بضاعتنا ردت إلينا

منذ 2012-05-05

دولة القانون هي الدولة التي لا ينبع القانون فيها من الحاكم، بل هناك جهة علوية سيادية هي التي تنبثق منها القوانين، والتي تكون حاكمة ومهيمنة على الحاكم والمحكوم، فيصبح كلاهما تحت مظلة القانون سواء في الحقوق والواجبات.


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

فدولة القانون هي الدولة التي لا ينبع القانون فيها من الحاكم، بل هناك جهة علوية سيادية هي التي تنبثق منها القوانين، والتي تكون حاكمة ومهيمنة على الحاكم والمحكوم، فيصبح كلاهما تحت مظلة القانون سواء في الحقوق والواجبات.

وأما علاقة الحاكم بالمحكوم: فينظمها عقد اجتماعي يوصِّف موقع الحاكم على أنه وكيل عن المحكومين للقيام بمهام معينة يحددها هذا العقد، فلا هو ملِك عليهم ولا هو ديكتاتور، وما منصبه بمنصب تشريف، بل هو موظف في الدولة بعقد أشبه بالوكالة، ليقوم بمهام يخوله الشعب إياها، ويعاونه على أدائها، ويقوم بمراقبة مهمته، فإن أخل بأحد شروط العقد أو بنوده يساءَل ويُحاسب كأي فرد في الدولة.

هذا مِن أعظم ما استقر عليه فكر السياسة الغربية بعد تجارب دامت آلاف السنين منذ نشأة فكرة الديمقراطية عند اليونان حتى وصلت لهذه الصورة التي هي بميزان العقلاء أقرب للعدل والحسن، ولا عجب أن يطالب مَن يريدون صلاح البلاد وعودتها لموضع الريادة والمنافسة مع الدول المتقدمة... لا عجب أن يطالبوا بإعمال هذه المبادئ، وأن تقام مصر الحديثة على أساسها.

نقطة نظام: لا نريد أن نخرج من ذل تبعية المعونة واتخاذ القرارات التي كان لا بد وأن توزن بميزان مصلحة "الملأ" -في العهد البائد- إلى تبعية من نوع جديد... تبعية فكرية معنوية، ومِن ثَمَّ هزيمة نفسية، بأن يظل الغرب هو قدوتنا، وهو مَن يقدِّم لنا حل ما نحن فيه، فإن رمنا تقدمًا كان هو المثال المحتذى!

ولا أقصد عدم الاستفادة مِن علوم وتجارب الآخرين، فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها، ولكننا عندنا في ثقافتنا وتراثنا مِن الدرر التي تحتاج فقط لمن ينقب عنها، ويحسن عرضها بأسلوب عصري، فقد كفينا، بل لن أخالف الصدق إن قلتُ: إن الغرب ما وصل لأفضل ما عنده إلا بعد ما احتك بالشعوب المسلمة وما لديهم من تراث الفقه السياسي، حتى يقول "هنري لاوست" المستشرق الفرنسي عن كتاب (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) لشيخ الإسلام ابن تيمية: "إن هذا الكتاب الجليل لهو أحد الآثار الإسلامية الكبرى في القانون الدولي".

وإن بحثنا عن ضالتنا وجدنا "قانون المسلمين" هو أحكام شريعتهم المستمدة من الجهة السيادية الوحيدة عندهم، وهي دستورهم -القرآن والسنة-، وصاحب هذا التشريع هو مالك الملك، وخالق البشر {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [يوسف:40]، فجهة التشريع منفصلة تمامًا عن أي أحد من حاكم أو محكوم، وأما العلماء والفقهاء والقضاة فإنما هم مستخرجون لهذه الأحكام بأدلتها من هذا الدستور.

والحاكم والمحكوم تحت مظلة الشريعة سواء، بل حتى مَن نال شرف إبلاغ هذا التشريع من رب العالمين إلينا هو كذلك سواء بسواء -صلى الله عليه وسلم-، مما حدا بالمصنفين في علم أصول الفقه لعقد فصل عنوانه: "الحاكم هو الله" أي: المشرع هو الله، لدفع إيهام رفع النبي -صلى الله عليه وسلم- فوق منزلته البشرية، حتى وإن كانت سنته هي أحد الدليلين مع كتاب الله، ولكنها ما هي إلا بلاغ عن الله، وأما عند الحكم والقضاء فهو فرد من المسلمين، لذا لما شفع عنده أسامة بن زيد رضي الله عنهما، لئلا يقيم الحد على المرأة المخزومية في سرقة ثبتت أركانها، قال صلى الله عليه وسلم: «وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا» (متفق عليه)، واستعمل لفظًا دقيقًا للتنبيه بالأعلى على الأدنى، فهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورئيس الدولة، ورغم ذلك يقول: «فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ»، ولم يقل: بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال: «لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا»، ولم يقل: لقطع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدها، تنبيهًا على توصيف وظيفة الحاكم عند المسلمين.

وعلى هذا سار خلفاؤه رضي الله عنهم... حتى إن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب أصاب حدًا في خلافة أبيه، وكان في مصر، فأراد واليها -عمرو بن العاص- إقامة العدل فيه، لكن أخذته به رقة، فأقام عليه العقوبة في داره في خفاء من الناس فهو ابن أمير المؤمنين، فبعث إليه عمر بن الخطاب، وكاد أن يعزله وأمره بإرسال ابنه إليه بالمدينة، فأعاد إقامة العقوبة عليه على مرأى ومسمع من الناس، ليعلم الجميع أن الكل تحت القانون "حكم الشرع" سواء، والأمثلة من تاريخنا لا تحصى كثرة، وإنما تلك إشارة لبعض ما لدينا من اللآلئ والدرر، لذا أقول: "ارفع رأسك فأنت مسلم... هذه بضاعتنا ردت إلينا".


محمد إسماعيل أبو جميل

30 - جماد أول - 1433 هـ - 21 - إبريل - 2012 م