الظن بالله تعالى (2)
أبو محمد بن عبد الله
في كل زمان يوجد من الناس من يظن السوء بالله؛ في أمره القدري فيعترضون على قضائه وقدرة، وفي أمره الشرعي..
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية - الدعوة إلى الله - قضايا إسلامية معاصرة -
حسن الظن بالله تعالى واجب، فيما يتصف به من صفات الجلال والجمال والكمال، وفيما قضى كونا وقدَّر من حادثات الليالي ونائبات الدهور، وحسن الظن بالله تعالى فيما قضى شرعًا وحكم به لعباده في قرآنه الكريم وعلى ألسنة رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام كل ذلك واجب، لا يحتاج إلى تبرير ولا تقرير، وواأسفاه يوجد من يسيء الظن بالله تعالى، {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون}[الأعراف: 58].
الظن بالله سبحانه في تشريعه وتقديره:
هما نوعان من الظن يصدران من العبيد، ظنٌّ حسن طيب، وظن سئي خبيث، ولكلٍّ جزاء ظنَّه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي»[البخاري، رقم:[7405]، ومسلم، رقم:[2675] في صحيحهما).
ظن الــــذي خَبُثَ
وقد بين لنا الله تعالى حال أهل الظن السيئ- ظن الجاهلية- وبيَّن صفاتهم وفيه إشارة لحال أهل الإيمان الذين يحسنون الظن بالله تعالى، فبضدها تتبين الأشياء، قال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[آل عمران154]، فهؤلاء يظنون بالله تعالى غير الحق ظن الجاهلية، ففيم تمثل هذا الظن السيئ؟
إنهم يريدون أن يكون لهم من أمر الله شيء ولا يريدونه كله لله تعالى: {قل إن الأمر كله لله} مؤكَّدٌ بأداة النصب والتوكيد "إن" وبالبدل أو "كله".
قال ابن القيم-رحمه الله-: "إنه تداركهم سبحانه برحمته وخفف عنهم ذلك الغم وغيَّبَه عنهم بالنعاس الذي أنزله عليهم أمنا منه ورحمة، والنعاس في الحرب علامة النصرة والأمن كما أنزله عليهم يوم بدر وأخبر أن من لم يصبه ذلك النعاس فهو ممن أهمته نفسه لا دينه ولا نبيه ولا أصحابه وأنهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله بأنه سبحانه لا ينصر رسوله وأن أمره سيضمحل وأنه يسلمه للقتل، وقد فسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره ولا حكمه له فيه، ففسر بإنكار الحكمة وإنكار القدر وإنكار أن يتم أمر رسوله ويظهره على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون والمشركات به سبحانه وتعالى في سورة الفتح حيث يقول: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[زاد المعاد:3/ 199].
إن من سوء الظن بالله فضلا عن سوء التقدير أن يَقترح أَحَدٌ على الله شيئا في شرعٍ أو قدَرٍ، ومن سوء الظن به-تعالى- أن يُعترض عليه سبحانه في شيء من ذلك، لأن سوء الظن هذا مقتضى الطعن أو التشكيك في أهلية الله تعالى لذلك التشريع أو التقدير وعدم الإيمان الكامل بتنزيه الله تعالى عن الظلم والحيف، وعدم وصفه بالعلم الشامل والقدرة الكاملة والحكمة التامة والرحمة العامة، فكأن أهل سوء الظن هذا يتهمون الله تعالى بنقصٍ في صفات مَن تكون له الألوهية والربوبية، وهم وإن لم تصرح بها أقوالهم فقد كرَّستها فِعالُهم، وهاك هذه الآيات التي تبين تبَاين فريقين من الناس في ظنهم بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فريق المنافقين الذين في قلوبهم مرض، وفريق المؤمنين السالمة قلوبهم. كما قال الله تعالى :{لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}[النور: 46-52].
فانظر – يا رعاك الله- حال المنافقين الذين يظنون سوءا في عدالة الله تعالى ولذلك تجدهم يترجمون هذا الظن السيئ إلى سلوك مشين يتمثل في التولي- بعد إعلان الإيمان باللسان- ويتمثل في الإعراض عن التحاكم إلى شريعة الله تعالى, وتراهم يجعلون أمر الله عِضين يتخيرون منه ما يرون لهم فيه حق ومصلحة، ويردُّون ما لا يوافق أهواءهم, يَحْدُوهم في ذلك ويدفعُهم إليه سوءُ ظنهم في الله تعالى ورسولِهِ صلى الله عليه وسلم المتمثل في خوف الحيف الذي هو الظلم وعدم العدالة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا, وحاشا رسوله-صلى الله عليه وسلم- أن حيف أو يظلم.. هذا فريق المنافقين.
والبلد الطيب
أما فريق المؤمنين حقًّا فلحسن ظنهم بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم قابلوا دعوة الحق بالقَبول والتسليم وترجموا ذلك بالاتِّباع والتحكيم، وكلهم إيمان واطمئنان بأن الله تعالى لا يظلمهم ولا يحيف عليهم في شيء، وأن ما حكم الله به -سبحانه- ورسوله- صلى الله عليه وسلم- نابع عن علم تام وحكمة بالغة، وأنه كله خير حتى ولو بدا لِقُصَّر النظر أنه غير ذلك. بل إنهم لثقتهم في الله وحسن ظنهم به، يزدادون يقينًا كلما اشتد بهم الأمر: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}[الأحزاب:22]
كذلك يظن أهل النكد السوءَ في قدر الله تعالى، وأنهم لو بقوا مكانهم لم يموتوا ولم يقتلوا، وهذا من أسوأ الظن بالله تعالى وبقدره وقضائه أن يُظَنَّ أنه يقع في كونه ما لا يشاء، ويحدث ما لم يقدّر، أو أن الحذر يطيل العمر أو ينجي من المقدَّر, ولذلك أجابهم الله تعالى هنا: " {قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} فمضجعك الذي تُضْجَعْهُ لا بد لك أن تزوره وتبرز إليه وتقودك إليه خطاك وتحملك إليه قدماك وإن حاذرت أو تأبَّيت! وقد قال النبي-صلى الله عليه وسلم: « رَ» (الإمام أحمد، الميند، رقم:[21587]). ويقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أي يومي من الموت أفر*** يوم لا يقدر أم يوم قُدر
يوم لا يقدر لا أرهبه*** ومن المقدور لا نجي الحذر
وفي كل زمان يوجد من يسيء الظن بالله تعالى على هذا النحو فيقعد عن نصرة دينه والدعوة إلى الله وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ظنا منه أن ذلك يهلكه أو يذهب برزقه أو يدني أجله, فيختفي أو يتواري ضنا بنفسه التي أهمته وأشغلته حتى دار في فلكها؛ فهل يصدر شيء من هذا ممن يحسِّن الظن بالله تعالى وبقدره وقضائه؟!
لولا المشقة ساد الناس كلهم *** الجود يُفقر والإقدام قتَّال
وفي كل زمان يوجد من الناس من يظن السوء بالله في أمره القدري فيعترضون على قضائه وقدرة، وفي أمره الشرعي، وفيما كلف به عباده وفيما شرعه لهم من دين قويم وشريعة محكمة، فتجدهم يعترضون على هذا العمل بشتى الاعتراضات، وتراهم يردون ذلك الحكم أو الحد، ويتلكئون في تطبيق شريعته على أنفسهم وعلى من يعولون أو يحكمون، أو تراهم يلوون أعناق النصوص ويتعسفون في ذلك لتوافق أهواءهم ويجعلون شيئا من الأمر لهم بهذه الطريقة... كأنهم أعلم من الله -سبحانه وتعالى علوا كبيرا عما يقولون ويفعلون ويصفون– وكأنهم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله صلى الله عليه وسلم-، فهذا يناقش في الحجاب وذاك في الاختلاط وثالث في التعدد ورابع في الربا وخامس في الجهاد وآخر في الولاء والبراء وآخَر في آخَر.. كل ذلك سببه سوء الظن بالله تعالى وإن سمَّوه ما سمَّوه. فهل يصدر شيء من هذا ممن يحسِّن الظن بالله تعالى وبقضائه كونًا وشرعًا؟!
وهكذا الظن الحسن في كل صفات الله العلى وأسمائه الحسنى، وأنها ذات آثار على حياتنا، يجب أن نتأملها ونتملَّاها، فنحسن الظن أن الله معنا؛ يسمع كلامنا ودعاءنا ويرى مكاننا، ويعلم حاجتنا، وأنه القاهر فوق عباده وناصر حزبه ومؤيدهم، وأنه قاهر عدوه وعدوهم، ومذلهم، وأنه الرزاق، فلا نبتغي زقنا عند غره، وأنه المحيي المميت، فلا نخاف موتًا لم يقضِهِ ولا أجلا لم يؤجِّله... فالظن بالله تعالى يشمل هذا كلَّه.
اللهم ارزقنا حسن الظن في قدرك وقضائك، ووعدك ونصرك ومعونتك.
سبق من سلسلة الظن، المقالات:
الظَّنّ.. حسنٌ وسيِّئ