أَعُلماء عَلمانيون؟! - (13) أول من قال بفقه الواقع!

منذ 2015-02-02

كيف يقال أن أول من قال بفقه الواقع سيد قطب في ظلال القرآن، رغم أنه لم يرد في تفسير سيد قطب (في ظلال القرآن) من أوله إلى آخره، مصطلح "فقه الواقع"، وكيف يقال هو محْدَث وكل محدثة بدعة، وقد ورد عن علماء السلف الذين لا يُشق لهم غبار؟ وأين التثبت في تقرير مسألة هامة وخطيرة مثل هذه؟! وها هي ذي بين أيديكم أيها الفضلاء

لا زلنا نواصل حلقاتنا في موضوع "علمنَة العلم الشرعي، وعلمنة حياة الناس، وتعَلمُن بعض علماء شريعة، بما يُفضي إلى حصر الإسلام في الجوامع والضمائر، وبالتالي فتح المجال للعَلمانية تَسُوس الناس كيف تشاء، وتُكيِّف واقعهم كيف ما تشاء، بل يزيد بعض علماء الشريعة بإضفاء الشرعية على ذلك التعلمن، وإن كان من بعضهم انحرافَ منهجٍ، وبَيْعَ دين، بينما لم يكن مقصودًا من بعضهم الآخر، بل هو منهم اجتهادٌ خاطئ لا يُوافَقون عليه، وتبقى كرامة من يستحق الاحترام محفوظة وأعراضهم مصونه، لأننا لسنا في حاجة إلى أن نتهم أحدًا في دينه، ويكفينا، بل ويجب علينا مناقشة القول وإحقاق الحق فيه.

فنواصل مناقشة الشيخ صالح حفظه الله، وفي هذه الحلقة كلامنا حول قوله: أن مسألة فقه الواقع حادثة، وأن أول من أطلقها هو سيد قطب في ظلال القرآن، وأنه قدَّم فقه الواقع على فقه الكتاب والسنة!! ونحاول أن نناقشها واحدة واحدة:

هل فقه الواقع بدعة؟!

يقول الشيخ حفظه الله عن فقه الواقع: "لأن هذه المسألة حادثة"! هـنا، بل صرح بأنه "بدعة محدثة" وقد أرفقنا المقطع الصوتي هـنا وهنا [1].

هنا يقول الشيخ: هي مسألة حادثة، فأطلق ولم يُقيِّد، بينما ذكر هو نفسه من قبلُ: "أن الصحابي كان يفهم الواقع، وأن فهم الواقع ومعرفته وتصوره، والعلم بالحال لازم للمفتي والقاضي والداعية!" فما أدري ما وجه حدوثها، اللهم إلا التسمية والاصطلاح، وقد علمتَ أنه لا مشاحة في الاصطلاح! بل مصطلح "العقيدة" وتقسيم التوحيد إلى "أُلوهية وربوبية وتوحيد أسماء وصفات" حادث بعد عصر الصحابة، قيل في القرن الرابع! فهل يقتضي حداثة المعنى أيضًا؟

وأكثر اصطلاحات العلم والتقسيمات الفنية جاءت بعد عصر الصحابة والتابعين، فهل هي حادثة بهذا المعنى؟!
وهل حدوثها كان مضرة وبدعة، أم أنه قد رآها بعض العلماء ذات فضل في التقاسيم الفنية التعليمية؟!

وإذا كانت هذه التقاسيم الاصطلاحية مُضرة فإن أضرَّها على الإطلاق تقسيم الفقه أو الأحكام الشرعية إلى: عبادات ومعاملات!!

فإن جنايته على الشريعة كبيرة، حيث أدَّى إلى ترسيخ (العزل العَلماني) معاملات الناس عن أن تكون في حسهم عبادة يجب أن يتحرَّوْا فيها الشريعة، وأن يتقربوا بامتثالها إلى الله ويحتسبوا الأجر فيها كما يحتسبونه في الصلاة والصيام! وأنهم يمكن أن يخرجوا من الدين إذا رفضوا التحاكم فيها إلى شريعة الله تعالى.

بل اعتمد عليها بعض العَلمانيين في إخراج الدين والشريعة من حياة الناس وحصره في المساجد؛ باعتبار أنها معاملات شخصية مباحة وليست عبادات! على سنن الكفار الأولين حين قالوا: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87]، وهي سابقة في العَلمانية.

ومع كل ذلك لا نرى العلماء يدندنون حول حداثة هذا المصطلح وهذا التقسيم بعد عصر الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ولا أنهم يدندنون حول الفهم الخطأ للناس، وإنما بعضهم يجتهد في توسيع مفهوم العبادة ليستدرك ما خلَّفه الاصطلاح والتقسيم الفني من عَلمنة المعاملات!

ولعلنا أطلنا النفس في المقالات السابقة في بيان نتائج ومآلات هذا القول، فلا نعيده.

الشيخ صالح وسيد قطب وفقه الواقع:

قول الشيخ حفظه الله: "وأول من أطلقها حسب علمي أول من أطلقها في هذا العصر هو سيد قطب.."!

قلتُ: لم يَنَلْ سيدُ قطب شرفَ السَّبْقِ إليها، وليس هو أول من قال بها، وهذه عجيبة أخرى من الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله!

فإنه قرر مِن قبل فهم الصحابي للواقع، ومعلوم أن الصحابة كلهم سبقوا سيد قطب بأكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان، فإن قال بها سيد قطب فهو من اِتِّباعه للسلف الصالح الذين سبقوه بها، أو هو موافق لهم فيها؛ فما العتب -إذن- وأين أَوَّلِيَّة سيد قطب فيها؟! فهو -إذن- هو السلفي في هذا، لا مَن ردُّوا عليه أو بدَّعوه بها.

ثم إنه لم يرد في تفسير سيد قطب "في ظلال القرآن" من أوله إلى آخره، مصطلح "فقه الواقع"، فكيف يقال بأنه أول من أطلقه في الظلال، وأين التثبت في تقرير مسألة هامة وخطيرة مثل هذه؟! وستتبَّن لك خطورتها وأهميتها من خلال كلام ابن القيم رحمه الله قريبًا. إذن أول من عمل بها هم السلف الصالح، ويكفي نسبتها لابن عباس رضي الله عنهما كما سبق.

ثم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله سابق لسيد قطب رحمه الله وهو الذي نبَّه عليها وأدرجها في مسائله في كتابه القيم، فقال الشيخ ابن عبد الوهاب: "وفيه فهم الصحابي للواقع"، وقد مرَّ عليها الشيخ صالح في شرحه له، وفي هذه المحاضرة بالذات، وبنى عليها ضرورة فهم الواقع، فكيف ينسبها إلى سيد قطب؟!

مرتكز التبديع!

أما تبديع فقه الواقع لكونه لم يرد الجمع عند السلف بين كلمتي "فقه" و"الواقع" فأمرٌ يحتاج إلى تأصيل، بل هو خلاف الأصل، لأن البدعة ما أُحدث على غير مثال سابق فيما من شأنه التوقيف كالعبادات، أما ما يتعلق بالاصطلاحات فلا تبديع فيه، وكون العلماء السابقين قالوا به أو لم يقولوا به ليس مقياسا في التبديع، لأنه يقال للعلماء فيما قالوه مما لم يقله الصحابة أنهم أيضا أحدثوا في الدين، لأنهم ليس لهم الحق في الإضافات "الدينية"، وإنما ذلك من شأن المرفوع من الحديث النبوي أو ما كان له "حكم المرفوع" من أقوال الصحابة، لأنهم عدولٌ لا يبتدعون. وكُلٌّ بعدهم تحت سقف "مَن سلفك في هذا؟"، وكما قال الإمام أحمد رحمه الله: "إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام"، ومع ذلك نجد علماء السلف قالوا بفقه الواقع، ولم ينكره أحد من العلماء منذ نحو ثمانية قرون، فقد قال به ابن القيم باللفظ، أكان مبدعًا في الدين؟! فالذي لا نجد له إمامًا سابقًا هنا هو القول ببدعية فقه الواقع! والتبديع كما يكون في الفعل يكون في الترك.

ابن القيم وفقه الواقع

الإمام ابن القيم، قبل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقبل سيد قطب رحمهم الله جميعًا، فإن كانت هذه محدثة فقد وقع فيها ابن القيم رحمه الله، وفي كتاب من أشهر كتبه، فكان الأولى الرد عليه هو أولا!

 يقول ابن القيم: "ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:

أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا.

والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان قوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يُعدَم أجرين أو أجرًا؛ فالعالِم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه، وكما توصل سليمان صلى الله عليه وسلم بقوله: "ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما" إلى معرفة عين الأم، وكما توصل أمير المؤمنين علي عليه السلام بقوله للمرأة التي حملت كتاب حاطب ما أنكرته لَتُخْرِجَنَّ الكتابَ أو لأُجَرِّدَنَّك إلى استخراج الكتاب منها.." (إعلام الموقعين: [1/ 69]).

ومعلوم أن ابن القيم رحمه الله أسبق من سيد قطب زمنا بأكثر من سبعة قرون! فأنا في عجبٍ من قول الشيخ صالح حفظه الله، في أن أول من أطلق فقه الواقع هو سيد قطب، وفي عجب آخر من عدم اطِّلاعه على سَبْق ابن القيم رحمه الله في هذا الأمر، حتى في التسمية والاصطلاح، بفقه الواقع حيث قال: "فهم الواقع والفقه فيه"، "معرفة الواقع والتفقه فيه" حتى باللفظ والاصطلاح. أضف إلى عجبي من أنه قرر "فقه الصحابي للواقع" ثم بدَّعه.

إذن أخطأ الشيخ -غفر الله لنا وله- في نسبة ابتداء القول إلى غير قائله، وأكثر منه خطأ عندما اعتبره من المحدثات وهي ضلالات، وأشنع ما ترتب على ذلك عزوف قطاع كبير من شباب أهل السنة وطلاب العلم عن فقه واقعهم، تقليدًا لبعض المشايخ، بل كان ذلك من أسباب تصنيف الناس وتحزيبهم، وتَفرُّقِهِم شيعًا، عاد على الدعوة والأمة بالضرر.

وعادةُ كثير من الشباب أنهم يأخذون بالشخصنة العلمية، أعني يعكسون مقولة الإمام علي رضي الله عنه حين يقول: "اعرف الحق تعرف أهله"، فهم يعرفون الرجال، فيكون ما يقولونه حقًّا، ولو لم يُقدِّموا عليه دليلاً، ويعرفون آخرين فيكون ما يقولون خطأ؛ ولو كان حقًّا أبلجَ! وهو من التعلق المذموم والتقليد المرفوض.

وبعض الشباب حاربوا فقه الواقع وبدَّعوه وبدَّعوا القائل به، لظنهم أن السابق به وإليه سيد قطب وأمثاله! ولو علموا أن السابق به وإليه أمثال ابن القيم لما وقعوا فيما وقعوا فيه، ولما زهدوا وزهَّدوا في ركن ركين لحصول فقه صحيح في الدين!

وهذه أيضًا استغربتها من الشيخ -حفظه الله- ألَّا يكون على اطِّلاعٍ من ذلك، خاصة أن كتاب ابن القيم هذا -إعلام الموقعين عن رب العالمين- لا يكاد يوجد عالم لم يقرأه، وكيف أن الشيخ يفتي في فقه هو أصلاً لا يرى الاعتناء به واجبًا على العلماء، ومن ثم لا يكون مطِّلعًا على تأصيله وتاريخه! ثم يفصل فيه ويؤصل!

ويُتبع بأخرى إن شاء الله تعالى

ــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] شرح مسائل الجاهلية، الشريط الثاني، الدقيقة: الرابعة بعد الساعة.

كما يمكن مراجعة المقالات السابقة، فهو موضوع واحد متسلسل، وهذه روابطها:

أعلماء عَلمانيون؟! (6): فقيه بالشرع ليس فقيه بالواقع

أَعُلماء عَلمانيون؟! (7): فقه الشرع ليس فقها للواقع

أَعَلمانيون؟! (8): فقه الواقع ليس فقه الخواص

أَعلماء عَلمانيون؟! (9): أمية الأمة وفقه الواقع

أَعُلماء عَلمانيون؟! (10): لا فقه واقع ولا فقه حديث!

أَعُلماء عَلمانيون؟! (11): هل الأمة الآن أمية؟!   

أَعلماء عَلمانيون؟! (12): القاعدة الشاطبية وأمِّيَّة الشريعة

 

تاريخ النشر: 13 ربيع الآخر 1436 (2‏/2‏/2015)

 

أبو محمد بن عبد الله

باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.

  • 1
  • 0
  • 10,116
المقال السابق
(12) القاعدة الشاطبية وأمِّيَّة الشريعة
المقال التالي
(14) سيد قطب مجدد فقه السلف

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً