعد الإسلام، ولا هو اتباع كلامهم وترديد عباراتهم، وكأننا نسنتنسخ التاريخ، وإنما المقصود أن نفكر كتفكيرهم ونفهم على ضوء فهمهم، ونتدرج على طريقتهم ونرتب أولوياتنا على سننهم، إلا ما كان من النصوص التي يُلزمنا الشرع بألفاظها.

فقهٌ لغير واقعِهِ .. يخطئ التنزيلات ويَجُرُّ الويلات

فسيدٌ رحمه الله جدَّد العمَل بقاعدة فقه الواقع السلفية المفهوم، والتي غفل عنها كثيرٌ من المتفقهة؛ حين يستجلبون فتاوى ظروف وملابسات معينة، وينزلونها تنزيلاً حرفيًّا جامدًا ظاهريًّا على غير مِثْلِ واقعها الذي نزلت فيه أو قيلت فيه، بل آيات وأحاديث ينزلونها حرفيًّا على غير واقعها، من غير نظر ولا اعتبار إلى الواقع الذي نزلت فيه! ومن ذلك تنزيل كثيرين منهم نصوصَ طاعة ولاَّة الأمور حرفيًّا على الحكام المعاصرين، فدجَّنوا الأمة، وشرعنوا الباطل! ولا بأس أن يمنع شيحٌ الخروج على الحكام المعاصرين، لا للقربي ولكن لمكان المصلحة والمفسدة، تماما كما منع الله تعالى نبيَّه الخروجَ على أبي جهل بالسيف، وهو ولي أمر مكة عندئذ! {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء:77]

ومن ذلك تنزيل نصوص الخوارج، وفتاوى قيلت فيهم، على من لم يرض بحكم العلمانيين، وجعلوهم خوارج وكلابَ نار، وأفتوْا بقتلهم، وأباحوا دماءهم للحكام العَلمانيين، لأنهم خرجوا على الإمام!! بينما عصموا دماء العَلمانيين.. كل ذلك وهم يقرؤون النصوص، ولكنهم يُنزلونها على غير واقعها؛ فصارت الأمة تتقرب إلى الله بالبراءة من المسلمين، وتدين بالولاء والطاعة للعَلمانيين وأعداء الدِّين! اتِّباعًا لفتاوى بعض (العلماء!)، ولا بأس لأن يمنع شيخٌ الخروج على الحكام ويُخطِّئ الخارجين، لا لأنهم خوارج، ولكن لأنهم في مرحلة: {كُفُّوا أَيْدِيَكُم}، لا أنهم خرجوا على من يستحق الولاية!

ومن ذلك تنزيل نصوص منع الافتئات على ولَّاة الأمور، والذهاب إلى الجهاد -حيث يكون جهادًا صحيحًا لا فتنة أو تخليطًا- يشارك إخوانَه المسلمين تحرير أو طانهم ورقابهم وحماية أعراضهم، بينما وَلِيُّ الأمر هذا هو أول شريك في الحرب على المسلمين والتآمر عليهم، يُلقي بمن يستأذنه في غياهب السجون، وقد سمعت مرة شيخًا كبيرًا مشهورًا، فتاواه سيارة في البَر طيارة في الهواء يقول: على الدولة أن تسمح للشباب بالذهاب إلى فلسطين وإلى الشيشان لتتخلص منهم! ولقلة فقهِهِ دينا وواقعًا أنه لا ينوي نصرة إخوانه في فلسطين والشيشان، وإنما يريد أن يُخَلِّص دولته من الشباب، ولا بأس يُلقي بهم وبمشاكلهم في بلاد أخرى، أمّا عن فقهه للواقع فهو لا يدري أن لإسرائل حدود آمنه، قِوامها ترسانة عربية من ولَّاة أمور وجنود أمة، تحمي عدوها!!

ومن ذلك تنزيل نصوص معاهدات المشركين ومواثيقهم على ما يعقده مَنْ لا ولاية لهم شرعية على الأمة، بل هم وُكَلاء أعدائها عليها، ثم يطبقونها على شباب المسلمين، بينما يغضون الطرف على نواقض العهود والمعاهدات التي يرتكبها المجرمون ضد دينهم ورسولهم، في ازدواجية من التفقُّه الغريب. ولا بأس أيضًا أن يمنع شيخٌ بعض تصرفات شباب المسلمين في بلاد الغرب كالتفجيرات ونحوها، لا لأن فرنسا دولة معاهدة أو جريدة شارلي كذلك، فهم بسخرياتهم وإقرار الدولة لهم يُعدُّون ناقضين لكل ما يمكن أن يثسمى عهودًا، وإنما يمنع المفتون ذلك من باب أنه عمل صغير يجر على المسلمين بلاءً كبيرًا، أو أنه لا يصب في مصلحة الإسلام والممسلمين، لأن أبو جهل سخر برسول الله صلى الله عليه وسلم شخصيًّا، ووضع عليه سلا الجزور (*) وهو يصلي عند الكعبة، ولم يشِر إلى أصحابه باغتياله، لا لأنه معصوم الدم، ولكن لأنَّ لا يكافيء ما قد يسيل من دماء المسلمين وأعراضهم على إثره.

كل تلك الأخطاء الفادحة والتنزيلات البعيدة، تحدث حين يكون عالم الشرع لا يفقه الواقع، ولا يكون على أخطائه شبهةُ حق لما ينطق به من نصِّ مقدس، أعني التلبيس بالنص!

خطأ في النسبة وخطأ في التأصيل

رغم أن سيد قطب لم يتلفظ في "ظلاله" كله، ولا مرة واحدة بعبارة: "فقه الواقع"، وليس أول من أطلق الاصطلاح، كما أنه ليس أول من طرق المفهوم، وإنما له شرف تجديده؛ وهي تُحسَب له وليس عليه. فمن الخطأ نسبة القول إليه أولية، ومن الخطأ أيضًا تبديع فقهيات سلفية وهدم أصلٍ بناه علماء السلف؛ لظننا أن أول من قال بها سيد قطب!

استعمل سيد قطب رحمه الله مصطلَحَين على سبيل المقابلة بينهما، وهما: "فقه الأوراق" و"فقه الحركة"، فما قصده منهما؟ وقبل أن نُعرِّج على قصد سيد قطب منه، وبديع تجديده فيها، وبراعة عرضها، نذكر كلام الشيخ صالح حوله، وكيف فهمها؟ هل فعلا كما زعم الشيخ صالح حفظه الله أم أن الأمر بخلاف ذلك؟!

فقد أفادنا الشيخ صالح حفظه الله في ذلكم الدرس أن سيد قطب قسَّم الفقه إلى قسمين، ودعا إلى فقه الواقع، قال: "هو سيد قطب في تفسيره في كتابه في ظلال القرآن في سورة يوسف فإنه عند قوله تعالى -فيما أذكر ربما أكون نسيت- عند قوله تعالى {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [ يوسف:55]، قسَّم الفقه إلى قسمين:  فقه الأوراق، وفقه الحركة، وقال: إن فقه الحركة مبني على فقه الواقع، ولا بد للحركة -يعني للجماعة الإسلامية المنظمة- أن تعتني بفقه الواقع لأن مبنى حركتها على معرفتها لفقه الواقع".

أقول: أين الخطأ في أن يدعوَ سيد قطب رحمه إلى فقه الواقع، وقد سبقه إليه فطالحة العلماء من السلف فمن بعدهم، وبالسبر لكلام الشيخ الصالح يكون الفقه ثلاثة: فقه الأوراق، فقه الواقع، فقه الحركة.

ثم إن سيد قطب رحمه الله ذكر هذا التقسيم من نوعين فقط، "فقه الأوراق" و"فقه الحركة" في أكثر من موضع، كان أولها عند تفسيره لسورة الأنفال، لما جاء لمسألة الغنائم. وسنأتي إلى توضيح قصده بإذن الله تعالى لاحقًا. ولم يذكر قسم ولا مصطلح "فقه الواقع".

هل سيد قطب يقدم فقه الواقع على الكتاب والسنة؟

وقد أفادنا الشيخ صالح -حفظه الله- أن سيد قطب يعارض بين فقه الورق وفقه الحركة، وأن فقه الورق يقصد يه سيد فقه الكتاب والسنة، وأنه يقدم معرفة فقه الواقع على فقه الكتاب والسنة! قال الشيخ: "وقدّم معرفة فقه الواقع على ما سماه بفقه الأوراق؛ وذلك أنه قال: إن فقه الأوراق -وهو فقه الكتاب والسنة- أنه يحتاج إليه إذا قامت الدولة المسلمة، أما إذا كانت الدولة المسلمة أو الجماعة المسلمة ليس لها سلطة سياسية تحكم فإنه كيف يُعتنى بفقه الأوراق قبل أن تقوم ويكون العناية بفقه الأوراق في فراغ -على حسب تعبيره- في فراغ ليس منزلاً على واقع معين. ثم ركز على الاهتمام بفقه الواقع".

فهل قام سيد قطب يحارب الكتاب والسنة، ويقدم عليها رُؤى الناس، وهو الذي قدَّم رقبته من أجل أن يُقَدَّمَ الكتاب والسنة على قوانين البشر؟! وتقديم أي قول على آية أو حديث هو كفر بالكتاب والسنة، فكيف من قدم شيئًا على الكتاب والسنة كليهما؟!

في مقالتنا القادمة -إن شاء الله- ننظر ما مقصود سيد قطب من "فقه الأوراق" و"فقه الحركة"؟ وهل فعلاً قدَّمه على الكتاب والسنة؟ بل هل يقصد أصلاً بفقه الأوراق فقهَ الكتاب والسنة؟!

ويتبع إن شاء الله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*)- سلا الجزور و(سلى الجزور) هو الجلدة التي يكون فيها ولدها في رحمها وتطرحه مع ولادتها، وهو عند النساء أيضا وكل ولود..

ويحسن الاطلاع على المقالات السابقة من هذه السلسلة المترابطة:

أعلماء عَلمانيون؟! (6): فقيه بالشرع ليس فقيه بالواقع

أَعُلماء عَلمانيون؟! (7): فقه الشرع ليس فقها للواقع

أَعُلماء عَلمانيون؟! (8): فقه الواقع ليس فقه الخواص

أَعلماء عَلمانيون؟! (9): أمية الأمة وفقه الواقع

أَعُلماء عَلمانيون؟! (10): لا فقه واقع ولا فقه حديث!

أَعُلماء عَلمانيون؟! (11): هل الأمة الآن أمية؟!   

أَعلماء عَلمانيون؟! (12): القاعدة الشاطبية وأمِّيَّة الشريعة

أَعُلماء عَلمانيون؟! (13): أول من قال بفقه الواقع

تاريخ النشر: 15 ربيع الآخر 1436 (4‏/2‏/2015)